خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

هَـٰذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ
٥٥
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ
٥٦
هَـٰذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ
٥٧
وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ
٥٨
هَـٰذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ ٱلنَّارِ
٥٩
قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ
٦٠
قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَـٰذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي ٱلنَّارِ
٦١
وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَىٰ رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ ٱلأَشْرَارِ
٦٢
أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ ٱلأَبْصَار
٦٣
إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ ٱلنَّارِ
٦٤

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { هَـٰذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ } يجوز أن يكون "هذا" مبتدأ، والخبر مقدر، فقدره الزمخشري: "هذا كما ذكر" وقدره أبو علي للمؤمنين، ويجوز أن يكون خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي الأمرُ هذا.
فصل
لما وصف ثواب المؤمنين وصف بعده عقاب الظالمين ليكون الوعيد مذكوراً عقيبَ الوعد والترهيب عقيب الترغيب فقال: { هَـٰذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ } أي مرجع، وهذا في مقابلة قوله: { وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ }. والمراد "بالطاغين": الكفار، وقال الجبائي: هم أصحاب الكبائر سواء كانوا كفاراً أم لا، واحتج الأولون بقوله: { أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً }؛ ولأن هذا ذمّ مطلق فلا يحمل إلا على الكامل في الطغيان وهو الكافر، واحتج الجبائي بقوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [العلق: 6-7] فدل على أن الوصف بالطغيان قد يحصل لصاحب الكبيرة، لأن كل من تجاوز حدّ تكاليف الله وتعداها فقد طغى.
قوله: "جَهَنَّمَ" يجوز أن يكون بدلاً من "شَرَّ مَآبٍ" أو منصوبة بإضمار أعني فعل، وقياس قول الزمخشري في: "جَنَّاتِ عَدْنٍ" أي يكون عطف بيان وأن يكون جهنم منصوبة بفعل يتقدمه على الاشتغال أي يَصْلَوْنَ جَهْنَّمَ يَصْلَوْنَها، والمخصوص بالذم محذوف أي "هِيَ".
قوله: "فَبِئْسَ الْمِهَادُ" هو معنى قوله:
{ { لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [الأعراف:41] شبَّه الله تعالى ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفرشه النائمُ.
قوله: "هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ" في هذا أوجه:
أحدها: أن يكون مبتدأ وخبره: "حميمٌ وغَسَّاقٌ". وقد تقدم أن اسم الإشارة يكتفي بواحدة في المثنى كقوله:
{ { عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ } [البقرة:68] أو يكون المعنى: هذا جامع بين الوصفين ويكون قوله: "فَلْيَذُوقُوهُ" جملة اعتراضية.
الثاني: أن يكون "هذا" منصوباً بمقدر على الاشتغال أي لِيَذُوقُوا هذا، وشبهه الزمخشري بقوله تعالى:
{ { وَإِيَّايَ فَٱرْهَبُونِ } [البقرة:40] يعني على الاشتغال والكلام على مثل هذه الفاء قد تقدم. و "حمِيمٌ" على هذا خبر مبتدأ مضمر، أو مبتدأ وخبره مضمر أي مِنْهُ حميمٌ ومنهُ غسَّاقٌ كقوله:

4277- حَتَّى إذَا مَا أَضَاءَ الْبَرْقُ فِي غَلَسٍ وَغُودِرَ البَقْلُ مَلْوِيٌّ ومَحْصُودُ

أي منه ملويٌّ ومنه محصود.
الثالث: أن يكون "هذا" مبتدأ والخبر محذوف أي هذا كَمَا ذُكِرَ أو هذا للطاغين.
الرابع: أنه خبر مبتدأ مضمر أي الأمر هذا. ثم استأنف أمراً فقال "فَلْيَذُوقُوهُ".
الخامس: أن يكون مبتدأ خبره فليذوقوه وهو رأي الأخفش. ومنه:

4278- وَقَائِلَةٍ خَوْلاَنُ فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ

وتقدم تحقيق هذا عند قوله: { { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ } [المائدة:38]. وقرأ الأَخَوانِ وحفصٌ غَسَّاق بتشديد السين هنا وفي { { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ } [النبأ:1] وخَفَّفَهُ الباقون فيهما. فأما المثقل فهو صفة كالجّبَّار والضَّرَّاب مثال مبالغةٍ وذلك أن "فَعَّالاً" في الصفات أغلب منه في الاسم. ومِنْ وُرُودِهِ في الأسماء الكلاَّء والحَبَّان والفَيَّاد لذَكَر البوم والعَقَّار والخَطَّار. وأما المخفف فهو اسم لا صفة لأن فَعَالاً بالتخفيف في الأسماء كالعَذَاب والنَّكَال أغلب منه في الصفات على أنَّ منْهُمْ من جعلَهُ صفةً بمعنى "ذو كذا" أي ذِي غَسَق، وقال أبو البقاء أو يكون "فَعَّال" بمعنى فَاعِلٍ. قال شهاب الدين: وهذا غير معروفٍ.
فصل
قيل: هذا على التقديم والتأخير. والتقدير: هذا حميمٌ وغَسَّاق (فَليَذُوقُوهُ، وقيل: التقدير: جهنم يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه ثم يبتدىء فيقول: حَمِيمٌ وغَسَّاق أي منه حميم وغساق). والغَسَقُ السَّيَلاَنُ، يقال: غَسَقَتْ عَيْنهُ أي سَالَتْ، قال المفسرون: إنه ما يسيل من صديدهم، وقيل: غسق أي امتلأ، ومنه غسقت عينه أي امتلأت بالدمع ومنه الغَاسِق للقمر لامتلائه وكماله. وقيل: الغَسَّاق ما قَتَلَ ببردِهِ، ومنه قيل: لليل: غاسِقٌ، لأنه أبرد من النهار، (و) قال ابن عباس: هو الزَّمْهَريرُ يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار بحرِّها. وقال مجاهد وقتادة: هو الذي انتهى برده، وقيل: الغسق شدة الظلمة ومنه قيل للّيل غاسق، ويقال للقمر غاسق إذا كسف لا سُوِدَادِهِ، والْقَولان منقولان في تفسير قوله تعالى:
{ { وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ } [الفلق:2]. وقيل: الغساق: المنتن بلغة الترك وحكى الزجاج: "لو قَطَرَتْ منه قطرة بالمغرب لأَنْتَنَتْ أهل المشرق". وقال ابن عُمَر: هو القيح الذي يسيل منهم يجتمع فيُسْقَوْنَهُ، قال قتادة: هو ما يَغْسِقُ أي يسيل من القيح والصَّديد من جلود أهل النار ولحومهم وفروج الزناة من قولهم: غَسَقَتْ عَيْنُهُ إذا انْصَبَّتْ والغَسَقَانُ الانْصِبَابُ، قال كعب: الغَسّاق عينٌ في جهنم يسيل إليهم كل ذوات حية وعقربٍ.
قوله: "وَآخَرُ" قرأ أبو عمرو بضم الهمزة على أنه جمع وارتفاعه من أوجهٍ:
أحدها: أنه مبتدأ و "مِنْ شَكْلِهِ" خبره، و "أَزْوَاجٌ" فاعل به.
الثاني: أن يكون مبتدأ أيضاً و "مِنْ شَكْلِهِ" خبر مقدم، و"أزواج" مبتدأ. والجملة خبره، وعلى هذين القولين فيقال: كيف يصحُّ من غير ضمير يعود على "آخر" فإن الضمير في "شكله" يعود على ما تقدم أي من شكل المذوق؟ والجواب أن الضمير عائد على المبتدأ وإنما أفرد وذكر لأن المعنى من شكل ما ذكرنا. ذكر هذا التأويل أبُو البَقَاء. وقد منعَ مَكِّيٌّ ذلك لأجل الخُلُوِّ من الضمير. وجوابه ما ذكرنا.
الثالث: أن يكون "مِنْ شَكْلِهِ" نعتاً "لآخر" و"أزواج" خبر المبتدأ أي و "آخر من شكله المذوق أزواج".
الرابع: أن يكون "مِنْ شَكْلِهِ" نعتاً أيضاً، و "أزواج" فاعل به والضمير عائد على "آخر " بالتأويل المتقدم وعلى هذا فيرتفع "آخر" على الابتداء، والخبر مقدر أي ولهم أنواع أخرُ استقر من شكلها أزواج.
الخامس: أن يكون الخبر مقدراً كما تقدم أي ولهم آخر و "مِنْ شَكْلِهِ" و "أزواج" صفتان لآخر، وقرأ العامة "من شَكْله" بفتح الشين، وقرأ مجاهد بكسرها. وهما لغتان بمعنى المثل والضرب. تقوله: هذَا عَلَى شَكْلِهِ أي مثله وضربه وأما الشِّكْل بمعنى الغنج فبالكسر لا غير. قاله الزمخشري. وقرأ البَاقُونَ وآخر بفتح الهمزة وبعدها ألف بصيغة أفعل التفضيل والإعراب فيه كما تقدم، والضمير في أحد الأوجه يعود عليه من غير تأويل لأنه مفرد إلا أن في أحد الأوجه يلزم الإخبار عن المفرد بالجمع أو وصف المفرد بالجمع لأن من جملة الأوجه المتقدمة أن يكون "أزواج" خبراً عن "آخر" أو نعت له كما تقدم. وعنه جوابان:
أحدهما: أن التقدير وعذاب آخر أو مذوق آخر، وهو ضروب ودرجات فكان في قوة الجمع أو يجعل كل جزء من ذلك الآخر مثل الكل وسماه باسمه وهو شائع كثير نحو غَلِيظ الحَوَاجب وشابت مفارقه.
على أن لقائلٍ أن يقول: إن "أزواجاً" صفة للثلاثة الأشياء المتقدمة أعني الحميمَ والغساقَ وآخرَ من شكله فيلغي السؤال.
قوله: { هَـٰذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ } مفعول "مقتحم" محذوف أي مُقْتَحِمٌ النار، والاقتحام الدخول في الشيء بشدة والقُحْمةُ الشدة. وقال الراغب: الاقتحام توسط شدة مخيفة ومنه قَحَمَ الفرسُ فارسَه أي توغل به ما يخاف منه، والمقاحيم الذين يقتحمون في الأمر الذي يتجنب.
قوله: "مَعَكُمْ" يجوز أن يكون نعتاً ثانياً "لِفَوْجٍ" وأن يكون حالاً منه لأنه قد وصف وأن يكون حالاً من الضمير المستتر في "مُقْتَحِمٌ". قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون طرفاً لفساد المعنى، قال شهاب الدين: ولَمْ أدرِ من أي وجه يفسد والحالية والصفة في المعنى كالظرفية، وقوله: "هَذَا فَوْجٌ" إلى "النار" يجوز أن يكون من كلام الرؤساء بعضهم لبعض بدليل قول الأتباع "لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوه لَنَا" وأن يكون من كلام الخَزَنَة، ويجوز أن يكون "هَذَا فَوجٌ" من كلام الملائكة والباقي من كلام الرؤساء. وكان القياس على هذا أن يقال: بَلْ هُمْ لا مرحباً بهم لا يقولون للملائكة ذلك إلا أنهم عدلوا عن خطاب الملائكة إلى خطاب أعدائهم تشفياً منهم. والمعنى هنا جمع كثيف وقد اقتحم معكم النار كما كانوا قد اقتحموا معكم في الجهل والضلال، والفَوْجُ القطيعُ من النَّاسِ وجمعه أفواجٌ.
(قوله): "لاَ مَرْحَباً" في "مرحباً" وجهان:
أظهرهما: أنه مفعول بفعل مقدر أي لا أتيتم مرحباً (أو لا سمعتم مرحباً.
والثاني: أنه منصوب على المصدر. قاله أبو البقاء أي لا رَحُبَتكُمْ دارُكُمْ مَرْحَباً) بل ضِيقاً، ثم في الجملة المنفية وجهان:
أحدهما: أنها مستأنفة سِيقَتْ للدعاء عليهم، وقوله: "بِهِمْ" بيان للمدعُوِّ عليهم.
والثاني: أنها حالية، وقد يعترض عليه بأنه دعاء والدعاء طلب (والطلب) لا يقع حالاً والجواب أنه على إضمار القول أي مقولاً لهم لا مرحباً. قال المفسرون قوله تعالى: { لاَ مَرْحَباً بِهِمْ } دعاء منهم على أتباعهم يقول الرجل لمن يدعو له: مرحباً أي أتيت رَحْباً من البلاد لا ضيقاً أو رَحُبَتْ بلاَدُكَ رَحْباً، ثم تدخل عليه كلمة "لا" في دعاء النفي.
قوله: { إِنَّهُمْ صَالُو ٱلنَّارِ } تعليل لاستجابة الدعاء عليهم. ونظير هذه الآية قوله:
{ { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } [الأعراف: 38] "قالوا" أي الأتباع { بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ } يريدون أن الدعاء الذي دعوتم به علينا أيها الرؤساء أنتم أحق به وعللوا ذلك بقولهم: "أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا" والضمير للعذاب أو للضَّلال.
فإن قيل: ما معنى تقديمهم العذاب لهم؟
فالجواب: الذي أوجب التقديم عو عمل السوء كقوله تعالى:
{ { وَنُذِيقُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [الحج:9،10] إلا أن الرؤساء لما كانوا هم السبب فيه بإغوائهم وكان العذاب جزاءهم عليه قيل: أنتم قدمتموه لنا، وقوله: "فبئس القرار" أي بئس المستقرّ والمستكنّ جهنم.
قوله: "مَنْ قَدَّمَ" يجوز أن تكون "مَنْ" شرطية و("فـ)ـزِدُهُ" جوابها، وأن تكون استفهامية وقدّم خبرها أي (أن) أي شخص قم لنا هذا؟ ثم استأنفوا دعاءً، بقوله: "فَزِدْهُ" وأن تكون موصولة بمعنى الذي وحينئذ يجوز فيها وجهان: الرفع بالابتداء والخبر "فَزِدْهُ" والفاء زائدة تشبيهاً له بالشرط، والثاني: أنها منصوبة بفعل مقدر على الاشتغال والكلام في مثل هذه الفاء (قَدْ) تقدم.
وهذا الوجه يجوز عند بعضهم حال كونها شرطية أو استفهامية أعني الاشتغال إلا أنه لا يقدر الفعل إلا بعدها لأن لها صدر الكلام و"ضِعْفاً" نعت لعذاب أي مضاعفاً.
قوله: "فِي النَّار" يجوز أن تكون ظرفاً "لِزدْهُ" أو نعتاً "لعَذَابٍ" أو حالاً منه لتخصيصه أو حالاً من مفعول "زِدْهُ".
قوله: "قَالُوا" يعني الأتباع { رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا } أي شرعَهُ وسنَّهُ لنا فزده عذاباً ضعفاً أي مضاعفاً "فِي النَّارِ" ونظيره قوله تعالى:
{ { رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً (ضِعْفاً) مِّنَ ٱلنَّارِ } [الأعراف: 38] وقولهم { { إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ٱلْعَذَابِ وَٱلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً } [الأحزاب: 67-68].
فإن قيل: كل مِقْدَارٍ يفرض من العذاب فإن كان بقدر الاستحقاق لم يكن مضاعفاً وإن كان زائداً عليه كان ظلماً وإنه لا يجوز.
فالجواب: المراد منه قوله - صلى الله عليه وسلم -
"مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وزْرُها ووِزْرُ من عَمِلَ بِهَا إلى يَوم الْقِيَامَةِ" والمعنى أنه يكون أحد القِسمين عذاب الضَّلاَلِ، والثَّانِي عذاب الإضْلاَلِ، والله أعلم.
وهذا آخر شرح أحوال الكفار مع الذين كانوا أحباباً لهم في الدنيا، وأما شرح أحوالهم مع الذين كانوا أعداء لهم في الدنيا فهو قوله: { وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَىٰ رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ ٱلأَشْرَارِ } أي أن صناديد قريش قالوا، وهم في النار: { مَا لَنَا لاَ نَرَىٰ رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ ٱلأَشْرَارِ } في الدنيا يعنون فقراء المؤمنين عماراً وخباباً وصهيباً وبلالاً وسلمان وسموهم أشراراً إما بمعنى الأرذال الذين لاَ خير فيهم ولا جدوى أو لأنهم كانوا على خلاف دينهم فكانوا عندهم أشْراراً.
قوله: "أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً" قرأ الأخوان وأبو عمرو بوصل الهمزة، وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون خبراً محضاً، وتكون الجملة في محل نصب صفة ثانية "لرجالاً" كما وقع "كُنَّا نَعُدُّهُمْ" صفة وأن يكون المراد الاستفهام وحذفت أداته لدلالة "أَمْ" عليها كقوله:

4279- تَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ أَمْ تَبْتَكِر وَمَاذَا عَلَيْكَ بِأَنْ تَنْتَظِر

"فأم" متصلة على هذا، وعلى الأول منقطعة، بمعنى "بل" والهمزة لأنها لم يتقدمها همزة استفهام ولا تسوية، والباقون بهمزة استفهام سقطت لأجلها همزة الوصل، والظاهر أنه لا محل للجملة حينئذ لأنه طلبية، وجوز بعضهم أن تكون صفة لكن على إضمار القول أي رجالاً مقولاً فيهم أتخذناهم كقوله:

4280-........................ جَاؤُوا بِمَذْقٍ هَلْ رَأيْتَ الذِّئْبَ قَطّ

إلا أن الصفة في الحقيقة ذلك القول المضمر، وقد تقدم الخلاف في "سُخْرِيًّا" في "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ" والمشهور أن المكسور من الهُزْء كقوله:

4281- إنّي أَتَانِي لِسَانٌ لاَ أُسَرُّ بِهَا مِنْ عَلْوِ لاَ كَذِبٌ فِيهَا ولا سُخْرُ

وتقدم معنى لحاق الياء المشددة في ذلك، و"أم" مع الخبر منقطعة فقط كما تقدم ومع الاستفهام يجوز أن تكون متصلةً، وأن تكون منقطعةً كقولك: (أَ) زَيْدٌ عِنْدَكَ أَمْ عِنْدَكَ عَمْرو، ويجوز أن يكون "أَمْ زَاغَتْ" متصلاً بقوله: "مَا لَنَا"؛ لأنه استفهام إلا أنه يتعين انقطاعها لعدم الهمزة ويكون ما بينهما معترضاً على قراءة "أَتَّخَذْنَاهُمْ" بالاستفهام إن لم تجعلْه صفةً على إضمار القول كما تقدم. قال أَهْلُ المعاني: قراءة الأخوين أولى لأنهم علموا أنهم اتخذوهم سخرياً لقوله تعالى: { فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سُخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْري } فلا يستقيم الاستفهام. وتكون "أم" على هذه القراءة بمعنى "بل" وأجاب الفراء عن هذا بأَن قال: هذا من الاستفهام الذي معناه التعجب والتوبيخ. ومثلُ هذا الاستفهام جائز عن الشيء المعلوم ومن فتح الألف قال هو على اللفظ لا على المعنى ليعادِل "أمْ" في قوله "أَمْ زَاغتْ".
فإن قيل: فما الجملة المعادلة بقوله: "أم زاغت" على القراءة الأولى؟
فالجواب: أنها محذوفة، والتقدير: أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ. وقرأ نافعٌ سُخْريًّا - بضم السِّين - والباقون بكسرها. فقيل: هما بمعنى، وقيل: الكسر بمعنى الهُزْء، وبالضم التذليل والتسخير وأما نظم الآية على قراءة الإخبار فالتقدير: مَا لَنَا نَرَاهُمْ حَاضِرينَ لأجْلِ أنَّهُمْ لحَقَارَتِهمْ تُركوا لأجل أنهم زاغت عنهم الأبصار، ووقع التعبير عن حقارتهم بقولهم: "أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْريًّا" وأما على قراءة الاستفهام فالتقدير لأجل أنّا قد اتخذناهم سخرياً وما كانوا كذلك فلم يدخلوا لأجل أنه زاغت عنهم الأبصار.
فصل
معنى الآية: ومَا لَنَا لا نرى هؤلاء الذين اتخذناهم سخرياً لم يدخلوا معنا النَّار أم دخلو(ها) فزاغت أي فمالت عنهم أبصارنا فَلَمْ نَرَهُمْ حتى دخلوا.
وقيل: (أم) هم في النار ولكن احتجبوا عن أبصارنا، وقال ابن كيسان أم كانوا خيراً منا ونحن لا نعلم فكان أبصارنا تزيغ عنهم في الدنيا فلا نعدُهُّمْ شيئاً.
قوله: { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ } أي الذي ذكرت لحق أي لا بدّ وأن يتكلموا به، ثم بين ذلك الذي حكاه عنهم فقال: { تَخَاصُمُ أَهْلِ ٱلنَّارِ } العامة على رفع "تخاصم" مضافاً "لأهل" وفيه أَوْجُهٌ:
أحدها: أنه بدل من "لَحَقّ".
الثاني: أنه عطفُ بيان.
الثالث: أنه بدل من "ذَلِكَ" على الموضع حكاه مكي وهذا يوافق قولَ بعضِ الكوفيين.
الرابع: أنه خبر ثانٍ لـ "إنَّ".
الخامس: أنه خبر مبتدأ مضمر أي هُو تَخَاصُمُ.
السادس: أنه مرفوع بقوله: "لحَقّ" إلا أن أبا البقاء قال: ولو قيل: هو مرفوع "بحق" لكان بعيداً لأنه يصير جملة ولا ضمير فيها يعود على اسم "إنّ"، وهذا رد صحيح. وقد يجاب عنه بأن الضمير مقدر أن لحقٌّ تَخَاصُم أهل النار فِيهِ، كقوله:
{ { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [الشورى:43] أي مِنْهُ، وقرأ ابن مُحَيْصِن بتنوين "تَخَاصُمٌ" ورفع "أَهْلُ" فرفع "تخاصم" على ما تقدم، وأما رفع "أهل" فعلى الفاعلية بالمصدر المنون كقولك: "يعجبني تَخَاصُمٌ الزيدونَ" أي (أَنْ) تَخَاصَمُوا وهذا قولُ البَصْرِيِّينَ، وبعض الكوفيين خَلاَ الفراءَ، وقرأ ابنُ أبي عبلة تَخَاصُمَ بالنصب مضافاً "لأهل" وفيه أوجه:
أحدها: أنه صفة "لذلك" على اللفظ، قال الزمخشري: لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس وهذا فيه نظر لأنهم نصوا على أن أسماء الإشارة لا توصف إلا بما فيه أل نحوه: (مَرَرْتُ) بهَذَا الرجل ولا يجوز: "مَرَرْتُ" بهذا غلامِ الرجلِ، فهذا أبعد، ولأن الصحيح أن الواقع بعد اسم الإشارة المقارن "لأل" إن كان مشتقاً كان صفة وإلا كان بدلاً، و"تخاصم" ليس مشتقاً.
الثاني: أنه بدل من "ذَلِكَ" الثالث: أنه عطف بيان.
الرابع: على إضمار أَعْنِي، وقال أَبُو الفَضْلِ: ولو نصب "تَخَاصُم" على أنه بدل من "ذلك" لجاز انتهى. كأنه لم يطلع عليها قراءة. وقرأ ابن السَّمَيْقَع "تَخَاصَمَ" فعلاً ماضياً "أَهْلُ" فاعل به وهي جملة استئنافية، وإنما سمى الله تعالى تلك الكلمات تخاصماً لأن قول الرؤساء: "لا مرحباً بهم" وقول الأتباع "بل أنتم لا مرحباً بكُم" من باب الخُصُومَة.