خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَٰجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ ٱلثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَٰلَةً أَو ٱمْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ فَإِن كَانُوۤاْ أَكْثَرَ مِن ذٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي ٱلثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ
١٢
-النساء

اللباب في علوم الكتاب

اعلم أنَّ أقسام الوراثة ثلاثة:
قسم لا يسقط بحال وهم: الآباء والأولاد والأزواج قسمان، والثَّالِثُ هو المسمى بالكلالة وهذا القسم متأخر عن القسمين الأوَّلين لأنه قد يعرض لهم السُّقوط بالكليَّة، ولأنَّهم يدلون إلى الميِّتِ بواسطة، والقسمان الأوَّلان يدلون بأنفسهم فقدَّمَ اللَّهُ تعالى الوارث بالنَّسب؛ لأنَّهُ أعلاها ثمَّ ثنى بذكر الوارث بالسَّبب الَّذي لا يسقط بحال، لأنَّهُ دون الأوَّلِ وهو الزوجان ثم ذكر القسم الثَّالث بعدهما؛ لأنَّهُ دونهما، ولما جعل نصيب الذَّكر مثل حظ الأنثيين في الوارث النّسبي كذلك جعل حظّ الرَّجُلِ مثل حظِّ الأنثيين في الوارث السببي فقال { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ } وسواء كان الولد من الزوج، أو من غيره وسواء كان الولد ذكراً أو أنثى، ولا فرق بين الأوَّلادِ وأولاد الأولاد.
فصل: الخلاف في غسل الزوج زوجته بعد موتها
ذهب الشافعيُّ وأحمدُ إلى أنَّهُ يجوزُ لِلرَّجُلِ أن يغسل زوجته لقوله { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } فسمَّاها زوجة بعد الموت.
قال أبو حنيفة: لا يَجُوزُ؛ لأنَّهَا ليست زوجة؛ لأنَّهُ لا يحلُّ وطؤها بعد الموت.
وأجيب بأنَّها لو لم تكن زوجة لكان قوله { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } مجازاً، وقد ثبت أنَّ التَّخْصيص اولى من المجاز عند التَّعارُضِ، وأيضاً فقد حَرُمَ الوطء في صورٍ كَثِيرَةٍ مع وجود الزوجيَّة كزمن الحيض والنفاس نهار رمضان، وعند الصّلوات المفروضة، والحج المفروض.
ثمَّ قال: { فلهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن } وسواء كانت واحدة أو أربعاً فهم فيه سواء، وهذه الآية تدلُّ على فضل الرَّجل على المرأة لتفضيلهم في النَّصِيبِ، ولأنَّهُ ذكر الرِّجَالَ على سبيل المخاطبة وذكر النساء على سبيل المغايبة.
قوله: { وإن كان رجل يورثه كلالة } اضْطَرَبَتْ أقوال العلماء في هذه ولا بُدَّ قبل التعرُّض للإعراب من ذكر معنى { ٱلْكَلاَلَةِ } واشتقاقها، فإنَّ الإعراب متوقف على ذلك، فتقول: اختلف الناس في معنى { ٱلْكَلاَلَةِ }
فقال جمهور اللغويين وغيرهم: إنَّه الميت الَّذي لا وَلَدَ لَهُ ولا والد، وهو قول عليٍّ وابن مسعودٍ.
وقيل: الَّذي لا والد له فقط، وهو قول عمر.
وقيل: الَّذي لا ولد له فقط.
وقيل: هو من لا يرثه أبٌ ولا أم، وعلى هذه الأقوال كلِّها قالكلالةُ واقعة على الميت.
وقيل: الكَلاَلَةُ: الورثة ما عدا الأبوين والولد، قاله قُطْرب، وهو اختيار أبي بكر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وسموا بذلك؛ لأنَّ الميِّت بذهاب طرفيه تُكَلِّلُهُ الورثة، أي: أحاطوا به من جميع نواحيه، ويُؤَيَّدُ هذا القول بأنَّ الآية نزلت في جَابِرٍ، ولم يَكُنْ له يَوْمَ نزلت أبٌ ولا ابن.
وأيضاً يقال: كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت القرابة وحمل فلان على فلان ثمَّ كَلَّ عنه إذا تباعد، فسميت القرابةُ البعيدةُ كلالة من هذا الوجه.
وأيضاً يقال: كَلَّ الرَّجُلُ يَكِلُّ كَلاًّ وكَلاَلَةً: إذا أعيا وذهبت قوَّته، فاستعاروا هذا اللفْظ عن القرابة الحاصلة، من غير أولاد لبعدها.
وأيضاً فإنَّهُ تعالى قال
{ { قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي ٱلْكَلاَلَةِ إِن ٱمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ } [النساء: 176] وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الكلالة من لا ولد له ولا والد؛ لأنَّهُ شرط عدم الولد وَورَّثَ الأخت والأخ، وهما لا يرثانِ مع وجود الأب.
"وروى جابر قال: مَرِضْتُ مَرَضاً شديداً أشرفتُ منه على الموت، فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقلتُ: يا رسول الله إنِّي رَجُلٌ لا يَرِثُنِي إلاَّ كَلاَلَة" وَأرَادَ به أنَّهُ ليس له والد ولا ولد، وهو قول سعيد بن جُبَيْرٍ وإليه ذهب أكثرُ الصَّحَابَةَ.
وروي عن عمر أيضاً أنَّهُ قال:
"سألت رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن الكلالة فما أغلظ في شيء ما أغلظ لي فيها، ضرب بيده صدري وقال يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ" وهي الآية الأخيرة من سورة النساء سميت بذلك؛ لأنها نزلت في الصَّيْفِ، ومات ولم يَفْهَمْهَا ولم يقل فيها شيئاً.
وقيل: { ٱلْكَلاَلَةِ }: المالُ الموروث، وهو قول النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ.
وقيل: { ٱلْكَلاَلَةِ } القرابة، وقيل: الوراثة.
فقد تلخص مما تقدم أنَّها [إمَّا] الميِّتُ الموروث أو الوارثُ، أو المال الموروثُ، أو الإرْث، أو القرابة.
وأما اشتقاقها: فقيل: هي مشتقة من تَكَلَّلَهُ الشَّيء، أي: أحاط به، وذلك أنَّهُ إذا لم يترك ولداً ولا والداً فقط انقطع طَرَفَاهُ، وهما عَمُودَا نَسَبِهِ وبقي مال الموروثُ لِمَنْ يَتَكَلَّلُهُ نَسَبُهُ، أي: يحيط به كالإكْليلِ.
ومنه "الروضة المكللة" أي: بالزَّهْرِ، وعليه قول الفرزدق: [الطويل]

1765- وَرِثْتُمْ قَنَاةَ المَجْدِ لاَ عَنْ كَلاَلَةٍ عَنِ ابْنَيْ مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمٍ

وقيل: اشتقاقها من "الكلال" وهو الإعْيَاء، فكأنه يصير الميراث إلى الوارث من بَعْدِ إعياء.
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: و "الكلالة" في الأصل: مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوَّةِ من الإعياء.
قال الأعشى: [الطويل]

1766- فَآلَيْتُ لاَ أرْثِي لَهَا مِنْ كَلاَلَةٍ وَلاَ مِنْ وَحًى حَتَّى تُلاَقِيْ مُحَمَّدَا

فاستعير للقرابة من غير جهة الولد والوالد، ولأنَّهَا بالإضافة إلى قرابتهما كأنها كالَّةٌ ضعيفة، وأجاز فيها أيضاً أن تكون صفة على وزن "فَعَالة"، قال: "كالهَجَاجَةِ والفَقَاقَةِ للأحْمَقِ".
ويقال: رجل كلالة، وامرأةٌ كلالة، وقوم كلالة، لا يثنى ولا يجمع؛ لأنَّهُ مصدر كالدّلالة والوَكَالة.
إذا تقرَّرَ هذا فَلْنَعد إلى الإعراب بعَوْنِ الله، فتقول: يجوز في "كان" وجهان:
أحدهما: أن تكون ناقصة و "رجل" اسمها، وفي الخبر احتمالان:
أحدهما: أنه "كلالة" إن قيل: إنها الميت، وإن قيل: إنَّها الوارث، أو غير ذلك، فَتُقَدَّر حذف مضاف، أي: ذَا كلالة، و "يورث" حينئذٍ في محلَِّ رفع صفة لـ "رجل" وهو فِعْلٌ مبنيٌّ للمفعول، ويتعدّى في الأصل لاثْنَيْنِ أُقيم الأوَّلُ مقامَ الفاعلِ، وهو ضمير الرَّجُلِ.
والثَّاني: محذوف تقديره: يورث هو مَالَهُ، وَهَلْ هذا الفِعلُ من "ورث" الثُّلاثي أو "أورث" الرُّبَاعيُّ؟.
فيه خلافٌ، إلاَّ أنَّ الزَّمَخْشَرِيُّ لَمَّا جَعَلَهٌُ مِنَ الثُّلاثي جعله يتعَدَّى إلى [المفعول] الأوَّلِ من المفعولين بـ "من" فإنَّهُ قال [وإن كان رجل يورث من كلالة] و "يورث" من وَرِثَ أي: يورث فيه يعني أنَّهُ في الأصْلِ يتعدَّى بـ "مِنْ". [قال:] وقد تُحْذَفُ، تقولُ: "وَرِثْتُ زَيْداً مَالَهُ" أي: مِنْ زيد، ولَمَّا جَعَلَه مَنْ "أورث" جعل الرَّجُلَ وارثاً لا موروثاً، فإنَّهُ قال: "فإنْ قلتَ: فإن جَعَلْتَ تُورَثُ على البناء للمفعول من "أورث" فما وَجْهُهُ".
قلتُ: الرَّجُلُ حينئذٍ الوارثُ لا الموروثُ".
وقال أبُو حيَّان: إنَّهُ من "أورث" الرُّباعِيِّ المبنيِّ للمفعول، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بالمعنى الذي قيده به الزَّمَخْشَرِيُّ.
الاحتمالُ الثَّاني: أن يكون الخبرُ الجملة من "يورث".
وفي نَصْبِ { كَلاَلَةً } أربعةُ أوْجُهٍ:
أحدها: أنَّهُ حال من الضمير في "يورث"، إنْ أُرِيدَ بها الميِّتُ، أو الوارثُ، إلاَّ أنَّهُ يَحْتاج في جَعْلها بمعنى الوارث إلى تقدير مضافٍ، أي: يُورث ذا كَلاَلَةٍ؛ لأنَّ الكلالة حينئذٍ ليست نفس الضَّمير المستكن في { يُورَثُ }.
قال أبُو البَقَاءِ: على جعلها بمعنى الميت ولو قُرِئَ "كلالةٌ" بالرَّفع على أنَّهَا صفةٌ أو بدلٌ من الضَّميرِ في { يُورَثُ } لجاز، غير أنِّي لم أعرف أحداً قَرَأ به، فلا يُقْرأنَّ إلا بما نُقِلَ. يعني بكونها صفةً: أنَّهَا صفةٌ لـ "رَجُل".
الثَّاني: أنَّهَا مفعولٌ من أجله، إنْ قيل: إنَّهَا بمعنى القرابة، أي: يُورَثُ لأجل الكلالة.
الثَّالثُ: أنَّهُ مفعول ثَانٍ لـ { يُورَثُ } إن قيل: إنَّها بمعنى المال المَوْرُوثِ.
الرَّابعُ: أنَّها نعتٌ لمصدر محذوفٍ، إن قيل: إنَّهَا بمعنى الوِرَاثَةِ، أي: يُورَثُ وِرَاثَةَ كَلاَلَةٍ.
وقدَّرَ مَكِّيٌّ في هذا الوجه حَذْفَ مضافٍ تقديره: "ذَات كَلاَلَةٍ".
الوجه الثَّاني من وجهي "كان" أن تكون تَامّةً، فيُكْتَفى بالمرفوع، أي: وَإن وُجِدَ رجل. و { يُورَثُ } في محلِّ رفع صِفَةٍ لـ "رَجُل" و { كَلاَلَةً } منصوبةٌ على ما تَقَدَّمَ من الحال، أو المفعول من أجله أو المفعول به، أو النَّعت لمصدرٍ محذوف عَلَى ما قُرِّرَ من معانيها، وَيخُصُّ هذا وجه آخر ذكره مَكيٌّ، وهو أن تَكُونَ { كَلاَلَةً } منصوبة على التمييزِ.
[قال مَكِّيٌّ: "كان" أي: وقع، و{ يُورَثُ } نعت للرَّجُل و"رجل" رفع بـ "كان" و{ كَلاَلَةً } نصب على التفسير].
وقيل: هو نصبٌ على الحال على أنَّ الكَلاَلَةَ هو الميِّت على هذين الوجهين، وفي جعلها تَفْسيراً - أي: تمييزاً - نظرٌ لا يَخْفى.
وقرأ الجمهور: { يُورَثُ } مبنيّاً للمفعولِ كما تَقَدَّمَ توجيهه.
وقرأ الحسن: يورث مبنيّاً للفاعل، ونُقِلَ عنه أيضاً، وعن أبي رَجَاءَ كذلك، إلاَّ أنَّهما شدَّدا الراء، وتوجيه القراءتين واضح مِمَّا تقدَّم، وذلك أنَّهُ إنْ أُريد بالكلالة الميِّتُ، فيكون المفعولان محذوفين، و{ كَلاَلَةً } نَصْبٌ على الحال، أي: وَإنْ كان رجلٌ يُورِثُ وَارثَهُ، أوْ أهْلَهُ مالَه في حال كَوْنِهِ كَلالَةً.
وَإِنْ أُرِيدَ بها القرابة، فتكون منصوبةً على المفعول مِنْ أجْله، والمفعولان أيضاً محذوفان على ما تَقَدَّمَ تقريره، وَإنْ أُرِيدَ بها المالُ كانت مفعولاً ثانياً، والأوَّلُ محذوفٌ أي: يُورِثُ أهْلَهُ مَالَهُ، وَإنْ أُريدَ بها الوارثُ فبالعكس، أي: يُورِثُ مالَه أهلَه.
قوله: { أَو ٱمْرَأَةٌ } عطف على { رَجُلٌ } وحُذِفَ منها ما أُثْبِتَ في المعطوف عليه للدلالة على ذلك، التَّقديرُ: أو امرأةٌ تُورَثُ كَلاَلَةً، وإنْ كان لا يَلْزَمُ من تقييد المعطوف عليه تقييدُ المعطوفِ ولا العكس، إلاَّ أنَّهُ هو الظَّاهِرُ.
وقوله: { وَلَهُ أَخٌ } جملة مِنْ مبتدأٍ وخبرٍ في محلِّ نصبٍ على الحال، والواو الدَّاخلة عليها واوُ الحال، وصاحبُ الحال إمَّا { رَجُلٌ } أي: إنْ كان { يُورَثُ } صفةً له، وإمَّا الضَّميرُ المستتر في { يُورَثُ } وَوَحَّدَ الضمير في قوله: "وله"؛ لأنَّ العطف بـ "أو" وما ورد على خلاف ذلك أوِّلَ عند الجمهور كقوله:
{ { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا } [النساء: 135].
فإن قيل: قوله تعالى: { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو ٱمْرَأَةٌ } ثم قال { وَلَهُ أَخٌ } فهي عن الرَّجُلِ، وما هي عن المرأة، فما السَّبَبُ فيه؟.
فالجوابُ: قال النُّحَاةُ: إذا تقدَّمَ متعاطفان بـ "أو" مذكر ومؤنَّث كنتَ بالخيار، بَيْنَ أنْ تراعي المتقدم أو المتأخِّرَ، فتقول: "زيدٌ أو هندُ قامَ" وَإنْ شئت: "قَامَتْ".
وأجاب أبُو البَقَاءِ عن تذكيره بثلاثة أوجه:
أحدُهَا: أنَّهُ يعود على الرَّجُلِ وهو مذكر مبدوء به.
الثَّانِي: أنَّهُ يعود على أحدهما، ولفظ "أحَد" مفردٌ مذكَّرٌ.
والثَّالِثُ: أنَّهُ يعود على الميِّت، أو الموروثِ لِتَقَدُّمِ ما يدلُّ عليه، والضَّمير في قوله: { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا } فيه وجهان:
أحدُهُمَا: أنَّهُ يعود على الأخ والأخت.
والثَّانِي: أنَّهُ يعودُ على الرَّجُلِ، وعلى أخيه وأخته، إذا أُريد بالرَّجُلِ في قوله: { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً } أنَّهُ وارثٌ لا موروثٌ، كما تَقَدَّمَتْ حكايته في قول الزَّمَخْشَرِيِّ.
قال الزَّمخشريُّ - بعد ما حكيناه عنه -: "فإن قلتَ: فالضَّمِيرُ في قوله: { فلكل واحد منهما } إلى مَنْ يرجعُ حينئذٍ؟.
قلت: على الرَّجُلِ، وعلى أخيه، أو أخته، وعلى الأوَّل إليهما.
فإن قُلْتَ: إذا رجع الضَّمِيرُ إليهما أفاد استواءَهُمَا في حيازةِ السُّدُسِ من غير مُفَاضَلَةِ الذَّكر للأنثى، فهلْ تبقى هذ الفائدةُ قائمةً في هذا الوجه؟.
قلتُ: نَعَمْ، لأنك إذا قلتَ: السُّدس له أو لواحد مِن الأخِ أو الأخت على التخيير، فقد سَوَّيْتَ بين الذَّكر والأنثى". انتهى.
وأجمع المفسِّرونَ على أنَّ المراد بالأخ والأخت هاهنا الإخوة من الأمِّ؛ لأنَّ ما في آخر السُّورة يدلُّ على ذلك، وهو كون للأخت النّصف، وللأختين الثُّلثان وللإخوة الذُّكور والإناث للذَّكَر مثلُ حظِّ الأنثيين، ولقراءة أبِي سَعِيدٍ. وقرأ أبيٌّ "أخ أو أخت من الأم".
وقرأ سعد بن أبي وقاص "من أم" بغير أداة التَّعريف.
قوله: { فَإِن كَانُوۤاْ } الواو ضمير الإخوة من الأمِّ المدلول عليهم بقوله: { أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } والمرادُ الذُّكورُ والإناث، وأتى بضمير الذُّكور في قوله: { كَانُوۤاْ } وقوله: { خَلْفِهِمْ } تغليباً للمذكَّر على المؤنَّثِ، و"ذلك" إشارةٌ إلى الواحد، أي: أكثر من الواحد، يعني: فإنْ كان مَنْ يَرِثُ زائداً على الواحد؛ لأنَّهُ لا يَصِحُّ أن يقال: "هذا أكثرُ من واحد" بهذا المعنى لتنافي معنى كثير وواحد، وإلاَّ فالواحدُ لا كثرة فيه، وتقدَّمَ إعراب { من بعد وصية يوصى بها }.
فصل: في أثر عن أبي بكر - رضي الله عنه -
قال أبو بكر الصّديق - رضي الله عنه - في خطبته: ألا إنَّ الآيةَ التي أنزل اللَّهُ - تعالى - في أوَّل سورة النِّسَاءِ في بيان الفرائضِ أنزلها في الوَلَدِ، والوالد والأمِّ، والآية الثَّانية في الزَّوْجِ والزَّوجة والإخوة من الأمِّ، والآية الَّتي ختم بها سورة النساء في الإخوة، والأخوات من الأب والأمِّ، والآية التي ختم بها سورة الأنفالِ أنزلها في أولي الأرحام
{ { بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } [الأنفال: 75].
قوله: { غَيْرَ مُضَآرٍّ } "غير" نَصْبٌ على الحال من الفاعل في "يوصَى"، وهو ضمير يعود على الرجل في قوله: { وَإِن كَانَ رَجُلٌ }، هذا إنْ أُريد بالرَّجل الموروث، وإن أُرِيدَ به الوارثُ كما تَقَدَّمَ، فيعود على الميِّت الموروث المدلول عليه بالوارثِ مِنْ طريقِ الالتزام، كما دلَّ عليه في قوله:
{ { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } [النساء:11]، أي: تَرَكَهُ الموروث، فصار التقدير: يوصَى بها الموروثُ، وهكذا أعْرَبَه الناس فجعلوه حالاً: الزَّمَخْشَرِيُّ وغيره.
وَردَّهُ أبو حيَّان، بأنَّهُ يُؤدِّي إلى الفَصْلِ بينَ هذه الحال وعامِلها بأجنبيِّ منهما، وذلك أنَّ العَامِلَ فيها { يُوصَىٰ } كما تقرَّرَ.
وقوله: { أَوْ دَيْنٍ } أجنبي؛ لأنَّهُ معطوف على { وَصِيَّةٍ } الموصوفة بالعامل في الحال.
قال: ولو كانَ على ما قالوه من الإعراب لكانَ التركيب: { من بعد وصية يوصى بها غير مضار أو دين }.
وهذا الوجه مانع في كلتا القراءتين: أعني ناء الفعلِ للفاعل، أو المفعول، وتزيدُ عليه قراءة البناء للمفعول وَجْهاً آخَر، وهو أن صاحب الحال غيرُ مذكور؛ لأنَّهُ فاعِلٌ في الأصل، حُذِفَ وأُقِيمَ المفعول مقامه، ألا ترى أنَّكَ لو قلت: "ترسل الرياح مبشراً بها" بكسر الشين يعني "يرسل الله الرياح مبشراً بها" فحذفت الفاعل، وأقمت المفعولَ مُقامَهُ، وجئتَ بالحال من الفاعل لم يَجزْ، فكذلك هذا، ثم خَرَّجه على أحد وجهين:
إما بفعل يَدُلُّ عليه ما قبله من المعنى؛ ويكون عاماً لمعنى ما يتسلَّط على المال بالوصية أو الدِّيْن، وتقديره: يلزمُ ذلك مالَهُ، أو يوجبه [فيه] غَير مُضَارٍّ بورثته بذلك الإلزامِ أو الإيجاب.
وإمَّا بفعلٍ مَبْني للفاعل لدلالَةِ المبني للمفعول عليه، أي: يوصي غير مُضارٍّ، فيصيرُ نظير قوله:
{ { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ رِجَالٌ } [النور: 36، 37] على قراءة من قرأ بفتح الباء.
فصل
اعلم أنَّ الضّرار في الوَصِيَّةِ يقعُ على وجوهٍ:
منها: أن يوصي بأكثر من الثُّلُثِ، أو يُقِرَّ بكلِّ ماله، أو ببعضه لآخر، أو يُقِرَّ على نفسه بدين لا حقيقةَ له دَفْعاً للميراث عن الورثة، أو يُقِرَّ بأنَّ الدّين الذي كان له على فلان قد استوفاه ووصل إليه، أو يبيع شيئاً بثمن رخيص، أو يشتري شيئاً بثمن غالٍ، كلُّ ذلك لغرض ألاَّ يصلَ المالُ إلى الورثة، أو يوصي بالثُّلُث لا لوجه اللَّهِ ولكن لغرض تنقيص حقوق الورثةِ، فهذا هو [وجه] الإضرار في الوصيةِ.
روى عكرمة عن ابن عبَّاسٍ أنَّهُ قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"الإضْرَارُ في الوَصِيَّةِ مِنَ الكَبَائِرِ" ، وعن شَهْر بْنِ حَوْشَب عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً فَإذَا أوْصَى وَجَارَ فِي وَصِيَّتِه خَتَمَ اللَّهُ لَهُ بِشرِّ عَمَلِهِ؛ فَيدخُل النَّارَ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَملِ أهْلِ النَّارِ سَبْعِينَ سَنَةً فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ فَيَخْتِمُ اللَّهُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ فَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ" وقال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ قَطَعَ مِيراثاً فَرَضَهُ اللَّهُ - تعالى - قَطَعَ اللَّهُ - تعالى - مِيراثَهُ مِنَ الْجَنَّةِ" ويدلُّ على ذلك قوله تعالى بعد هذه الآية:
{ { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ } [النساء: 13] قال ابنُ عبَّاسٍ: في الوصيَّةِ { { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } [النساء: 14] قال: في الوصِيَّةِ.
فصل هل يجب إخراج الزكاة والحج من التركة؟
قال الشَّافِعِيُّ: إذَا أخَّرَ الزَّكاةَ والحج حتَّى مات يجب إخراجهما من التَّركة.
وقال أبو حَنِيفَةَ: "لا تجب".
حجَّةُ الوجوب أنَّهَا دينٌ، وقال تعالى: { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ }.
وقال عليه الصَّلاة والسَّلامُ:
"أرَأيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أبِيكَ دَيْنٌ" وقال عليه السلام: "دينُ اللَّهِ أحَقُّ أنْ يُقْضَى" .
قوله: { وَصِيَّةٍ } في نصبها أربعة أوجه:
أحدها: أنَّهُ مصدرٌ مؤكَّد، أي: يوصيكم اللَّهُ [بذلك] وَصِيَّة.
الثَّاني: أنها مصدر في موضع الحال، والعامل فيها { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ } قاله ابنُ عَطِيَّةَ.
والثَّالِثُ: أنَّهَا منصوبةٌ على الخروج إمَّا مِنْ قوله: { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ }، أو من قوله: { لِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي ٱلثُّلُثِ }، وهذه عبارةٌ تشبه عبارة الكوفيين.
والرَّابعُ: أنَّها منصوبةٌ باسم الفاعل وهو { مُضَآرٍّ } والمُضَارَّة لا تقع بالوصيَّةِ بل بالورثة، لكنَّه لَمَّا وَصَّى اللَّهُ - تعالى - بالورَثَة جَعَلَ المُضَارَّة الواقعة بهم كأنها واقعة بنفس الوصيّة مُبَالَغةً في ذلك، وَيُؤيَّدُ هذا التخريج قراءة الحسن: { غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ } بإضافة اسم الفاعل إليها على ما ذكرناه من المجاز، وَصَارَ نظير قولهم: "يا سارِقَ الليلةَ"، التقدير: يا سارقاً في اللَّيْلة، ولكنَّهُ أضاف اسم الفاعل إلى ظرفه مجازاً واتِّساعاً، فكذلك هذا أصله: "غير مضار في وصية من الله"، فاتُّسعَ في هذا إلى أنَّ عُدَّيَ بنفسه من غير واسطةٍ، لما ذكرنا من قَصْد المبالغة، وهذا أحْسَنُ تخريجاً من تخريج أبي البَقَاءِ فإنَّهُ ذكر في تخريج قراءة الحَسَنِ وجهين:
أحدهما: أنَّهُ على حذف "أهل" أو "ذي" أي: غير مضارِّ أهل وصيَّةٍ، أو ذي وَصِيَّة.
والثَّاني: على حذف وقت، أي: وقت وصيَّة، قال وهو مِنْ إضافَةِ الصِّفة إلى الزَّمانِ، ويقرب من ذلك قولهم: هو فارسُ حربٍ، أي: فارس في الحرب، وتقولُ: هو فارسُ زمانه، أي: فارس في زمانه، كذلك تقدير القراءة: غير مضارٍّ في وقت الوصيَّة.
ومفعول { مُضَآرٍّ } محذوفٌ إذا لم تُجعَلْ { وَصِيَّةً } مفعولةً، أي: غير مضارٍّ وَرَثتِهِ بوصيَّةِ.
فَإنْ قيل: ما الحكمةُ في أنَّهُ ختم الآية الأولى بقوله: "فريضة من الله والله عليم حليم" وختم هذه الآية بقوله: "وصية من الله"؟ فالجوابُ: أنَّ لفظ الفرض أقوى وأؤكد من لفظ الوَصِيَّةِ، فختم شرح ميراث الأولاد بذكر الفريضة، وختم شرح ميراث الكلالة بالوصيَّةِ ليدلَّ بذلك على أنَّ الكلَّ، وإن كان واجب الرِّعاية، إلاَّ أن رعاية حال الأولاد أولى وأقوى، ثم قال: { والله عليم حليم } عليم بمن جار أو عدل في وصيته "حليم" على الجائر لا يعالجه بالعقوبة وهذا وعيدٌ.