خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ
٥١
وَقَالُوۤاْ آمَنَّا بِهِ وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ
٥٢
وَقَدْ كَـفَرُواْ بِهِ مِن قَـبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِٱلْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ
٥٣
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ
٥٤
-سبأ

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ } قال قتادة: عند البعث حتى يخرجوا من قبورهم "فَلاَ فَوْتَ" أي فلا تَفُوتُونِي كقوله: { وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } [ص:3] وقيل: إذْ فَرِعُوا عند الموت فلا نجاةَ و"لَوْ تَرَى" جوابه محذوف؛ أي (جوابه) ترى عجباً.
قوله: "فَلاَ فَوْتَ" العامة على بنائه على الفتح و"أُخِذُوا" فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول معطوفاً على "فَزِعُوا".
وقيل: على معنى: "فَلاَ فَوْتَ" أي فلم يفوتوا وأخذوا وقرأ عبد الرحمن مولى هاشم، وطلحةُ فَلاَ فَوْتٌ وأَخْذٌ مرفوعين منونين، وأُبَيّ يفتح "فوت"، ورفع "أخذ"، فرفع "فوت" على الابتداء أو على اسم لا الليسية، ومن رفع "وأخذ" رفعه بالابتداء والخبر محذوف أي وأَخْذٌ هناك أو على خبر ابتداء مضمر أي وَحالُهُمْ أَخْذٌ. ويكون من عطف الجمل مثبتةً على منفيةٍ.
قوله: { وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } قال الكلبي: من تحت أقدامهم. وقيل: أخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها. وحيث ما كانوا فهُمْ مِنَ الله قريب لا يفوتونه. وقيل: من مكان قريب يعني عذاب الدنيا. قال الضحاك: هو يوم بَدْر. وقال ابنُ أبْزَى: خَسْفٌ بالبيداء. وجواب "لَوْ تَرَى" محذوف أي لَرَأَيْتَ أَمْراً يُعْتَبَرُ بِهِ.
قوله: { وَقَالُوۤاْ آمَنَّا بِه } أي عند اليأس. والضمير في "به" لله أو للرسول، أو للقرآن أو للعذاب أو للبعث و"أَنِّى لَهُمْ" أي من أين لهم أي كيف يقدرون على الظَّفَرِ بالمطلوب وذلك لا يكون إلاَّ من الدنيا وهم في الآخرة والدنيا من الآخرة بعيدة.
فإن قيل: فكيف قال في كثير من المواضع: إنَّ الآخِرَةَ من الدنيا قريبة وسمى الله الساعة قريبة فقال:
{ { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ } [القمر:1] { { ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } [الأنبياء:1] { { لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ } [الشورى:17].
فالجواب: أن الماضي كالأمس الدابر وهو أبعد ما يكون؛ إذ لا وصولَ إليه والمستقبل وإن كان بينه وبين الحاضر سنين فإنه آتٍ فيوم القيامة الدنيا بعيدة منه لمضيِّها ويوم القيامة في الدنيا قريب لإتيانه.
قوله: "التَّنَاوُشُ" مبتدأ و "أنَّى" خَبَرهُ، أي كيف لهم التناوش و "لَهُم" حال، ويجوز أن يكون "لهم" رافعاً للتناوش لاعتماده على الاستفهام تقديره كيف استقر لهم التناوش؟ وفيه بعد، والتناوش مهموز في قراءة الأخوين وأبي عمرو، وأبي بكر وبالواو في قراءة غيرهم، فيحتمل أن يكونا مادتين مستقلتين مع اتّحاد معناهما، وقيل: الهمزة عن الواو لانضمامها كوُجُوهٍ وأُجُوه، ووُقّتت وأُقِّتَتْ وإليه ذهب جماعة كثيرةٌ كالزَّجّاج والزَّمخْشَري وابن عطية والحَوْفي وأبي البقاء قال الزجاج: كل واو مضمومة ضمة لازمة فأنت فيها بالخيار، وتابعه الباقون قريباً من عبارته. وردَّ أبو حيانَ هذا الإطلاق وقيده بأنه لا بدّ أن تكون الواو غير مدغم فيها تحرزاً من التعوذ وأن تكون غير مصححة في الفعل فإنها متى صحت في الفعل لم تبدل همزة نحو: تَرَهْوَكَ تَرَهْوُكاً، وتَعَاوَنَ تَعَاوُناً. وهذا القيد الآخر يبطل قولهم لأنها صحت في: "تَنَاوَشَ يَتَنَاوَشُ"، ومتى سلم له هذان القيدان أو الأخير منهما ثَبَتَ رده. والتَّنَاوُشُ الرجوعُ، قال:

4143- تَمَنَّى أَنْ تَئُوبَ إلَيَّ مَيٌّ وَلَيْسَ إلى تَنَاوُشِهَا سَبِيلُ

أي إلى رجوعها. وقيل: هو التناول يقال: نَاشَ كذا أي تَنَاوَلَهُ ومنه تَنَاوشَ القَوْمُ بالسِّلاح كقوله:

4144- ظَلَّتْ سُيُوفُ بَنِي أبِيهِ تَنُوشُهُ لِلَّهِ أَرْحَامٌ هُنَاكَ تَشَقَّقُ

وقال آخر:

4145- وهي تَنُوشُ الْحَوْضَ نَوْشاً مِنْ عَلاَ نَوْشاً به تقطَع أجْوَازَ الفَلاَ

وفرق بعضهم بين المهموز وغيره فجعل المهموز بمعنى التأخير. وقال الفراء: من نَأَشْتُ أي تَأَخَّرْتُ. وأنشد:

4146- تَمَنَّى نَئِيشاً أَنْ يَكُونَ مُطَاعُنَا وَقَدْ حَدَثَتْ بَعْدَ الأُمُورِ أُمُورُ

وقال آخر:

4147- قَعَدْتَ زَمَاناً عَنْ طِلاَبِكَ لْلعُلاَ وَجِئْتَ نَئِيشاً بَعْدَ مَا فَاتَكَ الخَيْرُ

وقال الفراء أيضاً: هما متقاربان يعني الهمزة وتركها مثل ذِمْتُ الشيء وذَأَمْتُهُ أي عِبْتُهُ وانْتَاشَ انِتْيَاشاً كَتَنَاوَشَ وقال:

4148- كَانَتْ تَنُوشُ العنق انْتِيَاشا

وهذا مصدر على غير المصدر، و "مِنْ مَكانٍ" متعلق بالتَّنَاوُشِ.
فصل
المعنى كيف لهم تناول ما بعد وهم الإيمان والتوبة وقد كان قريباً في الدنيا فضيّعوه وهذا على قراءة من لم يهمز وأما من همز فقيل معناه هذا أيضاً. وقيل: التناوش بالهمز من النَّيْشِ وهي حركة في إبطاء، يقال: جاء نيْشاً أي مُبْطِئاً متأخراً والمعنى من أي لهم الحركة فيما لا حيلة لهم فيه.
قال ابن عباس: يسألون الرد فيقال: وأنَّى لهم الردُّ إلى الدنيا "من مكان بعيد" أي من الآخرة إلى الدنيا.
قوله: { وَقَدْ كَـفَرُواْ بِهِ } جملة حالية. وقوله "به" أي بالقرآن. وقيل: بالله أو محمد - عليه (الصلاة و) السلام -.
وقيل: بالعذاب أو البعث. و "من قبل" أي من قبل نزول العذاب. وقيل: من قبل أن عاينوا أهوال القيامة، ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة والأول أظهر.
قوله: "وَيُقْذَفُونَ" يجوز فيها الاستئنافُ والحال، وفيه بعد. عكس الأول لدخول الواو على مضارع مثبت. وقرأ أبو حيوة ومجاهد ومحبوب عن أبي عمرو: ويُقْذَفُونَ مبنياً للمفعول أي يُرْجَمُونَ بما يسوؤهُمْ من جزاء أعمالهم من حيث لا يحْتسبون.
فصل
ويقذفون قال مجاهد: يرمون محمداً صلى الله عليه وسلم بالظن لا باليقين وهو قولهم: ساحرٌ وشاعرٌ وكاهنٌ. ومعنى الغيب هو الظن لأنه غاب علمه عنهم والمكان البعيد بعدهم عن علم ما يقولون والمعنى يَرْمُونَ محمداً بما لا يعلمون من حيث لايعلمون.
وقال قتادة: "أي يرجمون بالظن يقولون لا بعثَ ولا جنةَ ولانَارَ".
قوله: { وَحِيَل } تقدم في الإشمام والكسر أول البقرة. والقائم مقام الفاعل ضمير المصدر أي وحيل هو أي الحَوْلُ ولا تقدره مصدراً مؤكداً بل مختصاً حتى يصح قيامه، وجعل الحَوْفيُّ القائم مقام الفاعل "بينهم". واعترض عليه بأنه كان ينبغي أن يرفع. وأجيب عنهُ بأنه إنما بني على الفتح لإضافته إلى غير متمكِّن. ورده أبو حيان بأنه لا يبنى المضاف إلى غير متمكن مطلقاً، فلا يجوز: قاَمَ غُلاَمَكَ ولا مَرَرْتُ بِغُلاَمكَ بالفتح. قال شهاب الدين: وقد تقدم في قوله:
{ { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [الأنعام:94] ما يغني عن إعادته. ثم قال أبو حيان: وما يقول قائل ذلك في قول الشاعر:

4149-...................... وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الْعَيْرِ والنَّزَوَانِ

فإنه نصب "بين" مضافة إلى معرب. وخُرِّجَ أيضاً على ذلك قول الآخر:

4150- وَقَالَتْ مَتَى يُبْخَلْ عَلَيْكَ وَيُعْتَلَلْ يَسُؤْكَ (وَ) إنْ يُكْشَفْ غَرَامُكَ تَدْرَبِ

أي يتعلل هو أي الاعتلال.
قوله: { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } يعني الإيمان والتوبة والرجوع إلى الدنيا.
وقيل: نعيم الدنيا وزهرتها، { كَمَا فُعِلَ بأَشْيَاعِهِمْ } بنظرائهم ومن كان (على) مثل حالهم من الكفار. "مِنْ قَبْلُ" لم يقبل منهم الإيمان في وقت اليأس { إنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ } من البعث ونزول العذاب بهم، و"مِنْ قَبْلُ" متعلق "بفُعِلَ" أو "بأَشْيَاعِهِمْ" أي (الذين) شايعوهم قبل ذلك الحين.
قوله: "مُرِيب" قد تقدم أنه اسم فاعل من أَرابَ أي أتى بالريب أو دخل فيه وأَرَبْتُهُ أوْقَعْتُهُ في الرَّيْبِ. ونسبة الإرابة إلى الشك مجازاً.
وقال الزمخشري هنا إلا أن ههنا فُرَيْقاً وهو أن المريب من المتعدي منقول من صحاب الشك إلى الشك كما تقول شعر شاعر.... وهي عبارة حسنة مفيدة وأين هذا من قول بعضهم ويجوز أن يكون أردفه على الشك ليناسق آخر الآية بالتي قبلها من مكان قريب. وقول ابن عطية الشك المريب: أقوى ما يكون من الشك وأشدُّه، وتقدم تحقيق الريب أول البقرة، وتشينع الراغب على من يفسره بالشكّ، والله أعلم.
روى أو أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
"مَنْ قَرَأَ سُوَرةَ سَبَأٍ لَمْ يَبْقَ نَبِيُّ وَلاَ رَسُولٌ إلاَّ كَانَ لَهُ رفيقاً وَمُصَافِحاً" .
(صدق نبي الله وحَبِيبُ الله - صلى الله عليه وسلم -).