خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ
٢٨
إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ
٢٩
يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
٣٠
أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ
٣١
وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ
٣٢
-يس

اللباب في علوم الكتاب

قوله (تعالى): { وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } لما تمنى أن يعلم قومه أن الله غفر له وأكرمه ليرغبوا في دين الرسل فلما قتل حبيب غضب الله وعجل لهم النِّقْمة وأمر جبريل - عليه (الصلاة و) السلام - فصاح بهم صيحةً واحدةً فماتوا عن آخرهم فذلك قوله: { وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } يعني الملائكة.
قوله: "وما كنا منزلين" في (ما) هذه ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنها ناقية كالتي قبلها فتكون الجملة الثانية جارية مَجْرى التأكيد للأُولَى.
والثاني: أنها مزيدة قال أبو البقاء: أي وقد كنا منزلين. وهذا لا يجوز البتة لفساده لفظاً ومعنى.
الثالث: أنها اسم معطوف على "جُنْدٍ" قال ابن عطية: أي من جند من الذين كُنَّا مُنْزِلينَ وردّه أبو حيان بأن "مِنْ" مزيدة، وهذا التقدير يؤدي إلى زيادتها في الموجب جارة لمعرفة ومذهب البصريين غير الأخفش أن يكون الكلام غير موجب وأن يكون المجرور نكرة، قال شهاب الدين: فالذي ينبغي عند من يقول بذلك (أن) يقدرها بنكرة أي: ومن عذابٍ كُنَّا مُنْزليه والجملة بعضها صفة لها. وأما قوله إن هذا التقدير يؤدي إلى زيادتها في الموجب فليس بصحيح البتة وتعجَّبْتُ كَيْفَ يَلْزُم ذَلِكَ؟!.
فصل
قال ههنا "وما أنزلنا" بإسناد الفعل إلى النفس، وقال في بيان حال المؤمن: { قِيلَ ادْخُل الجَنَّة } بإسناد القول إلى غير مذكور لأن العذاب من الهيئة فقال بلفظ التعظيم وأما إدخال الجنة فقال: قيل: (ليكون كالمهنأ بقول الملائكة وبقول كل صالح يراه ادخل الجنة خالداً كالتهنئة له، وكثيراً ما ورد) في القرآن قوله تعالى: "وقيل ادخلوا" إشارة إلى أن الدخول يكون دخولاً بإكْرَامٍ. فإن قيل: لم أضاف القوم إليه مع أن الرسل أولى بكون الجمع قوماً لهم لأن الرسول لكونه مرسلاً يكون جميع الخلق أو جميع من أرسل إليهم قوماً لهم؟.
فالجواب: تبين الفرق بينه وبنيهم لأنهما من قبيلة واحدة وأيضاً فالعذاب كان مختصاً بهم أكرم أحدهما غاية الإكرام بسبب الإيمان وأُهين الآخر غاية الإهانة بسبب الكفر ونسبهما من قبيلة واحدة وأيضاً فالعذاب كان مختصاً بهم وهم أقاربه لأن غيرهم من قوم الرسل آمنوا بهم فلم يُصِبْهُم العذاب.
فإن قيل: لم خصص عدم الإنزال بما بعده والله تعالى لم ينزل عليهم جنداً قبله أيضاً فما فائدة التخصيص؟.
فالجواب: أن استحقاقهم العذاب كان بعده حيث أصروا واستكبروا فبين حال الإهلاك.
فإن قيل: قال: "من السماء" وهو تعالى لم ينزل عليهم ولا أرسل إليهم جنداً من الأرض فما فائدة التقييد؟.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن يكون المراد ما أنزل عليهم جنداً بأمر من السماء فتكون للعموم.
والثاني: أن العذاب نزل عليهم من السماء فبين أن النازل لم يكن جنداً وإنما كان بصيحة أخذتهم وخربت ديارهم.
فإن قيل: أي فائدة في قوله: { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } مع قوله: { وَمَآ أَنزَلْنَا } وهو يستلزم أن لا يكون من المنزلين؟.
فالجواب: أن قوله: "وما كنا" أي ما كان ينبغي أن ينزل، لأن الأمر كان يتم بدون ذلك والمعنى وما أنزلنا وما كنا محتاجين إلى الإنزال أو وما أنزلنا وما كنا منزلين في مثل تلك الواقعة جنداً في غير تلك الواقعة أي وما أنزلنا على قومه من بعده أي على قوم حبيب من بعد قتله من جنده وما كنا منزلين ما ننزله على الأمم إذا أهلكناهم كالطُّوفَانِ والصَّاعِقَةِ والرِّيح.
فإن قيل: فكيف أنزل الله جنوداً في يوم "بدر" وفي غير ذلك حيث قال تعالى:
{ { رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } [الأحزاب:9].
فالجواب: أن ذلك تعظيماً لمحمد - عليه (الصلاة و) السلام - وإلاَّ لكان تحريك رِيشَةٍ من جَنَاح ملكٍ كافياً في استئصالهم ولم تكن رسل (عيسى) - عليه الصلاة والسلام - في درجة محمد عليه السلام - ثم بين الله تعالى عقوبتهم فقال: { إنْ كَانَتْ إلاَّ صَيْحَةً واحَدِةً }.
قوله: { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً } العامة على النصب على أنَّ "كان" ناقصة واسمها ضمير الأَخْذ لدلالة السِّياق عليها و "صَيْحَةً" خبرها. وقرأ أبو جعفر وشيبَةُ ومُعاذ القَارىء برفعها على أنها التامة أي إن وَقَعَ وحَدَثَ وكان ينبغي أن لا يلحق تاء التأنيث للفصل "بإلا" بل الواجب في غير ندور واضطرار حذف التاء نحو: مَا قَامَ إلاَّ هِنْدٌ. وقد شذ الحسن وجماعة فقرأوا: { لاَ تُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } [الأحقاف: 25] كما سيأتي إن شاء الله تعالى وقوله:

4175-............... وَمَا بَقِيَتْ إلاَّ الضُّلُوعُ الجَرَاشِعُ

وقوله:

4176- مَا بَرِئَتْ مِنْ رِيبَة وَذَمّ فِي حَرْبِنَا إلاَّ بَنَاتُ العَمّ

قال الزمخشري: أصله إن كان شيء إلا صيحة فكان الأصل أن يذكر لكنه تعالى أنّث لما بعده من المفسر وهو الصيحة وقوله: "وَاحِدَةٌ" تأكيد لكون الأمر هيّناً عنده وقوله: { فَإِذَا هُمْ خَامِدُون } إشارة إلى سرعة الهلاك فإن خمودهم كان من الصيحة في وقتها لم يتأخر ووصفهم بالخمود في غاية الحسن لأن الحي فيه الحرارة الغريزية وكلما كانت الحرارة أوفر كانت القوة الغضبية والشهوانية أتم وهم كانوا كذلك أما الغضب.
فإنهم قتلوا مؤمناً كان ينصحهم وأما الشهوة فلأنهم احتملوا العذاب الدائم بسبب استيفاء اللذات الخالية فإذن كانوا كالنار الموقَدَة لأنهم كانوا جبارين ومستكبرين كالنار ومن خلق منها. { فَإذَا هُمْ خَامِدُونَ } ميت‍ِّون. قال المفسرون: أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة ثم صاح بهم صيحة واحدة فإذا هُمْ خامدن ميتون.
قوله: "يَٰحَسْرَةً" العامة على نصبها وفيه وجهان:
أحدهما: أنها منصوبة على المصدر والمنادى محذوف تقديره يا هؤلاء تَحَسَّرُوا حَسْرَةً.
والثاني: أنها منونة لأنها منادى منكر فنصبت على أصلها كقوله:

4177- فَيَا رَاكِباً إم‍َّا عَرَضْتَ فَبَلِّغاً نَدَامَاي مِنْ نَجْرَانَ أَنْ لاَ تَلاَقِيَا

ومعنى النداء هنا على المجاز، كأنه قيل: هذا أوانك فاحضري. وقرأ قتادة وأبيّ - في أحد وجهيه - يا حسرة بالضم جَعَلها مقبلاً عليها وأبيّ أيضاً وابن عباس وعلي بن الحُسَيْن { يَا حَسْرَةً على العِبَادِ } بالإضافة فيجوز أن تكون الحسرةُ مصدراً مضافاً لفاعله أي يَتَحَسَّرُونَ على غيرهم لما يرون من عذابهم وأن يكون مضافاً لمفعوله أي يُتَحَسَّرُ عليهم (من) غيرهم. وقرأ أبو الزناد وابن هُرْمز وابن جُنْدُب "يا حَسْرَهْ" بالهاء (المهملة) المبدلة من تاء التأنيث وصلاً وكأنهم أَجْروا الوَصْل مُجْرَى الوقف وله نظائر مرت. وقال صاحب اللوامح وقفوا بالهاء مبالغة في التحسر لما في الهاء من التَّاهَةِ بمعنى التأوه ثم وصلوا على تلك الحال. وقرأ ابن عباس أيضاً: يا حَسْرَة بفتح التاء من غير تنوين ووجهها أن الأصل يا حسرتا فاجتزىء بالفتحة عن الألف كما اجتزىء بالكسرة عن الياء ومنه:

4178- وَلَسْتُ براجِعٍ مَا فَاتَ مِنِّي بِلَهْفَ وَلاَ بِلَيْتَ وَلاَ لَوَ انِّي

أي بلهفها بمعنى لهفي. وقرىء: يا حَسْرَتَا بالألف كالتي في الزمر. وهي شاهدة لقراءة ابن عباس وتكون التاء لله تعالى، وذلك على سبل المجاز دلالة على فرط هذه الحسرة وإلا فاللَّه تعالى لا يوصف بذلك. قوله: "مَا يَأْتِيهِمْ" هذه الجملة لا محل لها لأنها مفسِّرة لسبب الحسرة عليهم. وهذا الضمير يجوز أن يكون عائداً إلى قوم حبيب أي ما يأتيهم من رسول من الرّسلِ الثلاثة. ويجوز: أن يعود إلى الكفار المصرين. وقوله: "إلاَّ كَانُوا" جملة حالية من مفعول "يَأْتِيهِمْ".
فصل
الألف واللام في العبادة قيل: للعهد وهم الذين أخذتهم الصيحة فيا حسرة على أولئك. وقيل: لتعريف الجنس أي جنس الكفار المكذبين وقيل: المراد بالعبادة الرسل الثلاثة كأنه الكافرين يقولون عند ظهور اليأس يا حسرةً عليهم يا ليتهم كانوا حاضرين لنؤمن بهم ثانياً، وهم قوم (حبيب) وفي التحسر وجوه:
الأول: لا متحسر أصلاً في الحقيقة إذا المقصودُ بيانُ (أن) ذلك وقت طلب الحسرة حيث تحققت الندامة عن تحقق العذاب وههنا بحث لغوي وهو أن المفعول قد يرفض كثيراً إذا كان الغرض غير متعلق به يقال: فلان يعطي ويمنع ولا يكون هناك شيء مُعْطًى ولا شخص معطى، إذ المقصود أن له المنع والإعطاء، ورفض المفعول كثير وما نحن فيه رفض الفاعل وهو قليل. والوجه فيه أن ذكر التحسر غير مقصود وإنما المقصود أن الحسرة متحققة في خلال الوقت.
الثاني: أن القائل يا حسرة هو الله على الاستعارة تعظيماً للأمر وتهويلاً له وحينئذ يكون كالألفاظ التي وردت في حق الله كالضَّحِك والسُّخْرية والتعجب والتّمنِّي. أو يقال ليس معنى قوله يا حسرة أو يا ندامة أن القائل متحسر أو نادم بل المعنى أنه مخبرٌ عن الوقوع وقوع الندامة ولا يحتاج إلى التجوز في كونه تعالى قائلاً يا حسرة بل تجْريه على حقيقته إلا في النداء فإن النداء مجاز والمراد الإخبار.
الثالث: أن المتلهفين من المسلمين والملائكة لما حكى عن حبيب أنه حين القتل كان يقوله اللَّهم اهد قومي وبعد ما قتلوه وأدخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون فيجوز أن يتحسر المسلم لكافر ويتندم له وعليه. وقوله:{ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } هذا سبب الندامة.
فصل
قال الزهري الحسرة لا تدعى، ودعاؤها تنبيه للمخاطبين، وقيل العرب تقول: يا حَسْرَتَا ويا عَجَبَا على طريق المبالغة. والنداء عندهم بمعنى التنبيه فكأنه يقول: أيها العجبُ هذا وقتُكَ وأيتها الحسرة هذا أوَانُكِ وحقيقة المعنى أن هذا زمان الحسرة والتَّعَجُّب.
قوله: { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا } لما بين حال الأولين قال للحاضرين: ألَمْ يَرُوا الباقون ما جرى على من تقدم منهم. قوله: "كم أهلكنا" كم هنا خبرية فهي مفعول "بأهلكنا" تقديره كثيراً من القرون أهلكنا وهي مُعَلِّقة "ليَرَوْا" ذهاباً بالخبرية مذهب الاستفهامية، وقيل: بل "يَرَوا" علمية "وكم" استفهامية كما سيأتي بيانه و{ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يرجعون } فيه أوجه:
أحدها: أنه بدل من "كم" قال ابن عطية و "كم" هنا خبريّة و "أنهم" بدل منها، والرؤية بصرية قال أبو حيان وهذا لا يصح لأنها إذا كانت خبرية (كانت) في موضع نصب "بأهلكنا" ولا يسوغ فيها إلا ذلك وإذا كانت كذلك امتنع أن يكون "أنهم" بدلاً منها لأن البدل على نية تكرار العامل ولو سلطت "أهلكنا(هم)" على "أنهم" لم يصح ألا ترى أنك لو قلت: أهلكنا انتفى رجوعهم أو أهلكنا كونهم لا يرجعون لم يكن كلاماً لكنَّ ابْنَ عطية توهم أن (يَرُوْا) مفعولة "كم" فتوهم أن قوله: { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } بدل منه لأنه لا يسوغ أن يسلط عليه فتقول: ألم يروا أنهم إليهم لا يرجعون. وهذا وأمثاله دليل إلى ضعفه في (عِلْم) العربية. قال شهاب الدين: وهذا الإنحاءُ عليه تحامل عليه لأنه لقائل أن يقول: كم قد جعلها خبرية والخبرية يجوز أن تكون معمولة لما قبلها عند قوم فيقولون: "مَلَكْتُ كم عبدٍ" فلم يلزم الصدر فيجوز أن يكون بناء هذا التوجيه على هذه اللغة وجعل "كم" منصوبة "بيَرَوا" و"أنهم" بدل منها. وليس هو ضعيفاً في العربية حينئذ.
الثاني: أن "أنَّهُمْ" بدل من الجملة قبله. الزجاج وهو بدل من الجملة والمعنى ألم يروا أن القرون التي أهلكناهم أنهم لا يرجعون لأن عدم الرجوع والهلاك بمعنى. قال أبو حيان وليس بشيء لأنه ليس بدلاً صناعياً وإنما فسر المعنى ولم يلحظ صناعة النحو قال شهاب الدين: بل هو بدل صناعي لأن الجملة في قوة المفسر إذ هي سادة مسد مفعولي "يروا" فإنها معلقة لها كما تقدم.
الثالث: قال الزمخشري: أَلَمْ يَرَوا ألم يعلموا وهو معلَّقٌ عن العمل في "كَمْ" لأن "كم" لا يعمل فيها عامل قبلها سواه كانت للاستفهام (أو للخبر، لأن أصلها الاستفهام) إلا أنَّ معناها نافد في الجملة كما نفذ في قولك: (ألَمْ يَرَوْا) إن زيداً لمُنْطَلِقٌ و "أن" لم يعمل في لفظه و"أنَّهُمْ إِلَيْهمْ لاَ يَرْجِعُون" بدل من "كَمْ أهلَكْنَا" على المعنى لا على اللفظ تقديره: ألم يروا كَثْرَة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم.
قال أبو حيان قوله "لأن كم لا يعمل فيها ما قبلها كانت للاستفهام أو للخبر" ليس على إطلاقه لأن إذا كانَ حرف جر أو اسماً مضافاً جاز أن يعمل فيها نحو: عَلَى كَمْ جِذْعٍ بَيْتُكَ؟ وأيْن كم رئيس صَحِبْتَ؟ كَمْ فَقيرٍ تَصَدَّقْت أرجو الثواب؟ وأين كم شهيد في سبيل الله أحسنت إليه. وقوله أو الخبرية الخبرية فيها لغة الفصيحة كما ذكر لا يتقدمها عامل إلا ما ذكرنا من الجار، واللغة الأخرى حكاها الأخفض يقولون: مَلَكْت كَمْ غُلاَم اي ملكت كثيراً من الغِلمان فكما يجوز تقدم العامل على "كثيراً". كذلك يجوز على "كم" لأنها بمعناها، وقوله: لأنها أصلها الاستفهام والخبرية ليس أصلها الاستفهام بل كل واحدة أصل ولكنهما لفظان مشتركان بين الاستفهام والخبر وقوله: لأن معناها نافذ في الجملة يعني معني "يَرَوْا" نافذ في الجملة لأنه جعلها معل‍ّقة وشرح "يروا" بيعلموا، وقوله: كما نفذ في قولك: "أَلَمْ يَرَوا إِنًّ زيداً لَمُنْطلِقٌ" يعني أنه لو كان معمولاً من حيث اللفظ لامتنع دخول اللام ولفتحت "أن" فإن "إن" التي في خبرها اللام من الأدوات المعلقة لأفعال القلوب، وقوله: "أَنَّهُمْ إلَيْهِمْ" إلى آخر كلامه لا يصح أن يكون بدلاً على اللفظ ولا على المعنى أما على اللفظ فإن زعم أن "يروا" معلقة فتكون كم استفهامية فهي معمولة "لأهْلَكْنَا" و "أهلكنا" لا يتسلط على { أنَّهُمْ إلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } كما تقدم. وأما على المعنى فلا يصح أيضاً لأنه قال تقديره: أي على (هذا) المعنى ألم يروا كثرة إهلاكنا القرونَ من قبلهم كَوْنَهم غيرَ راجعين إليهم. فكونهم غير كذا ليس كثرة الإهلاك فلا يكون بدل كل من كل وليس بعض الإهلاك فلا يكون (بدل بعض من كل ولا يكون) بدل اشتمال لأن بدل الاشتمال يصح أنْ يُضَافَ إلى ما أبدل منه وكذلك بدل بعض من كل وهذا لا يصح هنا لا نقول: ألم يروا انتفاء رجوع كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم وفي بدل الاشتمال نحو: أعجبتني الجارية ملاحتها وسُرقَ زيد ثوبُه يصح أعجبتني ملاحةُ الجارية وسُرق ثَوْبُ زَيْدٍ.
الرابع: أن يكون أنهم بدلاً من موضع "كم أهلكنا" والتقدير ألم يروا أنهم إليهم قاله أبو البقاء ورده أبو حيان بأن "كم أهلكنا" لي بمعمول "ليروا". قال شهاب الدين: وقد تقدم أنها معمولة لها على معنى أنه معلقة لَهَا.
الخامس: وهو قول الفراء: أن يكون "يروا" عاملاً في الجملتين من غير إبدال ولم يبين كيفية العمل وقوله الجملتين يجوز لأن "أنهم" ليس بجملة لتأويله بالمفرد إلا أنه مشتمل على مُسْنَدٍ ومُسْنَدٍ إليه.
السادس: (أن) "أنَّهُم" معمول لفعل محذوف دل عليه السِّيَاق والمعنى تقديره: قَضَيْنَا وحَكَمْنَا أنَّهُمْ إليهم لا يرجعون ويدل على صحة هذا قول ابنِ عباس والحسن إنَّهُمْ بكسر الهمزة على الاستئناف والاستئناف قطع لهذه الجملة عما قبلها. فهما مقولان تكون معمولة لفعل محذوف يقتضي انقطاعها عما قبلها والضمير في "أنهم" عائد على معنى كم، وفي "إليهم" عائد على ما عاد عليه واو "يَرَوا". (وقيل: بل الأول عائد على ما عاد عليه واو يَرَوْا) والثاني عائد على المُهْلَكِينَ.
فصل
المعنى ألم يخبروا أهل مكة كم أهلكنا قبلهم من القرون والقرن أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ سموا بذلك لاقترانهم في الوجود أنَّهُمْ إلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ أي لا يعودون إلى الدنيا أفلا يعتبرون. وقيل: لا يرجعون أي الباقون لا يرجعون إلى المُهْلَكين بنسب ولا ولادة أي أهلكناهم وقطعنا نسلهم ولا شك أنَّ الإهلاك الذي يكون مع قطع النّسل أتم وأعم. والأول أشه نقلاً والثاني أظهر عقلاً.
قوله: { وَإِن كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ } تقدم في هود تشديد "لمَّا" وتخفيفها والكلام في ذلك، وقال ابن الخطيب في مناسبة وقع "لما" المشددة موقع "إلا": إن لما كأنَّهَا حَرْفا نفي جمعاً وهما: "لَمْ" و "مَا" فتأكد النفي وإلا كأنها حرفا نفي: "إن ولاَ" فاستعمل أحدهما مكان الآخر انتهى. وهذا يجوز أن يكون أخذه من قول الفراء في إلا في الاستثناء إنها مركبة من "إنْ ولاَ" إلا أنَّ الفراء جعل إنْ مخففة من الثقيلة وجعلها نافية. وهو قول ركيك رَدَّهُ عليه النحويون. وقال الفراء أيضاً إنّ لما هذه أصلها لَمْمَا فخففت بالحذف وتقديم هذا كله مُوَضِّحاً.
و"كل" مبتدأ و "جميع" خبره و "مُحْضَرُونَ" خبر ثان لا يختلف ذلك سواء شددت "لما" أم خففتها، لا يقال: إن جميعاً تأكيد لا خبر (لأن) "جميعها" هنا فَعِيل بعنى مفعول أي مجموعون فكل يدل على الإحاطة والشمول وجميع يدل على الاجتماع فمعناها حمل على لفظها، كما في قوله:
{ { جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } [القمر: 44] وقدم "جميع" في الموضعين لأجْل الفَوَاصِل و "لَدَيْنا" متعلق "بمُحْضَرُونَ". فمن شدد "فلما" بمعنى إلا وإنْ نافية كما تقدم والتقدير: ومَا كُلُّ إِلاَّ جميعٌ، ومن خفَّفَ "فَإنْ" مخففة (من الثقيلة) واللام فارقة وما مزيدة. هذا قولا البصريين والكوفيون يقولون: إنَّ "إِنْ" نافية واللام بمعنى إلا كما تقدم مراراً.
فصل
لما بين الإهلاك بين أن من أهْلَكَهُ ليس بتارك له بل بعده جمع وحبس وحساب وعقابٌ ولو أن من أهلك ترك لكان الموت راحةً ونعْمَ ما قال القائل:

4179- ولو أنّا إذا ما متْنَا تُرِكْنَا لَكَانَ المَوْتُ رَاحَة كُلِّ حَيِّ
وَلكِنَّا إِذا مِتْنا بُعِثْنا وَنُسْأَلُ بَعْدَهَا عَنْ كُلِّ شَيِّ

قال الزمخشري: إن قال قائل: "كل وجميع" بمعنى واحد فكيف جعل جميعاً خبراً لـ "كلّ" حيث أدخل اللام عليه إذ التقدير وإن كل لجميعٌ؟ نقول معنى "جميع" مجموع ومعنى "كل" أي كل فرد مجمع مع الآخر مضموم إليه ويمكن أن يقال: "مُحْضَرُونَ" يعني كما ذكره وذلك لأنه لو قال: وإن جميع لجميع محضرون لكان كلاماً صحيحاً. قال ابن الخطيب: ولم يوجد ما ذكره من الجواب بل الصحيح أنَّ مُحْضَرُونَ كالصفة للجمع فكأنه قال جميعٌ جميعٌ محضرون كما نقُول: الرجلُ رجلٌ عالم والنبيُّ نبيُّ مرسل. والواو في "وَإنْ كُلّ" يعطف على الحكاية كأنه يقول: بَيَّنْتُ لك ما ذكرت وأبين أن كُلاًّ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ.