خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو ٱلأَوْتَادِ
١٢
وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لْئَيْكَةِ أُوْلَـٰئِكَ ٱلأَحْزَابُ
١٣
إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ
١٤
وَمَا يَنظُرُ هَـٰؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ
١٥
وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ
١٦
ٱصْبِر عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ
١٧

اللباب في علوم الكتاب

ثم قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - معزياً له: { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو ٱلأَوْتَادِ } قال ابن عباس ومحمد بن كعب: ذو البِناء المحكم، وقيل: أراد ذو الملك الشديد الثابت، وقال القتيبيّ: تقول العرب: هم في عِزٍّ ثابت الأوتاد بريدون أنه دائم شديد، وقال الضحاك: ذو القوة البطش، وقال عطية: ذو الجنود والجموع الكثيرة، وسميت الأجناد أوتاداً لكثرة المضارب التي كانوا يضربونها ويوتدونها في أسفارهم. وهي رواية عطية العوفي عن ابن عباس يعني أنهم كانوا يقوون أمره ويشدون ملكه كما يقوي الوتد الشيء. وهذه استعارة بليغة حيث شبه الملك ببيت الشَّعر، وبيت الشعر لا يثبت إلا بالأوتاد والأطْنَاب كما قال الأفوه الأودي:

4253- والْبَيْتُ لاَ يُبْتَنَى إلاَّ عَلَى عُمُدٍ وَلاَ عِمَادَ إذَا لَمْ تُرْسَ أَوْتَادُ

فاستعير لثبات العز والملك واستقرار الأمر كقول الأسود بن يعفر:

4254- وَلَقَدْ غَنُوا فِيهَا بِأَنْعَمِ عِيشةٍ فِي ظِلّ مُلْكٍ ثَابِتِ الأَوْتَادِ

والأوتاد جمع وتد فيه لغات: وَتِدٌ بفتح الواو وكسر التاء وهي الفصحى، ووتَدَ بفتحتين، وَوَدٌّ بإدغام التاء في الدال قال:

4255- تُخْرِجُ الْوَدَّ إذَا ما أَشْجذَتْ وَتُوَارِيه إذَا تَشْتَكِرْ

ووت بإبدال (الدال) تاء، ثم إدغام التاء فيها، وهذا شاذ؛ لأن الأصل إبدال الأول للثاني لا العكس، وقد تقدم نحوٌ من هذا في آل عمران عند قوله: { { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ } [آل عمران:185].
ويقال: وَتِدٌ (وَاتِد) أي قويّ ثابتٌ وهو مثلُ مجازِ قولهم: شُغل شاغِل.
أنشد الأصمعي:

4256- لاَقَتْ (عَلَى) الْمَاءِ جُذَيْلاً واتداوَلَمْ يَكُنْ يُخْلِفُهَا الْمَوَاعِدَا

وقيل: الأوتاد هنا حقيقة لا استعارة، (و) قال الكبي ومقاتل: الأوتاد جمع الوَتدِ وكان له أوتاد يعذب الناس عليها فكان إذا غضب على أَحَد مده مستلقياً بين أربعة أوتاد تشدّ كل يد ولك رجل منه إلى سارية ويتركه كذلك في الهواء بين السماء والأرض حتى يموت. وقال مجاهد ومقاتل بن حيَّان كان يمد الرجل مستلقياً على الأرض ثم يشد يديه ورجليه ورأسه على الأرض بالأوتاد. وقال السدي: كان يمد الرجل ويشده بالأوتاد ويرسل عليه العقارِبَ والحيَّاتِ. وقال قتادة وعطاء: كانت له أوتاد وأرسان وملاعب يلعب عليها بين يديه، ثم قال: { وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ } تقدم الخلاف في الأيكة في سورة الشعراء.
قوله: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلأَحْزَابُ } يجوز أن تكون مستأنفةً لا محل لها (من الإعراب) وأن تكون خبراً، والمبتدأ قال أبو البقاء (من) قوله: "وعاد" وأن يكون من "ثمود" وأن يكون من قوله "وقوم لوط".
قال شهاب الدين: الظاهر عطف (عاد) وما بعدها على "قوم نوح" واستئناف الجملة بعده، وكان يسوغ على ما قاله أبو البقاء أن يكون المبتدأ وحده { وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ }.
فصل
المعنى أن هؤلاء الذين ذكرناهم من الأمم هم الذين تحزبوا على أنبيائهم فأهلكناهم وكذلك قومك هم من جنس الأحزاب المتقدمين. وقيل: المعنى أولئك الأحزاب مع كمال قوّتهم لما كان عاقبتهم هي الهلاك والبوار فكيف حال هؤلاء الضعفاء (المساكين)؟
قوله: { إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ } إن نافية ولا عمل لها هنا البتة ولو على لغة من قال:

4257- إنْ هُوَ مُسْتَوْلِياً عَلَى أَحَدٍ.....................

وعلى قراءة: { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَاداً } [الأعراف:194] لانتقاض النفي بـ "إلاّ" فإن انتقاضه مع الأصل وهي "ما" مبطل فكيف بفرعها؟ وقد تقدم أنه يجوز أن تكون جواباً للقسم.
فصل
المعنى كل هذه الطوائف لما كذبوا أنبياءهم في الترغيب والترهيب لا جرم نزل العقاب عليهم وإن كان ذلك بعد حين، والمقصود منه زجر السامعين. ثم بين تعالى أن هؤلاء المكذبين وإن تأخر هلاكهم فكأنه واقع بهم { وَمَا يَنظُرُ هَـٰؤُلآءِ } أي وما ينتظر هؤلاء يعني كفار مكة { إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً } وهي نفخة الصور الأولى كقوله:
{ { مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } [يس:49-50] والمعنى أنهم وإن لم يذوقوا عذابي في الدنيا فَهو معدٌّ لهم يوم القيامة فجعلهم منتظرين لها على معنى قربها منهم كالرجل الذي ينتظر الشيء فهو ماد الطَّرْف إليه يقطع كل ساعة في حضوره. وقيل: المراد بالصيحة عذاب يفجأُهُمْ ويجيئهم دَفْعةً واحدة كما يقال: صَاحَ الزمانُ بهم إذَا هَلَكُوا (قال):

4658- صَاحَ الزَّمَانُ بآلِ بَرْمَكَ صَيْحَةً خَرُّوا لِشِدَّتِهَا عَلَى الأَذْقَانِ

ونطيره قوله تعالى: { { فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَٱنْتَظِرُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُنْتَظِرِينَ } [يونس:102].
قوله: { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } يجوز أن يكون "لها" رافعاً "لِمنْ فَوَاقٍ" بالفاعلية؛ لاعتماده على النفي، وأن يكون جملة من مبتدأ وخبر وعلى التقديرين فالجملة المنفية في محل نصب صفة "لصَيْحَة" و "من" مزيدة. وقرأ الأخوان: "فُوَاق" بضم الفاء، والباقون بفَتْحها، قال الكسائيُّ والفراءُ وأبو عبيدة: هما لغتان وهما الزمان الذي بين حَلْبَتَي الحَالِبِ، ورَضْعَتَي الرَّاضع، والمعنى ما لها من توقف قدر فواق ناقة.
وفي الحديث:
"العِيادَةُ قَدْر فَوَاق نَاقَةٍ" . وهذا في المعنى كقوله: { { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً } [الأعراف:34].
وقال ابن عباس: ما لها من رُجُوع من أفاقَ المريضُ إذا رجع إلى صحته وإفاقة الناقة ساعة يرجع اللبن إلى ضرعها يقال: أَفَاقَتِ النَّاقَةُ تُفِيقُ إفاقةً رَجَعَت الفِيقَةُ في ضَرعها، والفِيقةُ اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين، ويجمع على أفواق وأما أفاويق فجمع الجمع، ويقال: ناقة مُفِيقٌ ومُفِيقَةٌ.
وقال الفراء وأبو عُبَيْدَة ومؤرّج السّدوسيّ: الفواق بالفتح الإفاقة والاسْتِراحة كالجواب من الإجابة وهو قول ابن زيدٍ والسُّدِّيِّ.
وأما المضموم فاسم لا مصدر أي اسم لما بين الحَلْبَتَيْن، والمشهور أنهما بمعنى واحد كقَصَاصِ الشّعر وقُصاصِهِ وجَمَام المَكُول وجُمَامِهِ، فالفتح لغة قريش، والضم لغة تميم. قال الواحدي: الفَوَاق والفُواق اسمان من الإفاقة. والإفاقة معناها الرجوع والسكون كما في إفاقة المريض إلا أن الفَوَاق بالفتح يجوز أن يُقَام المصدر، والفُواق بالضم اسم لذلك الزمان، الذي يعود فيه اللبن، وروى الواحدي في البسيط عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في هذه الآية: يأمر الله تعالى إسرافيل فينفخ نفخة الفزع قال: فَيمدّها ويطولها وهي التي يقول ما لها من فواق، ثم قال الواحدي: وهذا يحتمل معنيين:
أحدهما: ما لها من سكون.
الثاني: ما لها من رجوع والمعنى ما تسكن تلك الصيحة ولا ترجع إلى السكون ويقال لكل من بقي على حالة واحدة بأنه لايُفيقُ منه ولاَ يَسْتَفيقُ.
قوله: "قطنا" أن نَصِيبَنَا وحَظَّنَا، وأصله من قَطَّ الشيءَ أي قَطَعَهُ، ومنه قَطّ القلم والمعنى قطعه مما وعدتنا به ولهذا يطلق على الصحيفة والصك قِطّ، لأنهما قطعتان يقطعان، ويقال للجائزة أيضاً قِطّ لأنها قطعة من العطية، قال الأعشى:

4259- وَلاَ الْمَلِكُ النُّعْمَان يَوْمَ لَقِيتُهُ بِغِبْطَتِهِ يُعْطِي القُطُوطَ وَيَأفِقُ

وأكثر استعماله في الكتاب، قال أمية بن أبي الصّلت:

4260- قَوْمٌ لَهُمْ سَاحَةُ أَرْضِ العِرَاقِ وَمَا يُجْبَى إلَيْهِمْ بِهَا وَالقِطُّ وَالْقَلَم

ويجمع على قُطُوط كما تقدم، وعلى قِطَطَةٍ نحو: قِرْد وقِرَدَةٍ وقُرُود، وفي القلة على أَقِطَّةٍ وأَقْطَاطٍ كقِدْح وأَقْدِحَةٍ وأَقْدَاحٍ، إلا أن أفْعِلَةً في فِعْلٍ شاذ.
فصل
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس يعني كتابنا. والقِطّ: الصحيفة أحصت كل شيء، قال الكلبي: لما نزل قوله في الحاقة:
{ { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } [الحاقة:19] { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ } [الحاقة:25] قالوا استهزاء: عجل لنا كتابنا في الدنيا قبل يوم الحساب، وقال سعيد بن جبير: يعنون حظنا ونصيبنا من الجنة التي تقول. وقال الحسن وقتادة ومجاهد والسدي: عين عقوبتنا ونصيبنا من العذاب قال عطاء: قاله النَّضْر بن الحَرث وهو قوله: { { إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [الأنفال:32] وعن مجاهد قطنا: حسابنا يقال للكتاب قط.
قال أبو عبيدة والكسائي: القط الكتابة بالجوائز. واعلم أن القوم تعجبوا من أمور ثلاثة، أولها: من أمر النبوات وإثباتها فقال: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ".
وثانيها: تعجبهم من الإليهات فقالوا: أَجَعَلَ الآلهةَ إلهاً وَاحِداً.
وثالثها: تعجبهم من المعاد والحشر والنشر فقالوا: { رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ }، قالوا ذلك استهزاء فأمره الله تعالى بالصبر على سفاهتهم فقال: { ٱصْبِر عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ }.
فإن قيل: أي تعلق بين قوله: { ٱصْبِر عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } وبين قوله { وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ }؟
فالجواب: هذا التعلق من وجوه:
الأول: كأنه قيل: إن كنت شاهدت من هؤلاء الجُهّال جَرَاءتَهم على الله وإنكارَهم الحَشْرَ والنشرَ فاذكر قصة داود حتى تعرف شدة خوفه من الله تعالى ومن يوم الحشر فإن بقَدْرِ ما يَزْدَادُ أحدُ الضِّدين شرفاً يزداد (الضّدّ) الآخر نقصاناً.
الثاني: كأنه قيل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - (لا) تضيق صدرك بسبب إنكارهم لقولك ودينك فإنهم وإن خالفوك فالأكابر من الأنبياء وافقوك.
الثالث: أن للناس في قصة داود قولان: منهم من قال: إنها تدل على دِينه، ومنهم من قال إنها لا تدل عليه فمن قال بالأول كان وجه المناسبة فيه كأنه قيل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - إنّ حزنك ليس إلا لأن الكفار كذبوك، وأما حزن داود فكان بسبب وقوع ذلك الذنب، ولا شك أن حزنه أشد فتأمل في قصة داود وما كان فيه من الحزن. ومن قال بالثاني قال الخَصْمَان اللذان دخلا على دَاوُدَ كَانَا من البشر وإنما دخلا عليه لقصد قتله، فخاف منهما داودُ ومع ذلك فلم يتعرض لإيذائهما ولا دعا عليهما بسُوء بل اسْتَغْفَر لهم على (ما سيجيء تقرير هذه الطريقة)، فلا جَرَمَ أمر الله تعالى محمداً - صلى الله عليه وسلم - بأن يقتدي به في حسن الخلق.
الرابع: أن قريشاً إنما كذبوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - واستخفوا به لقولهم: إنه يتيم فقير، ثم إنه تعالى قصَّ على محمد - صلى الله عليه وسلم - ما كان في مَمْلَكَةِ داود، ثم بين بعد ذلك أنه ما سلم من الأحزان والغموم ليَعْلم أن الخَلاص من الحزن لاسبيل إليه في الدنيا.
الخامس: قوله تعالى: { ٱصْبِر عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ } ولم يقتصر على قصة داود بل ذكر عقيبَ قصة داود قصص أنبياء كثيرة فكأنه تعالى قال: فاصبر على ما يقولون واعتبر بحال سائر الأنبياء ليُعْلِمَهُ أن كل واحد منهم كان مشغولاً بهَمٍّ خاص وحزن خاص فيعلم حنيئذ أن لا انفكاك عن الهموم والأحزان وأن استحقاق الدرجة العالية عند الله لا تحصل إلى بتحمل المشاق والمتاعب في الدنيا.
قال ابن الخطيب: وههنا وجه آخر قويٌّ وأحسن من كل هذه الوجوه وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى عند الانتهاء إلى تفسير قوله:
{ { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ } الآية [ص:29].
قوله: "دَاوُودَ" بدل أو عطف بيان، أو منصوب بإضمار أعْنِي و "ذَا الأَيْدِ" نعت له، والأيد القوة، قال ابن عباس: أي القوة في العبادة، وقيل: القوة في المِلك، واعلم أن قوله: "عَبْدَنَا دَاوُودَ" فوصفه بكونه عبداً له. وعبر عن نفسه بصيغة الجمع الدالة على نهاية التعظيم وذلك يدل على غاية التشريف ألا ترى أنه تعالى لما أراد أن يشرف محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج، قال:
{ { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ } [الإسراء:1] وأيضاً فإن وصف الأنبياء بالعبودية مُشْعِرٌ بأنهم قد حصلوا معنى العبودية بسبب الاجتهاد في الطاعة والمراد بالأيد القوة في الطاعة والاحتراز عن المعاصي لأن مدحه بالقوة يوجب أن تكون تلك القوة موجبة للمدح العظيم وليست إلا القوة على فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه، والأيد المذكورة ههنا كالقوة المذكورة في قوله: { { يَٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } [مريم:12] وقوله: { { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } [الأعراف:145] أي باجتهاد وتشدد في القيام بالدعوة وترك إظهار الوهن والضعف، والأيد (و) القوة سواء، ومنه قوله: { { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ } [الأنفال:62] وقوله: { { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } [البقرة: 87] (وقوله): { { وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيْدٍ } [الذاريات:47] وقال عليه (الصلاة و) السلام: "أحَبُّ الصِّيَام إلَى الله صِيَامُ دَاوُدَ عَلَيْهِ (الصَّلاَة و) السَّلام وأَحَبُّ الصَّلاَة إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ صَلاَةُ دَاوُدَ كَان يَصُومُ يَوْماً وَيُفْطِرُ يَوْماً وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ ويَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ" .
قوله: "إِنَّهُ أَوَّابٌ" أي رجاع إلى الله عزّ وجلّ بالتوبة عل كل ما يكره، والأَوَّابُ فعَّالٌ من آبَ يَؤُوبُ إذا رَجَعَ قال تعالى: { { إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ } [الغاشية:25] وهذا بناء مبالغة كما يقال: قَتّال وضَرَّاب وهو أبلغ من قَاتِل وضارب، وقال ابن عباس: مطيع، وقال سعيد من جبير: مسبِّح بلغة الحبشة.