خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
٦٠
وَأَنِ ٱعْبُدُونِي هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ
٦١
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ
٦٢
هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ
٦٣
ٱصْلَوْهَا ٱلْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ
٦٤
ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
٦٥
وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَٱسْتَبَقُواْ ٱلصِّرَاطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ
٦٦
وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَـانَتِهِمْ فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ
٦٧
وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّـسْهُ فِي ٱلْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ
٦٨
-يس

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ } العامة على فتح الهمزة على الأصل في حرف المضارعة، وطلحة والهُذَيْل بن شرحبيل الكوفي بكسرها. وتقدم أن ذلك لغة في حروف المضارعة بشروط ذُكِرَتْ في الفاتحة، وقرأ ابن وثاب "أَحَّدْ" بحَاءٍ مشدَّدة، قال الزمخشري: وهي لغة تميم ومنه: "دَحَّا مَحَّا" أي دَعْهَا مَعَهَا فقلبت الهاء حاء ثم العين حَاءً حين أريدَ الإدغام، والأحسن أن يقال: إن العين أبدلت حاء وهي لغة هذيل فلما أدغم قلب الثاني للأول وهو عكس باب الإدغام. وقد مضى تحقيقه آخر آل عمران، وقال ابن خالويه وابن وثاب والهذيل: "ألم اعْهَدْ" بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء وهي على لغة من كسر أول المضارع سوى الياءَ. وروي عن ابن وثاب "أَعْهِدْ" بكسر الهاء يقال: عَهِدَ وَعَهَدَ، انتهى. يعني بكسر الميم والهمزة أن الأصل في هذه القراءة أن يكون كسر حرف المضارعة ثم نقل حركته إلى الميم فكسرت لا أن الكسر موجود في الميم وفي الهمزة لفظاً إذ يلزم من ذلك قطع همزة الوصل وتحريك الميم من غير سبب، وأما كسر الهاء فلما ذكر من أنه سمع في الماضي "عَهَدَ" بفتحها. قوله: "سوى الياء" - وكذا قال الزمخشري- هو المشهور، وقد نقل عن بَعْضِ كَلْبٍ أنهم يكسرون الياء فيقولون: يعْلَمُ. وقال الزمخشري فيه: وقد جوز الزجاج أن يكون من باب: نَعِمَ يَنْعَمُ وضَرَبَ يَضْرِبُ يعني أن تخريجه على أحد وجهين إما بالشذوذ فيما اتّحد فيه فَعِلَ يَفْعِلُ بالكسر فيهما كَنِعَم يَنْعِمُ وحَسِبَ يَحْسبُ، ويَئِسَ يَيْئسُ. وهي ألفاظ معدودة في البقرة. وإما (أنه) سمع في ماضيه الفتح كضرب كما حكاه ابن خالويه، وحكى الزمخشري أنه قرىء "أَحْهَدْ" بإبدَال العين حاء. وقد تقدم أنها لغة هذيل. وهذه تقوي أن أصل أحد أحهد فأدغم كما تقدم. قوله: "أَن لاَّ تَعْبُدُواْ" و "وَأَنِ ٱعْبُدُونِي" يجوز في "أن" أن تكون مفسرة فسرت العهد بنهي وأمر وأن تكون مصدرية (أي) ألم أعْهَدْ إليكم في عدم عبادة الشيطان وفي عبادتي.
فصل
في معنى هذا العهد وجوه: أقواها ألم أوصِ إليكم، واختلفوا في هذا العهد فقيل: هو العهد الذي كان مع آدم في قوله:
{ { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ ءَادَمَ } [طه:115] وقيل: هو الذي كان مع ذرية آدم حين أخرجهم وقال: ألَسْتُ بربِّكُمْ قَالُوا بَلَى، وقيل: مع كل قوم على لسان رسولهم. وهو الأظهر، وقوله { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ } أي لا تطيعوا الشيطان. والطاعة قد تطلق على العبادة ثم قال: { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } أي ظاهر العداوة ووجه عداوته أنه لما أكرم الله آدم - عليه (الصلاة و) السلام - عاداه إبليس.
فإن قيل: إذا كان الشيطان عدواً للإنسان فما بال الإنسان يقبل على ما يرضيه من الزِّنا والشّرب ويكره ما يسخطُه من المجاهدة والعبادة؟
فالجواب: استعانة الشيطان بأعوان من عند الإنسان وترك استعانة الإنسان بالله فيستعين بشهوته التي خلقها الله فيه لمصالح بقائه وبقاء نوعه ويجعلها سبباً لفساد حاله ويدعوه بها إلى مسالك المهالك وكذلك يستعين بغضبه الذي خلقه الله فيه لدفع المفاسد عنه ويجعلها سبباً لوباله وفساد أحواله وميل الإنسان إلى المعاصي كميْل المريض إلى (المصادر)، وذلك حيث ينحرف المِزاج عن الاعتدال فترى المحموم يريد الماء البارد وهو يزيد من مرضه ومن معدته فاسدة لا يهضم القليل من الغذاء يميل إلى الأكل الكثير ولا يشبع بشيء وهو يزيد فساد معدته وصحيح المزاج لا يشتهي إلا ما ينفعه.
قوله: "وَأَنِ ٱعْبُدُونِي" أطيعوني ووحِّدوني { هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } لما منع من عبادة الشيطان بقوله { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً } أي خَلْقاً كثيراً.
قوله: "جبلاًّ" قرأ نافع وعاصم بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، وأبو عمرو وابن عامر بضمة وسكون والباقون بضمتين واللام مخففة في كِلْتَيْهِمَا. وابنُ أبي إسْحَاقَ والزّهريّ وابنُ هُرْمُز بضمتين وتشديد اللام والأعمش بكسرتين وتخفيف اللام والأشهب العُقَيْلي واليمانيّ وحماد بن سلمة بكسرة وسكون وهذه لغات في هذه اللفظة وتقدم معناها آخر الشعراء. وقرىء جِبَلاً بكسر الجيم وفتح الباء جمع جِبْلَةٍ، كفِطَرٍ جمع فِطْرَة، وقرأ عَلِيُّ بْنُ أبي طالب بالياء من أسفل (ثنتان). وهي واضحة.
قال ابن الخطيب: الجيم والباء لا تخلو عن معنى الاجتماع (و) الجبل فيه اجتماع الأجسام الكثيرة وجبل الطين فيه اجتماع أجزاء الماء والتراب، وشاة لجباء إذا كانت مجتمعةَ اللبن الكثير، ولا يقال: البلجة نقض على ما ذكرتم فإنها تنبىء عن التفرق فإن الأبلج خلاف المقرون لأنَّا نقول: هي لاجتماع الأماكن الخالية التي تسع المتمكنات فإن البلجة والبلدة بمعنًى. والبَلَدُ سمي بَلَداً للاجتماع، لا لتفرق الجمع (العظيم) حتى قيل: إن دون العشر آلاف لا يكون بلداً وإن لم يكن صحيحاً. قوله: "أَفَلَمْ تَكُونُواْ" قرأ العامة بالخطاب لبني آدم. وطلحةُ وعيسى بياء الغيبة والضمير للجبل، ومن حقهما أن يقرءا: التي كانوا يوعدون لولا أن يَعْتَذِرُوا بالالْتِفَاتِ.
فصل
في كيفية هذا الإضلال وجهان:
الأول: تولّية عن المقصد وخديعته فالشيطان يأمر البعض بترك عبادة الله وبعبادة غيره فهو توليه فإن لم يقدر يحيد بأمر غير ذلك من رياسة وجاه وغيرهما وهو يُفضي إلى التولية لأن مقصوده لو حصل لترك الله وأقبل على ذلك الغير فتحصل التولية. ثم قال: { أفلم تكونوا تعقلون } ما أتاكم من هلاك الأمم الخالية بطاعة إبليس. ويقال لهم لما دَنَوْا من النار: { هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } بها في الدنيا { ٱصْلَوْهَا ٱلْيَوْمَ } أي ادخلوها اليوم { بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ }. وفي هذا الكلام ما يوجب شدة ندامتهم وحزنهم من ثلاثة أوجه:
أحدها: قوله تعالى: { ٱصْلَوْهَا ٱلْيَوْمَ } أمر تنكيل وإهانة كقوله:
{ { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } [الدخان:49].
الثاني: قوله: "اليوم" يعني العذاب حاضر ولذاتك قد مضت وبقي اليوم العذاب.
الثالث: قوله تعالى: { بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } فَإن الكفر والكفران ينبىء عن نعمة كانت فكفر بها وحياء الكفور من المنعم من أشدّ الآلام كما قيل: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ لِذِي همَّة حَيَاء المُسِيءِ مِنَ الْمُحْسِنِ.
قوله: "ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ" اليوم ظرف لما بعده. وقرىء يُخْتِمُ مبنياً للمفعول. والجار بعده قائم مَقَام فاعله. وقرىء: "وَتتكَلَّم" بتاءين من فوق. وقرىء ولتَتَكَلَّمْ ولتشهدْ بلام الأمر. وقرأ طلحة ولِتُكَلِّمَنَا ولتَشْهَدَ بلام كي ناصبة للفعل ومتعلقها محذوف أي للتكلم وللشهادة خَتَمْنَا. "وبِمَا كَانُوا" أي بالذي كانوا أو بكونهم كاسبين.
فصل
في الترتيب وجهان:
الأول: أنهم حين يسمعون قوله تعالى: { بِمَا كُنْتُم تَكْفُرُونَ } يريدون ينكرون كفرهم كما قال عنه: "مَا أَشْرَكْنَا"وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ" فيختم الله على أفواههم فلا يقدرون على الإنكار ويُنْطِقُ الله جوارحهم غير لسانهم فيعترفون بذنوبهم.
الثاني: لما أن قال الله تعالى لهم: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ } لم يكن لهم جواب فسكتوا وخرسوا وتكلمت أعضاؤهم غير اللسان. وفي الختم على الأفواه وجوه أقواها: أن الله تعالى يسكت ألسنتهم وينطق جوارحهم فيشهدون عليهم وأنه في قدرة الله يسير(و) أما الإسكانُ فلا خفاء فيه وأما الإنطاق فلأن اللسان عضو متحرك بحركة مخصوصة كما جاز تحرك غيره بمثلها والله قادر على كل الممكنات. والوجه الآخر: أنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم وانتهاك أستارهم فيقفون ناكسي الرُّؤُوس لا يجدون عُذْراً فيَعْتَذِرُونَ ولا مجال توبة فيستغفرون وتكلم الأيدي هو ظهور الأمور بحيث لا يسمع مع الإنكار كقول القائل: الحيطان تبكي على صاحب الدار إشارة إلى ظهور الحزن والصحيح الأول لما ثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول للعبد كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً وبالكرام الكاتبين شهوداً قال: فيختم على فيه، فيقال لأركانه انطقي قال: فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعداً لكنَّ وسحقاً فعنكن كنت أناضل وقال عليه (الصلاة و) السلام:
"أول ما يسأل من أحدكم فخذه ولفه" .
فإن قيل: ما الحكمة في إسناده الختم إلى نفسه وقال "نختم" وأسند الكلام والشهادة إلى الأرجل والأيدي؟
فالجواب: أنه لو قال: نختم على أفواههم وتنطق أيديهم لاحتمل أن يكون ذلك جبراً منه وقهراً والإقرار والإجبار غير مقبول فقال: تكلمنا أيديهم وتشد أرجلهم أي باختيارها يقدرها الله تعالى على الكلام ليكون أدل على صدور الذنب منهم.
فإن قيل: ما الحكمة في جعل الكلام للأيدي وجعل الشهادة للأرجل؟
فالجواب: لأن الأفعال تسند إلى الأيدي قال تعالى:
{ { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } [يس:35] أي ما عملوه وقال { { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } [البقرة: 195] أي لا تلقوا بأنفسكم، فإذن الأيدي كالعاملة والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره فجعل الأرجل والجلود من الشهود لبعد إضافة الأفعال إليهم.
فإن قيل: إن يوم القيامة من تقبل شهادته من المقربين والصديقين كلهم أعداء للمجرمين وشهادة العدو غير مقبولة وإن كان عدلاً وغير الصدِّيقين من الكفار والفساق لا تقبل شهادتهم والأيدي والأرجل صدرت الذنوب (منها) فهي فاسقة فينبغي أن لا تقبل شهادتها.
فالجواب: أن الأيْدي والأرجلَ ليسوا من أهل التكليف ولا ينسب إلهيا عدالة ولا فسقٌ، إنما المنسوب من ذلك إلى العبد المكلف لا إلى أعضائه، ولا يقال: إن العين تزني إن الفَرْج يزني. وأيضاً فإنا نقول: في در شهادتها (قبول شهادتها) لأنها إن كَذَبَتْ في مثل ذلك اليوم مع ظهور الأمور لا بدّ أن يكون مذنباً في الدينا وإن صَدَقَتْ في مثل ذلك اليوم فقد صدر منها الذنب في الدنيا وهذا كمن قال لِفَاسِقٍ: "إن كذبت في نهار هذا اليوم فعَبْدي حُرٌّ" فقال الفاسق: كَذَبْتُ في نهار هذا اليوم عُتِقَ العَبْدُ؛ لأنه إن صدق في قوله كذبت في نهار ذلك اليوم فوجد االشرط أيضاً بخلاف ما لو قال في اليوم الثاني كذبت في نهار اليوم الذي علقت عتْق عبدك على كذا فيه.
قوله: { وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ } أي أذهبنا أعينهم الظاهرة بحيث لا يبدو لها جفن ولا شِقٌّ وهو معنى الطَّمْسِ، كقوله تعالى:
{ { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } [البقرة: 20] يقول: إذا أعمينا قلوبهم لو شئنا أعمينا أبصارهم الظاهرة.
قوله: "فَٱسْتَبَقُوا" عطف على "لَطَمَسْنَا" وهذا على سبيل الفَرْض والتقدير. وقرأ عيسى فَاسْتَبِقُوا أمراً. وهو على إضمار القول أي فيُقَالُ لَهُمْ اسْتَبِقُوا والصِّراط ظرف مكان مختص عند الجمهور فلذلك تأولوا وصول الفعل إليه إما بأنه مفعول (به) مجازاً جعله مستبقاً لا مُسْتَبَقاً إليه ويضمن استبقوا معنى بادروا وإما على حذف الجار أي إلى الصراط. وقال الزمخشري: منصوب على الظرف، وهو ماش على قول ابن الطراوة فإن الصراطَ والطريق ونحوهما ليست عنده مختصة إلا أن سيبويه على أن قوله:

4184- لَدْنٌ بِهَزِّ الكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ فِيهِ كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ

ضرورة لنصبه الطريق.
وقرأ أبو بكر مَكَانَاتِهِمْ جمعاً، وتقدم في الأنعام. والعامة على "مُضِيًّا" بضم الميم وهو مصدر على فُعُولٍ أصله مُضُويٌ فأدغم وكُسِرَ ما قبل الياء ليصبح نحو "لُقِيًّا". وقرأ أبو حيوة ورُوِيَتْ عن الكِسائيِّ مِضِيًّا (أي) بكسر الميم إتباعاً لحركة العين نحو { عِتِيّاً } و { صِلِيّاً } [مريم:69 - 70] وقرىء بفتحها وهو من المصارد التي وردت على فعِيلٍ كالرَّسيم والزَّمِيلِ.
فصل
المعنى كما أعمينا قلوبهم لو شئنا أعمينا أبصارهم الظاهرة فاستبقوا الصراط فتبادروا إلى الطريق "فَأَنَّى يُبْصِرُونَ" كيف يبصرون وقد أعمينا أعينهم يعني لو نشاء لأضللناهم عن الهُدَى وتركناهم عُمْياً يترددون فكيف يبصرون الطريق حنيئذ؟ هذا قول الحسن، وقتادة، والسدي. وقال ابن عباس ومقاتل وعطاء وقتادة: معناه لو نشاء لَفَقَأنَا أعين ضلالتهم فأعميناهم من غيهم وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى فأبصروا رشدهم فأنى بصرون ولم أفعل لك بهم. { ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم } أي مكانهم أي لو نشاء جعلناهم قِرَدَةً وخنازيرَ في منازلهم لا أزواج لهم { فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلاَ يَرْجِعُونَ } إلى ما كانوا عليه. وقيل: لا يقدرون على ذهابٍ ولا رُجُوع.
قوله: { وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّـسْهُ فِي ٱلْخَلْقِ } قرأ عاصم وحمزة بضم النون الأولى وفتح الثانية وكسر الكاف مشددة من نَكَّسَهُ مبالغة، والباقون بفتح الأولى وتسكين الثانية وضم الكاف، خفيفة من نَكَسَهُ. وهي محتملة للمبالغة وعدمها. وقَدْ تقدم في الأنعام أن نافعاً وابْنَ ذكوان قرءا "تعقلون" والباقون بالغَيْبَة.
فصل
معنى ننكسه نَرُدُّه إلى أرْذَلِ العمر شِبْهَ الصَّبِيِّ في أول الخلق، وقيل: ننكسه في الخلق أي ضعف جوارحه بعد قوتها ونقصانها بعد زيادتها "أفلا يعقلون" فيعتبرون، ويعلمون أن الذي قَدرَ على تَصْريف أحوال الإنسان يقدر على البعث بعد الموت.