خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ
٦
ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
٧
أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ
٨
وَٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ
٩
-فاطر

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ } لما قال تعالى: { { وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ } [فاطر:5] يمنع العاقل من الاغترار وقال: { ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًّا }، ولا تسمعوا قوله. وقوله: "فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا" أي اعملوا ما يسوؤه وهو العمل الصالح. ثم قال: { إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ } أي أشياعه { لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ }. (و) في الآية إشارة إلى معنى لطيف وهو أن من يكون له عدو فإما أنْ يُعَادِيَه مجازاةً له وإما أن يُرْضيه فلما قال تعالى: { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ } أمرهم بالعداوة وأَشَارَ إلى أن الطريق ليس إلا هذا. وأما الإرضاء فلا فائدة فيه لأنكم إنْ أَرْضَيْتمُوهُ واتَّبعتُمُوهُ فهو لا يؤدِّيكم إلا إلى السعير.
واعلم أن من علم أن له عدواً لا مهرب له منه وجزم بذلك فإنه يقف له ويصير معه على قتاله إلى أن يظفر به وكذلك الشيطان لا يقدر الإنسان (أن) يهرب منه فإنه يقف معه ولا يزال ثابتاً على الجادّة والاتِّكال على العبادة. ثم بين تعالى ما حال حزبه وحال حزب الله وهو قوله: "الَّذِينَ كَفَرُوا" يجوز رفعه ونصبه وجره فرفعه من وجهين:
أظهرهما: أن يكون مبتدأ والجملة بعده خبره. والأحسن أن يكون "لهم" هو الخبر و"عَذَابٌ" فاعله.
الثاني: أنه بدل من واو "لِيَكُونُوا". ونصبه من أوجه: البدل من "حِزْبَهُ" أو النعت له أو إضمار فعل "أَذُمُّ" ونحوه، وجره من وجهين: النعت أو البدلية من "أصْحَابِ السَّعِيرِ" وأحسن الوجوه الأول لمطابقة التقسيم. واللام في "لِيَكُونُوا" إما للعلة على المجاز من إقامة السَّبَب مَقَام المُسَبب وإما الصَّيْرُورة ثم قال: { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } وهذا حال حزب الشيطان { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } فالإيمان في مقابلته المغفرة فلا يُؤَبَّد مؤمنٌ في النار والعمل الصالح في مقابلته "الأجر الكبير".
قوله: { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ } "مَنْ" موصول مبتدأ وما بعده صلته والخبر محذوف فقدره الكسائِيُّ { تذهب نفسك عليهم حَسَرَاتٍ } لدلالة: "فَلاَ تَذْهَب" عليه. وقدره الزجاج: "وأَضَلَّهُ اللَّهُ كَمَنْ هَدَاهُ" وقدره غيرهما كمن لم يُزَيَّنْ له. وهو أحسن، لموافقته لفظاً ومعنى. ونظيره "أفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ (هُوَ أعْمَى)"
{ { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ٱلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ } [الرعد:19]. والعامة على "زُيِّنَ" مبنياً للمفعول "سُوءُ" رفع وعُبَيْدُ بْنُ عَمَيْر زَيَّنَ مبنياً للفاعل وهو الله "سُوءَ" بالنصب به. وعنه "أَسْوأَ" بصيغة التفضيل منصوباً. وطلحةُ "أَمَنْ" بغير فاء. قال أبو الفضل: الهمزة للاستخبار بمعنى العامة للتقرير ويجوز أن تكون بمعنى حرف النداء فحذف التَّمَامُ كما حذف من المشهور الجواب، يعني أنه يجوز في هذه القراءة أن تكون الهمزة للنداء وحذف التّمام أي ما نُودي لأجله كأنه قيل: يَا مَنْ زينَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ارْجِعْ إلى الله وتب إليه، وقوله: "كما حذِف الجواب" يعني به خبرَ المبتدأ الذي تَقدَّم تقريره.
فصل
قال ابن عباس: نزلت في أبي جهل ومشركي مكة. وقال سعيد بن جبير: نزلت في أصحاب الأهْوَاء والبِدَع فقال قتادة: منهم الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم فأما أهل الكبائر فليسوا منهم لأنهم لا يستحلون الكبائر. ومعنى زين له سوء عمله شبه له وموه عليه وحسن له سوء عمله أي قبح عمله فرآه حسناً زين له الشيطان ذلك بالوسواس. وفي الآية حذف مجازه: أفمن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فرأى الباطل حَقًّا كَمَنْ هداه الله فرأى الحق حقاً والباطل باطلاً؟ { فإنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } وذلك لأن أشخاص الناس متساوية في الحقيقة والإساءة والإحسان والسيئة والحسنة تمتاز بعضها عن بعض فإذا عرفها البعض دون البعض لا يكون ذلك بالاستقلال منهم فلا بدّ من الاستناد إلى إرادة الله تعالى.
ثم سلى- رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث حزن على إصرارهم بعد إتيانه بكل آية ظاهرة وحجةٍ قاهرة فقال: { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } كقوله تعالى:
{ { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ ءَاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ } [الكهف:6] أي لا تغتمّ بكفرهم وهلاكهم إن لم يؤمنوا.
قوله: "فَلاَ تَذْهَبْ" العامة على فتح التاء مسنداً "لِنَفْسِك" من باب "لاَ أَرَيَنَّكَ هَهُنَا" أي لا تتعاط أسباب ذلك. وقرأ أبو جعفر وقتادة والأشهب بضم التاء وكسر الهاء مسنداً لضمير المخاطب (و) نَفْسَك مفعول به.
قوله: "حَسَرَاتٍ" فيه وجهان:
أحدهما: أنه مفعول من أجله أي لأَجْلِ الحَسَرَاتِ.
والثاني: أنه في موضع الحال على المبالغة كأن كلها صَا(رَ)تْ حَسَرَاتٍ لفرط التحسر كما قال:

4152- مشَقَ الْهَوَاجِرُ لَحْمَهُنَّ مَعَ السُّرَى حَتَّى ذَهَبْنَ كَلاَكِلاً وَصُدُوراً

يريد: رجعن كلاكلاً وصدرواً، أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها كقولهم (شعر):

4153- فَعَلَى إثْرِهم تَسَاقَطُ نَفْسِي حَسَرَاتٍ وذِكْرُهُم لِي سَقَامُ

وكون "كلاكل وصدور" حال قوله سيبويه. وجعلها المُبَرِّدُ تَمْيِيزَين منقولين من الفاعلية. والحسرة شدة الحزن على ما فات من الأمر. ثم قال: { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُون } أي الله عالم بفعلهم يجازيهم على ما يصنعونه، ثم عاد إلى البيان وقال: { ٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ } وهبوب الرياح دليل ظاهر على الفاعل المختار، لأن الهواء قد يسكن وقد يتحرك وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين وقد يتحرك إلى الشمال وفي حركاته المخلتفة قد يُنْشِىء السَّحَابَ وقد لا يُنْشِىءُ. فهذه الاختلافات دليل على مسخِّرٍ مدبِّرٍ مُؤَثِّر مُقَدِّرٍ.
قوله: "فَتُثِرُ" عطف على "أرْسَلَ" لأن "أرْسَلَ" بمعنى المستقبل فلذلك عطف عليه وأتى بأَرْسَلَ لِتَحَقُّقِ وقوعه. و "تثيرُ" لتصور الحال واستحضار الصورة البديعة كقوله:
{ { أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ ٱلأَرْضُ مُخْضَرَّةً } [الحج:63] وكقول تَأَبَّطَ شَرًّا:

4154- ألاَ مَنْ مُبْلِغٌ فِتْيَانَ فَهْمٍ بِمَا لاَقَيْتُ عِنْدَ رَحَا مَطَانِ
بأنِّي قد رأيت الغول تَهْوِي بِسَهْبٍ كالصَّحِيفَةِ صَحْصَحَانِ
فَقُلْتُ لَهَا كِلاَنَا نِضْوُ أرْضٍ أَخُو سَفَرٍ فخل لِي مَكَانِي
فَشَدَّتْ شَدَّةً نَحْوِي فَأَهْوَتْ لَهَا كَفِّي بمصقول يَمَانِي
فَأَضْرِبُهَا بِلاَ دَهَشٍ فَخَرَّتْ صَرِيعاً لِلْيَدَيْنِ ولِلْجِرَانِ

حيث قال: "فأضربها" ليصور لقومه حاله وشجاعته وجرأته وقوله: "فَسُقْنَاهُ و أَحْيَيْنَا" معدولاً بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدْخَلُ في الاختصاص وأدلّ عليه.
فصل
قال: أرسل بلفظ الماضي وقال: "فَتُثِيرُ سَحَاباً" بلفظ المستقبل، لأنه لما أُسند فعل الإرسال إلى الله وما يفعله يكون بقوله كن فلا يبقى في العدم لا زماناً ولا جزءاً من الزَّمان فلم يقل بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه كأنه كان، ولأنه فرغ من كل شيء فهو قدّر الإرسال في الأوقات المعلومة وإلى المواضع المعينة. ولما أسند فعل الإشارة إلى الريح وهي تؤلّف في زمان فقال: تُثِيرُ أي على هيئتها وقال: "سُقْنَا" أسند الفعل إلى المتلكم وكذلك في قوله: "فَأحْيَيْنَا"، لأنه في الأول عرف نفسه بفعل من الأفعال وهو الإرسال ثم لما عرف قال: أنا الذي بَعَثْتُ السَّحَاب وأحْيَيْتُ الأَرْضَ. ففي الأول كان تعريفاً بالفعل العجيب وفي الثاني: كان تذكيراً بالنعمة فإن كمال نعمة الرياح والسحاب بالسَّوْقِ والإحياء وقوله:"سُفْنَا وَأَحْيَيْنَا" بصيغة الماضي يؤيد ما ذكرنا من الفرق بين قوله: "أرسل" وبين قوله: "تثير". ثم قال: "كَذَلِكَ النُّشُورُ" أي من القبور ووجه التشبيه من وجوه:
أحدها: أن الأرض الميتة لما وصلت الحياة اللائقة بها كذلك الأعضاء تقبل الحياة.
وثانيها: كما أن الريح تجمع القِطَعَ السحابية كذلك نجمع أجزاء الأعضاء وأبعَاضَ الأشياء.
وثالثها: كما أنَّا نسوق الرِّيح والسحاب إلى البلد نسوق الرُّوحَ إلى الجسد الميِّت.
فإن قيل: ما الحكمة في هذه الآية من بين الآيات مع أن الله تعالى له في كل شيء آية تدل على أنه واحد؟
فالجواب: أنه تعالى لما ذكر أنه فاطر السماوات والأرض وذكر من الأمور السماوية والأرواح وإرسالها بقوله: { جَاعِلِ الملائكة رسلاً أولي أجنحة } ذكر في الأمور الأرضية الرِّياحَ.