خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِزِينَةٍ ٱلْكَوَاكِبِ
٦
وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ
٧
لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَىٰ ٱلْمَلإِ ٱلأَعْلَىٰ وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ
٨
دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ
٩
إِلاَّ مَنْ خَطِفَ ٱلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ
١٠
فَٱسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ
١١
-الصافات

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِزِينَةٍ ٱلْكَوَاكِبِ } قرأ عاصم برواية أبي بكر: "بِزِينَةٍ" منونة ونصب "الكواكب" وفيه وجهان:
أحدهما: أن تكون الزنية مصدراً، وفاعله محذوف بأن زين الله الكواكب في كونها مضيئةً حسنةً في أنفسها.
والثاني: أن الزينة اسم لما يزان به كاللِّيقَةِ اسم لما يُلاَقُ به الدَّوَاة فتكون الكواكب على هذا منصوبة بإضمار أعني أو يكون بدلاً من (الـ)ـسَّمَاء الدُّنْيَا بدل اشتمال أي كواكبها أو من محل "بزِينَةٍ" وحَمْزةُ وحفصٌ كذلك إلا أنهما خفضا الكواكب على أن يراد بزينة ما يزان به، والكواكب بدل أو بيان للزينة وهي قراءة مسروق بن الأجدع. قال الفراء: وهو رد معرفة على نكرة كقوله: "بالنَّاصِيَةِ. نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ" فرد نكرة على معرفة، وقال الزجاج: الكواكب بدل من الزينة لأنها هي كقولك: "مَرَرْتُ بأَبِي عَبْد اللَّه زَيْدٍ". والباقون بإضافة زينَة إلى الكواكب. وهي تحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون إضافة أعم إلى أخص فتكون للبيان نحو: ثَوْبُ خَزٍّ.
الثاني: أنها مصدر مضاف لفاعله أي بأن زَيَّنَتِ الكَوَاكِبُ السَّمَاءَ بضَوْئِهَا.
والثالث: أنه مضاف لمفعوله أي بأن زينها الله بأن جعلها مشرقة مضئية في نفسها، وقرأ ابن عباس وابن مسعود بتنوينها وبرفع الكواكب فإن جَعَلْتَهَا مصدراً ارتفع الكواكب به، وإن جعلتها اسماً لما يزان به فعلى هذا ترتفع "الكواكب" بإضمار مبتدأ أي هي الكواكب. وهي في قوة البدل، ومنع الفراء إعمال المصدر المنون وزعم أنه لم يُسْمَعْ، وهو غلط لقوله تعالى:
{ { إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ } } [البلد:14] كما سيأتي إن شَاءَ اللَّهُ. قوله: "وَحِفْظاً" منصوب على المصدر، بإضمار فعل أي حَفِظْنَاهَا حِفظاً، وإما على المفعول من أجله على زيادة الواو، والعامل فيه زَيَّنَّا، أو على أن يكون العامل مقدراً أي لحِفْظِهَا زَيَّنَّاهَا أو على الحمل على المعنى المتقدم أي: إنا خلقنا السماء الدينا زينةً وحفظاً، و "مِنْ كُلّ" متعلق "بحفْظاً" إن لم يكن مصدراً مؤكداً، وبالمحذوف إن جعل مصدراً مؤكداً؛ ويجوز أن يكون صفةً "لِحفْظاً"، قال المبرد: إذا ذكرت فعلاً ثم عطفت عليه مصدر فعل آخر نصبت المصدر لأنه قد دل على فعله كقولك: أفْعَلُ وكَرَامَةً لما قال أفعل علم أن الأسماء لا تعطف على الأفعال فكان المعنى أفْعَل ذَاكَ وأُكْرِمُكَ كَرَامَةً.
فصل
قال ابن عباس { زينا السماء الدنيا } بضوء الكواكب { وحفظناها من كل شيطان مارد } متمرد يرمون بها، وتقدم الكلام على المارد عند قوله:
{ { مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ } [التوبة: 101]. واعلم أنه تعالى بين أنه زين السماء لمنفعتين:
إحداهما: تحصل الزينة.
والثانية: الحفظ من الشيطان المارد.
فإن قيل: ثبت في علم الهيئة أن هذه الكواكب الثوابت مركوزة في الكرة الثامنة وأن السيارات مركوزة في الكرات السِّتَّةِ المحيطة بسماء الدنيا فكيف يصح قوله: إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب؟.
فالجواب: أن الناس الساكنين على سطح كرة الأرض إذا نظروا إلى السماء فإنهم يشاهدو(نـَ)ـهَا مزينة بهذه الكواكب فصح قوله تعالى: { إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِزِينَةٍ ٱلْكَوَاكِبِ }. وأيضاً فكون هذه الكواكب مركوزة في الفلك الثامن لم يتم دليل الفلاسفة عليه.
فإن قيل: هذه الشهب التي يرمى بها هل هي من الكواكب التي زين الله المساء بها أم لا؟ والأول باطل لأن هذه الشهب تَبْطُل وتَضْمَحِّل فلو كانت هذه الشهب تلك الكواكب الحقيقة لوجب أن يظهر نقصان كثير في أعداد كواكب السماء ولم يوجد ذلك فإن أعداد كواكب السماء باقية لم تتغير ألبتة وأيضاً فجعلها رجوماً للشياطين مما يوجب وقوع النقصان في زينة السماء فكان الجمع بين هذين المقصودين كالمتناقض. وإن كانت هذه الشهب جنساً آخر غير الكواكب المركوزة في الفلك فهو أيضاً مُشْكِل لأنه تعالى قال في سورة الملك:
{ { وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ } [الملك:5] فالضمير في قوله: "وَجَعَلْنَاهَا" عائد إلى المصابيح فوجب أن تكون تلك المصابيح هي الرجوم بأعينها.
فالجواب: أن الشهبَ غير تلك الكواكب الثاتبة وأما قوله تعالى: { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين } فنقو(ل) كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض إلا أن تلك المصابيح منها باقية على وجه الأرض آمنة من التغير والفساد ومنها ما لا يكون كذلك وهي هذه الشهب التي يحدثها الله تعالى ويجعلها رجوماً للشياطين إلى حيث يعلمون وبهذا يزول الإشكال.
فإن قيل: كيف يجوز أن تذهب الشياطين حيث يعلمون أن الشهب تحرقهم ولا يصلون إلى مقصودهم البتة وهل يمكن أن يصدر (مثل) هذا الفعل عن عاقل فكيف من الشياطين الذين لهم مَزِيَّة في معرفة الحِيل الدقيقة؟.
فالجواب: أن حصول هذه الحال ليس له موضع معين وإلا لم يذهبوا إليه وإنما يمنعون من المصير إلى مواضع الملائكة ومواضعها مختلفة فربما صاروا إلى موضع تصيبهم الشهب وربما صاروا إلى غيره ولا صادفوا الملائكة ولا تصيبهم الشهب فلما هلكوا في بعض الأوقات وسلموا في بعض الأوقات جاز ان يصيروا إلى مواضع يغلب على ظنونهم أنهم لا تصيبهم الشهب فيما كما يجوز فيمن سَلَك البَحْرَ أن يسلكه في موضع يغلب على ظنه حصول النجاة. هذا ما ذكره أبو عَلِيٍّ الجُبَّائي في الجواب عن (هذا) السؤال في تفسيره وفي هذا الجواب نظر فإن السموات ليس فيها موضع خال من الملائكة لقوله - عليه (الصلاة و) السلام -:
"أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ قَدَمٍ إِلاَّ وَفيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ سَاجِدٌ" ، قال ابن الخطيب: ولقائل أن يقول: إنهم إذا صعدوا إما أن يَصِلوا إلى مواضع (الملائكة) وإلى غير (تلك) المواضع فإن وصلوا إلى مواضع الملائكة احترقوا وإن وصلوا إلى غير مواضع الملائكة لم يفوزوا بمقصود أصلاً وعلى كلا التقديرين فالمقصود غير حاصل. وإذا كان الفوز بالمقصود محالاً وجب أن يمتنعوا عن هذا الفعل وألا يقدموا عليه أصلاً بخلاف حال المسافر في البحر فإن الغالب عليهم السلامة والفوز بالمقصود وأما ههنا فالشيطان الذي يسلم من الإحراق إنما يسلم إذا لم يصل إلى مواضع الملائكة وإذا لم يصل إلى ذلك الموضع لم يفز بالمقصود فوجب أن لا يعود إلى هذا العمل البتة والأقرب في الجواب أن يقال هذه الواقعة إنما تتفق في الندرة فلعلها لا تشتهر بسبب نُدْرَتِهَا فيما بين الشياطين. والله أعلم. فإن قيل: دلتنا التواريخ المتواترة على أن حدوث الشهب كان حاصلاً قبل مجيء النبي - صلى الله عليه وسلم- (ولذلك) فإن الحكماء الذين كانوا موجودين قبل مجيء النبي - صلى الله عليه وسلم - بزمان طويل ذكروا ذلك وتكلموا في سبب حدوثه وإذا ثبت أن ذلك كان موجوداً قبل مجيء النبي - صلى الله عليه وسلم - امتنع حمله على مجيء النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاب القاضي بأن الأقرب أنَّ هذه الحالة كانت موجودة قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنها كثرت في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - فصارت بسبب الكثرة معجزةً.
فإن قيل: الشيطان مخلوق من النار كما حكي عن قول إبليس
{ { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ } } [الأعراف:12] وقال: { { وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ } } [الحجر:27] ولهذا السبب يقدر على الصعود إلى السموات وإذا كان كذلك فكيف يعقل إحراق النار بالنار؟.
فالجواب: يحتمل أن الشياطين وإن كانوا من النِّيران إلا أنَّها نيران ضعيفة ونيران الشهب أقوى حالاً منهم ولا جَرَمَ صار الأقوى للأضعف مبطلاً، ألا ترى أن السراج الضعيف إذا وضع في النار القوية فإنه ينطفىء فكذلك ههنا.
قوله: "لاَّ يَسَّمَّعُونَ" قرأ الأخوان وَحفصٌ بتشديد السين (فالميم) والأصل يَسْتَمِعُونَ فأدغم، والباقون بالتخفيف فيهما. واختار أبو عُبَيْدٍ الأولى وقال: لو كان مخففاً لم يتعد بإِلى. وأجيب عنه بأن معنى الكلام لا يسمعون إلى الملأ، وقال مكي: لأنه جرى مجرى مُطَاوِعِهِ وهو يسّمعون فكما كان يسمع يتعدى "بإلى" تعدى سَمِع بإلى، وفَعِلْتُ وافْتَعَلْتُ في التعدي سواء فتسمع مطاوع سمع واستمع أيضاً مطاوع سمع فتعدى سمع تعدّي مطاوعه. وهذه الجملة منقطعة عما قبلها ولا يجوز فيها أن تكون صفة لشيطان على المعنى إذ يصير التقدير: مِنْ كُلّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ غير سامع أو مستمع وهو فاسد، ولا يجوز أن يكون جواباً لسؤال سائل: لم تحفظ من الشياطين؟ إذ يفسد معنى ذلك. وقال بعضهم: وأصل الكلام لئلا يسمعوا فحذفت "اللام وأن" فارتفع الفعل وفيه تعسف. وقَدْ وَهِمَ أبو البقاء فجوّز أن تكون صفة وأن تكون حالاً وأن تكون مستأنفة فالأولان ظاهِرَا الفساد والثَّالث إنْ عني به الاستئناف البياني فهو فاسد أيضاً. وإن أراد الانقطاع على ما تقدم فهو صحيح.
فصل
واحتجوا لقراءة التخفيف بقوله تعالى:
{ { إِنَّهُمْ عَنِ ٱلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } } [الشعراء:212]. وروى مجاهد عن ابن عباس: أن الشياطين يسمعون إلى الملأ الأعلى ثم يمنعون ولا يسمعون وللأولين أن يجيبوا فيقولوا التنصيص على كونهم معزولين عن السمع لا يمنع من كونهم معزولين أيضاً عن التسمع بدلالة هذه الآية بل هذا أقوى في رَدْعِ الشياطين ومنعهم من استماع أخبار السماء فإن الذي منع من الاستماع بأن يكون ممنوعاً عن السمع أولى واعلم أن الفرق بين قولك: سَمِعْتُ حَدِيثَ فُلاَن وبين قولك: سَمِعْتُ إلى حَدِيثه أنّ قولك: سَمِعْتُ حديثَه يفيد الإدراك وسمعت إلى حديثه يفيد الإصفاء مع الإدراك، وفي قوله: { لا يسمعون إلى الملإ الأعلى } قولان أشهرهما: أن تقدير الكلام لئلا يسمعوا، فلما حذف الناصب صار كقوله: { { يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [النساء:176] وقوله: { { رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [النحل:15]. قال الزمخشري: حذف اللام وإن كل واحد منهما جائز بانفراده وأما اجتماعهما فمن المنكرات التي يجب صون القرآن عنها، قال الزمخشري: إنه كلام منقطع عما قبله وهو حكاية المُسْتَرِقِينَ السمع وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة ويتسمعوا وهم مقذوفون بالشهب مدحورون عن المقصود. والملأ الأعلى هم الملائكة الكتبة سكان السموات ومعنى يُقْذَفُونَ يُرْمَوْنَ من كل جانب من آفاق السماء.
قوله: "دُحُوراً" العامة على ضم الدال. وفي نصبه أوجه:
أحدهما: المفعول له أي لأجل الطرد.
الثاني: مصدر ليقذفون أي يُدْحَرُونَ دُحُوراً أو يُقْذَفُون قذفاً فالتجوز إما في الأول وإما في الثاني.
الثالث: أنه مصدر لمقدر أي يُدْحَرُونَ دُحُوراً.
الرابع: أنه في موضع الحال أي ذَوِي دُحُورٍ أو مَدْحُورِينَ. وقيل: هو جمع دَاحِر قَاعِد وقُعُودٍ فيكون حالاً بنفسه من غير تأويل. قال مجاهد: دحوراً مطرودين. وروي عن أبي عمرو أنه قرأ ويَقْذِقُونَ مبنياً للفاعل وقرأَ علِيٌّ والسُّلَمِّي وابنُ أَبِي عَبْلَةَ دَحْوراً بفتح الدال وفيها وجهان:
أحدهما: أنه صفة لمصدر مقدر أي قَذْفاً دَحُوراً. وهو كالصَّبُور والشَّكُورِ.
والثاني: أنه مصدر كالقبُول والوَلُوع وقد تقدم أنه محصور في ألفاظ، والدُّحُور قال المبرد: أشد الصغار والذل. وقال ابن قتيبة: دَحَرْتُهُ دُحُوراً ودَحْراً أي دَفَعْتُهُ وطَرَدْتُهُ. وتقدم في الأعراف عند قوله:
{ { مَذْءُوماً مَّدْحُوراً } [الأعراف:18].
قوله: { وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ } قال مقاتل: دائم إلى النفخة الأولى. وتقدم في سورة النحل في قوله:
{ { وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِباً } [النحل:52].
قوله: { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ } فيه وجهان:
أحدهما: أنه مرفوع المحل بدلاً من ضمير "لا يَسَّمَّعُونَ" وهو أحسن لأنه غير موجب.
والثاني: أنه منصوب على أصل الاستثناء، والمعنى: أن الشياطين لا يسمعون الملائكة إلا من خطف، قال شهاب الدين: ويجوز أن يكون "من" شرطية وجوابها: "فَأَتْبَعَهُ" أو موصولة وخبرها "فَأَتْبَعَهُ". وهو استثناء منقطع وقد نصوا على أن مثل هذه الجملة تكون استثناء منقطعاً كقوله:
{ { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ إِلاَّ مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ } [الغاشية: 22، 23]، والخَطْفَةُ مصدر معرف بأل الجنسية أو العهدية، وقرأ العامة خَطِفَ بفتح الخاء وكسر الطاء مخففة، وقتادةُ والحسنُ بكسرهما وتشديد الطاء. وهي لغة تميم بن مُرة وبكر بن وائل. وعنهما أيضاً وعن عيسى: بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة وعن الحسن (أيضاً) خطف كالعامة. وأصل القراءتين اختطف فلما أريد الإدغام سكنت التاء وقبلها الخاء ساكنة فكسرت الخاء لالتقاء الساكنين ثم كسرت الطاء إتباعاً لحركة الخاء وهذه [الأولى] واضحةٌ. وأما الثانية فمشكِلةٌ جدّاً لأن كسر الطاء إنما كان لكسر الخاء وهو مفقود. وقد وجه على التَّوَهُّم وذلك أنهم لما أرادوا الإدغام نقلوا حركة التاء إِلى الخاء ففتحت وهم يتوهمون أنهم مكسورة لالتقاء الساكنين - كما تقدم تقريره - فأتبعوا الطاء لحركة الخاء المتوهمة، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في مقتضيات الإعراب فلأن يَفْعَلُوه في غيره أولى. وبالجملة فهو تعليل شذوذ، وقرأ ابنُ عَبَّاسٍ خِطِفَ بكسر الخاء والطاء خفيفةً. وهو إتباع كقولهم: نِعِمْ بكسر النون والعين. وقرىء فاتَّبعه بالتشديد.
فصل
ومعنى الخطف أي اختلس الكلمة من كلام الملائكة مسارقةً "فأتبعه" أي لحقه شهاب ثاقب كوكب مضيء قوي لا يخطئه يقلته أو يحرقه، قيل: سمي ثاقباً لأنه يَثْقُبُ بنوره سَبْعَ سمواتٍ. وقال عطاء: سمي النجم الذي يرمي به الشياطين ثاقباً لأنه يَثْقُبُهُمْ وإنما يعودون إلى استراق السمع مع علمهم بأنهم لا يصلون إليه طمعاً في السلامة ونيل المراد كراكب البَحْر.
قوله: { فَٱسْتَفْتِهِمْ } يعني كفار مكة أي سَلْهُمْ { أهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا } يعني السموات والأرض والجبال. وهو استفهام بمعنى التقرير أي هذه الأشياء أشد خلقاً كقوله:
{ { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ } } [غافر: 57] وقوله: { { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا } } [النازعات:27]. (وقيل: معنى) أَمَّنْ خَلَقْنَا (يعني): من الأمم الخالية لأن مَن تذكر لمن يعقل. والمعنى أن هؤلاء ليسوا بأحكَم خلقاً من غيرهم من الأمم وقد أهلكناهم في ذنوبهم فما الذي يُؤمِّنُ هؤلاء من العذاب.
قوله: "أمَّنْ خَلَقْنَآ" العامة على تشديد الميم. الأصل أَمْ مَنْ وهي "أَمْ" المتصلة عطفت "من" على "هم" وقرأ الأعمش بتخفيفها وهو استفهام ثانٍ، فالهمزة للاستفهام أيضاً و "مَنْ" مبتدأ وخبره محذوف أي الذين خلقناهم أشد، فهما جملتان مستلقتان، وغلب من يعقل على غيره ولذلك أتى "بمن" قوله: { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } أي جيّد حر لاصق يعْلِقُ باليد. واللازبُ واللازمُ بمعنى. وقد قرىء: لاَزمٌ، لأنه يلزم اليد، وقيل: اللازِبُ اللَّزج. وقال مجاهد والضحاك: مُنْتِن، وأكثر أهل اللغة على أن الباء في اللازب بدل من الميم.
فصل
وجه النظم: أنه قد تقرر أن المقصود الأعظم من القرآن إثبات الأصول الأربعة وهي الإلهيّات والمَعَاد والنُّبُوة وإثبات القَضَاء والقدر فافتتح تعالى هذه السورة بإثبات ما يدل على وُجُود الصانع وعلى علمه وقدرته وحكمته ووحدانيته وهو خالق السموات والأرض وما بينهما وَربّ المشارق، ثم فرع عليها إثبات الحشر والنشر والقيامة وهو أن من قدر على ما هو أصعب وأشق وجب أن يقدر على ما هو دونه وهو قوله: { فَٱسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ } فمن قدر على ما هو أشد وأصعب فبِأَنْ يكونَ قادراً على إعادة الحياة في هذه الأجساد كان أولى. وأيضاً فقوله: { إنا خلقناهم من طين لازب } يعني أن هذه الأجساد قابلة للحياة إذ لو تكن قابلةً للحياة لما صارت حية في المرة الأولى والمراد بقوله: { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } يعني أصلهم وهو آدم - عليه (الصلاة و) السلام - رُوِيَ أنَّ القوم قالوا: كيف يعقل تولد الإنسان لا من أبوين ولا من نطفة؟ فكأنه تعالى قال لهم: إنكم لما أقررتم بحُدوثِ العَالَم واعترفتم بأن السموات والأرض وما بينهما إنما حصل بتخليق الله تعالى وتكوينه فلا بد وأن يعترفوا بأن الإنسان الأول إنما حدث لا من الأبوين فإن اعْتَرَفْتُمْ به فقد سقط قولكم: إن الإنسان كيف يحدث من غير نطفة ومن غير الأبوين؟ وأيضاً فقد اشتهر عند الجمهور أن آدم مخلوق من طين لازب ومن قدر على خلق الحياة من الطين اللازب كيف يعجز عن إعادة الحياة إلى هذه الذوات ويمكن أن يكون المراد بقوله: { إنا خلقناهم من طين لازب } أي كل الناس ووجهه أن الحيوان إنما يتولد من المَنِي ودَم الطَّمْثِ والمني إنما يتولد من الدَّم فالحيوان إنما يتولد من الدم والدم إنما يتولد من الغِذَاء، والغذاء إما حيوانيّ وإما نباتيّ، أما تولد الحيوان الذي صرا غذاءً فالكلام في كيفية تولده كالكلام في تولد الإنسان فثبت أن الأصل في الأغذية هو النبات والنبات إنما يتولد من امتزاج الأرض بالماء وهو الطين اللازب فظهر أن كل الخلق (منه) مُتَوَلِّدُونَ من الطِّينِ اللازب وهو قابل للحياة والله تعالى قادر عليها. وهذه القابلية والقادرية واجبة البقاء فوجب بقاء هذه الصفة في كل الأوقات. وهذه بيانات ظاهرة.