خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ
٥٣
وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
٥٤
وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُـمُ ٱلْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ
٥٥
أَن تَقُولَ نَفْسٌ يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ
٥٦
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي لَكُـنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ
٥٧
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَـرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٥٨
بَلَىٰ قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَٱسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ
٥٩
وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تَرَى ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ٱللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ
٦٠
وَيُنَجِّي ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ ٱلسُّوۤءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٦١
-الزمر

اللباب في علوم الكتاب

قوله (تعالى): { قُلْ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ.... } الآية لما ذكرالوعيد أردفه بشرح كمال رحمته وفضله، قيل: في هذه الآية أنواع من المعاني والبينات حسنة منها إقباله عليهم ونداؤهم ومنها إضافتهم إلى الله إضافة تشريف ومنها الالتفات من التكلم إلى الخطاب، في قوله: { مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ } ومنها إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى، ومنها إعادة الظاهر بلفظه في قوله: "إنَّ الله"، ومنها: إبراز الجملة من قوله "إنَّه هُو الغَفُور الرحيم" مؤكدة بـ "إنّ"، وبالفصل، وبإعادة الصِّفَتَين اللتين تضمنتهما الآية السابقة.
فصل
روى سعيدُ بْنُ جُبَيْر عن ابن عباس أن ناساً من أهل الشرك كانوا قتلوا وأكثروا فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: إن الذين تدعو إليه لحسن إنْ كان لما عَمِلْنَا كفارة فنزلت هذه الآية، وروى عطاء بن رباح عن ابن عباس أنها نزلت في وَحْشِيّ قاتِل حمزة حين بعث إليه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يدعوه إلى الإسلام فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أنه من قتل أو أشرك أو زَنَا
{ { يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ } [الفرقان: 68،69] وأنا قد فعلت ذلك كله فأنزل الله: { { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً } [الفرقان: 70] فقال وَحْشِيّ: هذا شرط شديد لَعَلِّي لا أقدر عليه فهل غير ذلك فأنزل الله - عز وجل -: { { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [النساء:116] فقال وحشي: أراني بعد في شبهة فلا أدري أيغفر لي أم لا فأنزل الله تعالى: { قُلْ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ } قال وحشي: نعَمْ هذا فجاء وأسلم فقال المسلمون: هذا له خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال: بل للمسلمين عامة.
وروي عن ابن عمر قال: نزلت هذه الآية في عياش بن أبي رَبيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافْتَتَنُوا وكنا نقول لا يقبل الله من هؤلاء صرفاً ولا عَدْلاً أبداً (قوم) قد أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا فيه، فأنزل الله هذه الآيات فكتبها عمر بن الخطاب بيده ثم بعث بها إلى عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا. واعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
فصل
دلت هذه الآية على أنه تعالى يعفو عن الكبائر لأن عرف القرآن جارٍ بتخصيص اسم العباد بالمؤمنين قال تعالى:
{ { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً } [الفرقان: 63] وقال: { { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ } [الإنسان:6] وإذا كان لفظ العبد مذكوراً في معرض التعظيم وجب أن لا يقع إلا على المؤمنين وإذا ثبت هذا ظهر أن قوله: "يَا عِبَادِي" مختص بالمؤمنين، ولأن المؤمن هو الذي يعترف بكونه عبد الله وأما المشركون فإنهم يسمون أنفسهم بعبد اللات وعبد العُزى (وعبد المسيح). وإذا ثبت ذلك فقوله تعالى: { يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } عام في جميع المسرفين، ثم قال: { إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً } وهذا يقتضي كونه غافراً لجميع الذنوب الصادرة عن المؤمنين وهو المَطْلُوبُ.
فإن قيل: هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها وإلا لَزِمَ القطع بكون الذنوب مغفورة قطعاً وأنتم لا تقولون به فسقط الاستدلال، وأيضاً فإنه تعالى قال عقيب هذه الآية { وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ... } الآية؛ ولو كان المراد من الآية أنه تعالى يغفر الذنوب قطعاً لما أم عقيبه بالتوبة، ولما خوفهم بنزول العذاب عليهم من حيث لا يشعرون وأيضاً قال: { أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ } الآية؛ وأيضاً لو كان المراد ما دل عليه ظاهر الآية لكان ذلك إغراءً بالمعاصي وإطلاقاً في الإقدام عليها وذلك لا يليق بحكمة الله تعالى. وإذا ثبت هذا وجب أن يحمل على أن المراد منه التنبيه على أنه لا يجوز أن يظن (العاصي) أن لا مخلصَ له من العذاب البتة فإن اعتقد ذلك فهو قانطٌ جميعاً أي بالتوبة والإنابة.
فالجواب: (قوله) إن الآية تقتضي كون كل الذنوب مغفورة قطعاً وأنتم لا تقولون به قلنا: بَلَى نحن نقول به لأن صيغة "يَغْفر" للمضارع وهي الاستقبال وعنْدَنا أن الله يُخْرج من النار من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وعلى هذا التقدير فصاحب الكبير مغفور له قطعاً إما قبل دخول النار وإما بعد دخولها فثبت أن دلالة ظاهر الآية عينُ مذهبنا وأما قوله: لو صارت الذنوب بأسرها مغفورة لما أمر بالتوبة.
فالجواب: أن عندنا التوبة واجبة وخوف العقاب قائم فإذن لا يُقْطَع بإزالة العقاب بالكلية بل نقول لعله يعفو مطلقاً ولعله يعذب بالنار مدة ثم يعفو بعد ذلك وبهذا يخرج الجواب عن بقية الأسئلة والله أعلم.
وروى مقاتل بن حيَّان عن نافع عن ابْن عُمَر قال: كنا معْشَر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نرى أو نقول ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت:
{ { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوۤاْ أَعْمَالَكُمْ } [محمد: 33] فلما نزلت هذه الآية قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر والفواحش وكنا إذا رأينا من أصاب شيئاً منها (قلنا: قد هلك فأنزل الله هذه الآية فَكَفْفنَا عن القول في ذلك، فكنا إذا رأينا أحداً أَصاب) منها شيئاً خِفْنا عليه وإن لم يُصب منها شيئاً رجوْنا له، وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر. (وروي) عن ابن مسعود أنه دخل المسجد فإذا قاصٌّ (يقُصُّ) وهو يذكر النار والأغلال فقام على رأسه فقال: يا مُذكِّرُ لِمَ تُقَنِّطُ النا؟ ثُمَّ قرأ: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُو مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ }. وعن أَسْمَاءَ بنتِ يزيد قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يَا عِبَادِي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله (إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي)" ، وروى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قَال رَجُلٌ لم يعمل خيراً قط لأهله: إذا مات فَحَرِّقُوه ثم ذَرُّوا نِصْفَهُ في البَرّ ونصفَه في البحر فواللِّه لئن قَدَرَ الله عليه ليعدبَنَّه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين فلما مات فعلوا ما أمرهم فَأَمَرَ الله البحرَ فجمع ما فيه وأمر البَرَّ فجمع ما فيه، ثم قال له: لِمَ فَعَلْتَ هذا قال: مِنَ خشيتك يا رب وأنتَ أعلمُ فَغَفَرَ لَهُ" . وعن ضَمْضَم بن حَوْشَـ(ـب) قال: دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ فقال: يا يمانيّ تَعَالَ وما أعرفه فقال: لا تقولن لرجل والله لا يغفر الله لك أبداً ولا يدخلك الجنة قلت: ومن أنت يرحمك الله؟ قال: أبو هريرة قال: فقلت إن هذه الكملة يقولها أحدُنا لبعض أهله إذا غضب أو زوجه أو لخادمه قال: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ رَجُلَيْن كَانَا فِي بني إسرائيل مُتَحَابَّيْنِ أحدهما مجتهدٌ في العبادة والآخرة كأنه يقول: مذنب فجعل يقول أقصر عما أنت فيه قال: فيقول خلّني وربي قال: حتى وجده يوماً على ذنب استعظمه فقال أقصر فقال: خلني وربي أبعثت علي رقيباً فقال: والله لا يغفر لك الله أبداً ولا يدخلك الجنة أبداً قال: فبعث الله إليهما ملكاً فقبض أرواحها فاجتمعا عنده فقال للمذنب ادخل الجنة برحمتي وقال للآخر: أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي؟ فقال: لا يا رب فقال: اذهبوا به إلى النار" ، قال أبو هريرة: والَّذِي نفسي بيده لـ (ـقد) تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته.
قوله عز وجل: { إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ }.
قوله: "يَا عِبَادِيَ" قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم يا عبادي بفتح الياء، والباقون وعاصم - في بعض الروايات - بغير فتح، وكلهم يقفون عليها بإثبات الياء؛ لأنها ثابتة في المصحف إلا في بعض رواية أبي بكر عن عاصم أنه يقف بغير ياء.
قوله: "لاَ تَقْنَطُواْ" قرأ أبو عمرو والكِسائي بكسرالنون، والباقون بفتحها، وهما لُغَتَانِ، قال الزمخشري: وفي قراءة ابن عباس وابن مسعود { يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً لمنْ يَشَاءُ }.
قوله: { وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ } قال الزمخشري أي تُوبُوا إليه "وأسْلِمُوا لَهُ" أي وأخلصوا له العمل مِن قَبْلِ أن يأتيكم العَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ. { وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ } يعني القرآن، والقرآن كله حسن، ومعنى الآية ما قال الحسن: الزموا طاعته واجتنبوا معصيته، فإن (في) القرآن ذكرَ القبيح ليجتنبه وذكر الأدْوَن لئلا نرغب فيه، وذكر الأحسن لنُؤْثِره، وقيل: الأحسن الناسخ دون المنسوخ، لقوله تعالى:
{ { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } } [البقرة:106].
ثم قال: { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُـمُ ٱلْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } وهذا تهديد وتخويف. والمعنى يفاجئكم العذاب وأنتم غافلون عنه.
واعلم أنه تعالى لما خوفهم بالعذاب بين أنهم بتقدير نزول العذاب عليهم ماذا يقولون؟ فحكم تعالى عليهم بثلاثة أنواع من الكلام:
فالأول: (قوله: "أَنْ تَقُولَ") مفعول من أجله فقدره الزمخشري: كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولَ، (وابن عطية: أنيبوا من أجل أن تقول، وأبو البقاء والحَوْفيّ أَنْذَرْنَاكُمْ مَخَافَةَ أن تقول) ولا حاجة إلى إضمار هذا العامل مع وجود "أَنِيبُوا". وإنما نَكَّر نفساً لأنه أراد التكثير كقول الأعشى:

4304- وَرُبَّ بَقيعٍ لَوْ هَتَفْتُ بِجَوِّهِ أَتَّانِي كَرِيمٌ يَنْغضُ الرَّأْسَ مُغْضَبَا

يريد أتاني (كرام كثيرون لا كريم فَذٌّ لمنافاته المعنى المقصود، ويجوز أن يريد نفساً متميزة عن الأنفس) باللجاج الشديد في الكفر والعذاب العظيم.
قوله: "يَا حَسْرَتَى" العامة على الألف بدلاً من ياء الإضافة، وعن ابن كثير: يَا حَسْرَتَاه بهاء السكت وَقْفاً وأبو جعفر يَا حَسْرَتي على الأصل، وعنه أيضاً: يَا حَسْرَتَايَ بالألف والياء. وفيها وجهان:
أحدهما: لاجمع بين العِوَض والمُعَوَّض مِنْهُ.
والثاني: أنه تثنية "حَسْرَة" مضافة لياء المتكلم، واعترض على هذا بأنه كان ينبغي أن يقال: يَا حَسْرَتَيَّ - بإدغام ياء النصب في ياء الإضافة - وأُجِيبَ: بأنه يجوز أن يكون راعى لغة الحَرْثِ بن كَعْب وغيرهم نحو: رَأَيْتُ الزَّيْدَانِ، وقيل: الألف بدل من الياء والياء (بعدها) مزيدة.
وقيل: الألف مزيدة بين المتضايفين وكلاهما ضعيف.
قوله: { عَلَى مَا فَرَّطت } ما مصدرية أي على تَفْريطي، وثمَّ مضاف أي في جنب طاعة الله، وقيل: في جنب الله المراد به الأمر والجِهَةُ يقال: هُوَ في جَنْبِ فُلاَنٍ وَجانِبِهِ أي جِهَتِهِ ونَاحِيَتِهِ قال:

4305- النَّاسُ جَنْبٌ وَالأَمِيرُ جَنْبُ

وقال آخر:

4306- أفِي جَنْبِ بَكْرٍ قَطَّعَتْنِي مَلاَمةً سُلَيْمَى لَقَدْ كَانَتْ مَلاَمَتُهَا ثِنَى

ثم اتسع فيه فقيل: فَرّط في جَنْبِهِ أي في حَقِّه، قَالَ:

4307- أَمَا تَتَّقِينَ اللَّهَ فِي جَنْبِ عَاشِقٍ لَهُ كَبِدٌ حَرَّى عَلَيْكِ تَقَطَّعُ

(فصل)
المعنى: أن تقول نفس يا حسرتي يعني لأن تقول: نفس كقوله:
{ { وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [النحل:15] و[لقمان:10] أي لئَلاَّ تَمِيدَ بكم، قال المبرد: أي بَادِرُوا وَاحذَرُوا أنْ تَقُولَ نفس، قال الزجاج: خوفَ أن تصيروا إلى حال تقولون يا حسرتنا يا ندامتنا، والتحسر الاغْتمَام على ما فات، وأراد: يا حَسرتي على الإضافة لكن العرب تحول ياء الكناية ألفاً في الاستغاثة فتقول: يَا وَيْلَتَا، ويَا نَدَامَتَا، وربما ألحقوا بها الياء بعد الألف ليدل على الإضافة كقراءة أبي جعفر المتقدمة، وقيل: معنى قوله: "يَا حَسْرَتَا" أي يا أيَّتُهَا الحَسْرَةُ هذا وَقْتُكِ. { عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ }. قال الحسن: قَصَّرْتُ في طاعة الله، وقال مجاهد: في أمر الله، وقال سعيد بن جبير في حق الله، وقيل: قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله، والعرب تسمي الجنب جانباً.
ثم قال: { وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ } المستهزئين بدين الله، قال قتادة ولم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى جعل السخر بأهل طاعته، ومحل "وَإنْ كُنْتُ" النصب على الحال كأنه قال فرطت وأنا ساخر أي فرطت في حال سخْرَتِي.
النوع الثاني من الكلمات التي حكاها الله تعالى (عنهم) بعد نزول العذاب عليهم قوله: { أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي لَكُـنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ }.
النوع الثالث: { أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ } عياناً { لَوْ أَنَّ لِي كَـرَّةً } رجعه إلى الدنيا { فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } الموحدين.
فتحسروا أولاً: على التفريط في طاعة الله، وثانياً: عللوا بفقد الهداية، وثالثاً: تَمَنوا الرَّجْعَة.
قوله: "فَأَكُونَ" في نصبه وجهان:
أحدهما: عطفه على "كَرَّةً" فإنها مصدر، فعطف مصدراً مؤولاً على مصدر مصرَّح به كقولها:

4308- لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عيْنِي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ لُبْس الشُّفُوف

وقول الآخر:

4309- فما لك منها غير ذكرى وحسرة وتسال عن ركبانها أين يمموا

والثاني: أنه منصوب على جواب التمني المفهوم من قوله: { لَوْ أَنَّ لِي كَـرَّةً } والفرق بين الوجهين أن الأول يكون فيه الكون مُتَمنَّى ويجوز أن تضمر "أن" وأن تُظْهرَ والثاني يكون فيه الكون مترتباً على حصول المتمني لا متمنًّي ويجب أن تضمر "أن".
قوله: "بَلَى" حرف جواب وفيما وقعت جواباً له وجهان:
أحدهما: هو نفي مقدر، قال ابن عطية: وحق "بلى" أن تجيء بعد نفي عليه تقرير، كأن النفس قال: لم يتسع لي النظر أو لم يبين لي الأمر، قال أبو حيان: ليس حقها النفي المقدر بل حقها النفي ثم حمل التقرير عليه ولذلك أجاب بعض العرب النفي المقدر بنعم دون بلى، وكذا وقع في عبارة سيبويه نفسه.
والثاني: أن التمني المذكور وجوابه متضَمِّنان لنفي الهداية كأنه قال: لم أهتدِ فرد الله عليه ذلك.
قال الزجاج: "بلى" جواب النفي وليس في الكلام لفظ النفي إلا أنه حصل فيه معنى النفي لأنه قوله: "لو أن الله هداني" أنه ما هداني فلا جرم حسن ذكر "بلى" بعده.
قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قرن الجواب بينهما بما هو جواب له وهو قوله: لو أن الله هداني ولم يفصل بينهما قلت: لأنه لا يخلو إمّا أن يقدم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن، وإما أن يؤخر القرينة الوسطى فلم يحسن الأول لما فيه من تغير النظم بالجمع بين القراءتين، وأما الثاني فلِما فيه من نقض الترتيب وهو التحسر على التفريط في الطاعة ثم التعلل بفقد الهداية ثم تمنِّي الرجعة فكان الصواب ما جاء عليه وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب.
قوله:{ جَآءَتْكَ } قرأ العامة بفتح الكاف "فَكَذَّبْتَ وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ" بفتح التاء خطاباً للكافرين دون النفس. وقرأ الجَحْدَريُّ وأبو حَيْوَة وابنُ يَعْمُرَ والشافعيُّ عن ابن كثير وروتها أم سملة عنه - عليه (الصلاة و) السلام - بها قرأ أبُو بكر وابنتُه عائشةُ - رضي الله عنهما- بكسر الكاف والتاء؛ خطاباً للنفس والحَسَنُ والأعرجُ والأعمشُ "جَأتْكَ" بوزن "جَعَتْكَ" بهمزة دون ألف؛ فيحتمل أن يكون قصراً كقراءة قُنْبُل
{ { أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [العلق: 7] وأن يكون في الكلمة قلبٌ بأن قُدّمتِ اللام على العين فالتقى ساكنان، فحذفت الألف لالتقائهما نحو: رُمْتُ وغُزْت، ومعنى الآية يقال لهذا القائل: بَلَى قَدْ جَاءتُكَ آيَاتِي يعني القرآن "فكذبت" وقلت ليست من الله واستكبرت أي تكبرت عن الإيمان بها وكنت من الكافرين.
قوله: { وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تَرَى ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ٱللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } العامة على رفع "وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ" وهي جملة من مبتدأ وخبر، وفي محلها وجهان:
أحدهما: النصب على الحال من الموصول لأن الرؤية بصرية، وكذا أعربها الزمخشري ومنْ مذهبه أنه لا يجوز إسقاط الواو من مثلها إلا شاذاً تابعاً في ذلك الفراء، فهذا رجوع منه عن ذلك.
والثاني: أنها في محل نصب مفعولاً ثانياً، لأن الرؤية قلبية وهو بعيد لأن تعلق الرؤية البصرية بالأجسام وألوانها أظهر من تعلق القلبية بهما، وقرىء: "وُجُوهَهُمْ مُسْوَدَّةً" بنصبهما على أن "وجوهم" بدل بعض من "كل"، و"مسودة" على ما تقدم من النصب على الحال أو على المفعول الثاني.
وقال أبو البقاء: ولو قرىء وجوههم بالنصب لكان على بدل الاشتمال، قال شهاب الدين: قد قرىء به والحمد لله ولكن ليس كما قال: على بدل الاشتمال بل على بدل البعض، وكأنه سبقُ لسانٍ أو طُغْيَانُ قَلَم. وقرأ أبيّ أُجُوهُهُمْ بقلب الواو همزةً وهو فصيح نحو:
{ { أُقِّتَتْ } [المرسلات:11] وبابه، وقوله: { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ } عن الإيمان.
قوله: { وَيُنَجِّي ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ } قرأ الأَخوان وأبو بكر بمَفازَتهم جمعاً لمَّا اختلفت أنواع المصدر جُمْعَ كقوله تعالى:
{ { وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ } [الأحزاب:10]، ولأن لكل متق نوعاً آخر من المفازة، والباقون بالإفراد على الأصل.
وقيل: ثم مضاف محذوف أي بدَوَاعِي مفازتهم أو بأسبابها. والمفازَةُ المنجاة، وقيل: لا حاجة إلى ذلك، إذ المراد بالمفازة الفلاح. قال البغوي: لأن المفَازَةَ بمعنى الفَوْز أي يُنَجِّيهم بفوزهم من النار بأعمالهم الحسنة. وقال المبرد: المَفَازَةُ مَفْعَلَةٌ من الفَوْز والجمع حَسَنٌ كالسَّعَادَة والسَّعَادَاتِ.
قوله: { لاَ يَمَسُّهُمُ ٱلسُّوۤءُ } يجوز أن تكون هذه الجملة مفسرة لمفازتهم كأنه قيل: وما مفازتهم؟ فقيل: "لا يمسهم السوء" فلا محل لها، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من "الَّذِينَ اتَّقوا".
ومعنى الكلام لا يصيبهم مكروهٌ ولا هم يحزنون.