خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَٰتُكُمْ وَبَنَٰتُكُمْ وَأَخَوَٰتُكُمْ وَعَمَّٰتُكُمْ وَخَالَٰتُكُمْ وَبَنَاتُ ٱلأَخِ وَبَنَاتُ ٱلأُخْتِ وَأُمَّهَٰتُكُمُ الَّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ وَأُمَّهَٰتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّٰتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَٰئِلُ أَبْنَائِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ ٱلأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
٢٣
-النساء

اللباب في علوم الكتاب

أمهات جمع أمِّ والهاء زائدةٌ في الجمع، فَرْقاً بَيْنَ العُقَلاَءِ وغيرهم، يُقَالُ في العُقَلاَءِ أمَّهَات، وفي غيرهم أمات كقوله:

1773- وَأمَّاتِ أطْلاَءٍ صغار

هذا هو المشهور، وقد يقال: "أمَّات" في العقلاء و"أمهات" في غيرهم، وقد جمع الشَّاعِرُ بين الاستعمالين في العُقَلاَءِ فقال: [المتقارب]

1774- إذَا الأمَّهاتُ قَبَحْنَ الوُجُوهَ فَرَجْتَ الظَّلاَمَ بِأُمَّاتِكَا

وقد سُمِعَ "أمهة" في "أم" بزيادَةِ هاء بعدها تاء تأنيث، قال: [الرجز]

1775- أُمَّهَتي خِنْدَفٌ وَالْياسُ أبِي

فعلى هذا يَجُوزُ أنْ تكون أمَّهات جمع "أمهة" المزيد فيها الهاء، والهاءُ قد أتَتْ زَائِدةً في مواضع قالوا: هِبْلَع، وهِجْزَع من البَلْعِ وَالجَزْع.
قوله: { وَبَنَاتُكُمْ } عطف على { أُمَّهَاتُكُمْ } وبنَاتُ جمع بِنْتٍ، وَبِنْتٌ: تأنيث ابن، وتقدَّمَ الكلام عليه وعلى اشتقاقه ووزنه في البقرة في قوله:
{ { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ } [البقرة: 40] إلا أنَّ أبَا البقاء حكى [عن] الفرَّاءِ أنَّ "بَنَات" ليس جمعاً لـ "بِنْتٍ"، يعني: بكسر البَاءِ بل جمع "بَنَة" يعني: بفتحها قال: وكُسِرَتِ الْبَاءِ تنبيهاً على المحذوف.
قال شهابُ الدِّينِ: هذا إنَّمَا يَجيءُ على اعتقادِ أنَّ لامها ياء، وقد تَقَدَّمَ الخلافُ في ذلك، وأنَّ الصَّحِيحَ أنَّهَا واو، وَحَكَى عن غيره أن أصلها: "بَنَوة" وعلى ذلك جَاءَ جمْعُهَا ومذكرها، وهو بنون، قال: وهو مذهب البصريين.
قال شهَابُ الدِّينِ: لا خلاف بين القوْليْنِ في التَّحْقِيقِ؛ لأنَّ من قال بنات جمعُ "بَنَة"، بفتح الباء، لا بدَّ وأن يعتقد أنَّ أصْلَهَا "بنوة"، حذفت لامها وعوّض عنها تاءُ التأنيث، والَّذي قال: بنات جمع "بنوة" لفظ بالأصْلِ فَلاَ خِلاف.
واعْلَمْ أنَّ تَاء "بِنْتٍ" وَ"أخْت" تاءُ تعويضٍ عن اللامِ المحذوفَةِ، كما تَقَدَّمَ تقريره، وليست للتَّأنِيثِ؛ لوجهين:
أحدُهُما: أنَّ تَاءَ التَّأنيثِ يَلْزَمُ فتح ما قبلها لفظاً أوْ تقديراً: نحو: تَمْرَةٍ وفتاة، وهذه ساكنٌ ما قَبْلَهَا.
والثَّاني: أنَّ تَاءَ التأنيث تبدل في الوقف هاء، وهذه لا تُبْدَلُ، بل تُقَرُّ على حالها.
قال أبُو الْبَقَاءِ: "فإن قيل: لِمَ رُدَّ المحذوف في "أخوات" ولم يُرَدُّ في "بَنَات"؟ قيل: [حُمِلَ] كلُّ واحد من الجَمْعَيْنِ على مذكَّرِهِ، فمذكر "بنات" لم يُرَدُّ إليه المحذوف بل قالوا فيه "بَنُون"، ومذكر "أخَوات" رُدَّ فيه محذوفه قالوا في جمع أخ، إخْوَة وإخوان".
قال شهَابُ الدِّينِ: وهذا الذي قاله ليس بشيء؛ لأنَّهُ أخذ جمع التَّكسير وهو إخوة وإخوان مقابلاً لـ"أخوات" جمع التَّصْحِيحِ، فقال: رُدَّ في أخوات كما رُدَّ في إخوة، وهذا أيْضاً موجودٌ في بنات؛ لأنَّ مذكَّره في التَّكسير رُدَّ إليه المحذوفُ قالوا: ابن وأبناء، ولمَّا جمعوا أخاً جمع السَّلامة قالوا فيه "أخُون" بالحذف، فردُّوا في تكسير ابن وأخ محذوفهما، ولم يَرُدُّوا في تصحيحهما، [فبان] فَسَادُ ما قال.
فصل:
اعلم أنَّ اللَّهَ تعالى نَصَّ على تحريم أرْبَعَةَ عَشَرَ صِنْفاً من النِّسْوَانِ، سبعة من جهة النَّسَبِ، وهُنَّ الأمَّهات [والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأخ وبنات الأخت، وسبعة من غير النسب، وهن الأمهات المرضعات] والأخوات من الرِّضاعة وأمهات النِّساء، وبنات النِّساء المدخُول بأمَّهاتِهِنَّ، وأزواج الأبْنَاءِ، وأزواج الآباء، وقد ذُكِرُوا في الآية المتقدمة، والجمع بين الأختين.
فصل
قال الكرخِيُّ: هذه الآية مجملة؛ لأنَّهُ أضيفَ التَّحريم فيها إلى الأمَّهاتِ والبنات، والتحريم لا يمكن إضافَتُه إلى الأعْيَانِ، وإنَّمَا يضاف إلى الأفْعالِ، وذلك الفعل غير مذكُورٍ في الآية فليس إضافة هذا التحريم إلى بعض الأفْعالِ التي لا يمكن إيقاعها في ذوات الأمهات والبنات أوْلى من بعض، فصارت الآية مجملة على هذا الوجه.
قال ابن الخطيب: والجواب من وجهين:
الأول: أنَّ تقديمَ قوله { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } يدل على أنَّ المراد من قوله: { حرمت عليكم أمهاتكم } تحريم نكاحهن. الثاني: أنَّ من المعلوم بالضَّرُورَةِ من دين مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أنَّ المراد منه تحريم نكاحِهِنَّ، والأصل فيه أن الحرمة والإباحة إذا أضيفتا إلى الأعيان فالمراد تحريم الفعل المطلوب منها في العرف فإذا قيل { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } فهم كل أحد أنَّ المراد تحريم نكاحهن، ولما قال عليه السَّلام
"لا يحل دم امرئ مُسْلِمٍ إلاَّ بإحدى ثلاث" فهم كل أحد أنَّ المراد لا يحلُّ إراقة دمه وَإذَا كان ذلك معلوماً بالضَّرُورَةِ، كان إلْقَاءُ الشُّبهات فيها جارياً مَجْرَى القَدْحِ في البديهيَّاتِ وشبه السُّفُسْطَائِيَّةِ.
بلى عندي فيه بحثٌ من وجوه أخرى:
أحدها: أن قوله: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } مذكور على ما لَمْ يُسَمَّ فاعله، فليس فيه تصريح بأنَّ فَاعِلَ هذا التحريم هو اللَّهُ تعالى، وما لم يَثْبُتْ ذلك لم تُفِد الآية شيئاً آخر، ولا سبيل إليه إلا بإجماع، فهذه الآيةُ وحدها لا تفيد شيئاً، بل لا بد معها من الإجماع على هذه المقدمة.
وثانيها: أنَّ قوله تعالى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ } [ليس] نصاً في ثبوت التحريم على سبيل التأبيد فَإنَّ القدر المذكور في الآية يمكن تقسيمه إلى المُؤقَّتِ، فإنَّهُ يقال تارة { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } مؤقتاً "وحرمت عليكم [أمهاتكم]" مؤبداً، وإذا كان ذلك صالحاً للتَّقْسِيمِ لم يكن نصاً في التَّأبيد فإذنْ لا يُسْتَفاد التأبيد إلاَّ من دليل منفصل.
وثالثها: أنَّ قوله: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } إخبار عن ثبوت هذا التحريم في الماضي، وظاهر اللفظ غير متناول للحاضر والمستقبل، فلا يعرف ذلك إلاَّ بدليل منفصل.
ورابعها: أنَّ هذه ظاهر قوله { حرمت عليكم [أمهاتكم] } يقتضي أنَّهُ قد حرَّم على كُلِّ أحدٍ جميع أمَّهَاتِهم، وجميع بَنَاتِهِمْ، ومعلوم أنَّه ليس كذلك، بل المقصود أنه تعالى قابل الدمع بالجمع، فيقتضي مقابلة الفَرْدِ بالفَرْدِ، فَهَذَا يقتضي أن الله تعالى قَدَّ حرَّمَ على كُلِّ أحَدٍ أمّه خاصة، وأخته خاصة، وهذا فيه نوع عدول عن الظاهر.
خامسها: أنَّ قوله: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ } يشعر ظاهره بسبق الحل، إذ لو كَانَ أبداً موصوفاً بالحرمة، لكان قوله { حُرِّمَتْ } تحريماً لما هو في نفسه حرام، فيكونُ ذلك إيْجَاد الموجود، وهو محالٌ؛ فثبت أنَّ المراد من قوله: { حُرِّمَتْ } ليس تجديد التحريم، حتى يلزم الإشكال، بل المراد الإخْبَار عن حُصُولِ التحريم فثبت بهذه الوجوه أن ظاهر الآية وحده غير كاف في ثبوت المطلوب.
فصل [حرمة الأمهات ثابتة من زمن آدم]
حرمة الأمهات والبنات كانت ثابتة من زمن آدم - عليه السلام - إلى زماننا ولم يثبت حل نكاحهن في شيء من الأدْيَان الإلهيَّة إلا ما نقل عن زرادشت رسول المجوس أنَّهُ قال بحله، وأكثر المسلمين اتفقوا على أنَّهُ كان كذاباً، وأما نكاح الأخَوَاتِ فقد نُقِلَ: أنَّهُ كان مُبَاحاً في زَمَنِ آدم عليه السلام، وَإنَّمَا أبَاحَهُ الله للضرورة، وأنكر بَعْضُهُمْ ذلك، وقال: إنَّهُ تعالى كان يَبْعَثُ الجواري من الجنَّةِ ليتزوّج بهنَّ أبناء آدم عليه السَّلامِ، ويبعث أيضاً لبنات آدم من يتزوج بهن من الحور، وهذا بعيد؛ لأنَّهُ إذا كان زوجات أبنائه وأزواج بناته من الجنة فحينئذٍ لا يكون هذا النسل من أوْلادِ آدم فقط، وذلك باطل بالإجماع.
فصل [سبب التحريم]
ذكر العلماءُ أنَّ سبب التحريم منه أنَّ الوطءَ إذلالٌ وإهانةٌ، فإنَّ الإنسان يستحي من ذكره، ولا يقدمُ عليه إلاَّ في الموضع الخالي، وأكثر أنواع الشتم لا يكون إلا بذكره، وإذَا كان الأمر كَذَلِكَ؛ وَجَبَ صونُ الأمَّهات [عنه؛ لأنَّ إنعام الأم] على الولد أعظم وجوه الإنعام؛ فوجب صونُهَا عن هذا الإذلاَلِ، والبنتُ بمنزلة جزء من الإنسان وبعض منه، قال عليه السَّلام:
"فَاطِمَةُ بضْعَةٌ مِنِّي" فيجبُ صونها عن هذا الإذلال، وكذا القول في البقية.
فصل
كلُّ امرأةٍ يرجع نسبك إلَيْهَا بالولادة من جهة أبيك أو من جهة أمِّكَ بدرجة أو درجات سواءَ رجعت إليها بذكور، أو بإناث فهي أمُّك، ثمَّ هنا بحث، وهو أنَّ لفظ الأم إن كان حقيقة في الأم الأصلية وفي الجدات، فَإمَّا أنْ يكون لفظ الأمّ متواطئاً أو مشتركاً فإن كان متواطئاً أعْنِي أن يكون موضوعاً بإزَاءِ قَدْرٍ مُشْتَركٍ بين الأمّ الأصليَّة، وبين سائر الجدّات، فتكون الآية نَصاً في تحريم الأمِّ الأصليَّة وفي الجدَّات، وأمَّا إن كان لفظ "الأمّ" مشتركاً في الأم الأصليَّة وفي الجدّات فهذا تفريع على أنَّ اللَّفظ المشترك بين أمرين هل يجوزُ استعماله فيهما معاً أم لا؟ فمن جَوَّزَهُ حمل اللَّفظ هنا على الكُلِّ، [وحينئذ يكون تحريم الجدات منصوصاً عليه، ومنهم] من لم يجوزه، والقائلون بذلك لهم طريقان في هذا الوَضْعِ:
أحدُهُما: أنَّ لفظ الأمِّ إنْ أُريد به ههنا الأم الأصليَّة فتحريمُ نكاحها هنا مستفادٌ بالنصّ، وَأمَّا تحريمُ نكاح الجدَّاتِ فَمُسْتَفادٌ مِنَ الإجماع.
الثاني: أنَّهُ تعالى تكلم بهذه الآية مرَّتين، يريدُ في كلِّ مرَّةٍ مفهوماً آخر.
وَإنْ كان لفظ "الأمِّ" حقيقة في الأمّ الأصليَّة، مجازاً في الجدَّات، فقد ثبت أنَّهُ لا يَجُوزُ استعمال اللَّفْظِ الوَاحِدِ دفعةً واحدةً في حقيقته ومجازه معاً، وحينئذٍ يرجع الطريقان المذكوران [للأول]، وَكُلُّ أنثى رجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو بدرجات، بإنَاثٍ، أو بِذُكُورٍ، فهي بنتُكَ، وهل بِنْتُ الابْنِ وبِنْتُ البِنْتِ تسمّى هنا حقيقة أوْ مجازاً؟ فيه البحث كما في الأمِّ.
فصل هل زواج الرجل بأمه يوجب الحد
قال الشَّافِعِيّ: إذا تزوَّج الرَّجُل بأمِّهِ ودخل بها، لزمه الحدُّ.
وقال أبُو حَنِيفَةَ: لا يلزم، حجة الشَّافِعِيِّ أنَّ وجود هذا النكاح وعدمه سواء، فَكَانَ هذا الْوَطْء زنا، فيلزمه الحدّ، وَإنَّمَا قلنا: إنَّ وجوده وعدمه سواءً؛ لأنَّهُ تعالى قال { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } وقد علم من دين محمد صلى الله عليه وسلم أنَّ المراد من هذه الآية تحريم نكاحها، وإذَا ثبت ذلك فنقولُ: الموجودُ ليس إلا صيغة الإيجاب والقَبُولِ، فَلَوْ حصل هذا الانعقاد، لكانَ هذا الانعقَادُ إمَّا أنْ يقالَ: إنَّهُ حصل في الحقيقة أو في حكم الشَّرع، والأوَّلُ باطل؛ لأنَّ صيغة الإيجاب والقبول كلام وهو عرض لا يبقى، والقبول لا يوجدُ إلا بعد الإيجاب، وحصولُ الانعقاد بَيْنَ الموجود والمعدوم محال.
والثَّاني باطلٌ؛ لأنَّ اللَّه - تعالى - بيَّنَ في هذه الآية بطلان هذا العقد [قطعاً]، وإذا كان هذا العقد بَاطِلاً قطعاً في حكم الشَّرْعِ، فكيف يمكنُ القَوْلُ بِأنَّهُ منعقدٌ شَرْعاً؟ فَثَبَتَ أنَّ وجود هذا العقد وعدمه بمثابة واحدة.
فصل [حكم نكاح البنت من الزنا]
قال الشَّافِعِيُّ - رضي الله عنه -: البنت المخلوقة من ماء الزنا لا تحرم على الزاني.
وقال أبو حنيفة وأحمد: تحرم. حجَّةُ الشَّافِعِيِّ أنَّهَا ليست بنتاً فلا تحرم، وإنما قلنا: ليست بنتاً لوجوه:
أحدها: أنَّ أبا حنيفة - رضي الله عنه - إمَّا أن يثبت كونها بنتاً له بناء على الحقيقةِ، وهي كونها مخلوقة من مائه أو [بناء] على حكم الشَّرعِ بثبوت هذا النَّسَبِ، والأوَّلُ باطلٌ على مذهبه طرداً أو عكساً، وأمَّا الطرد فهو أنَّهُ إذا اشترى جارية بكراً، وافتضها وحبسها في داره، وأتت بولد فهذا الولدُ معلوم أنَّهُ مخلوق من مَائِهِ، مع أن أبَا حنيفة قال: لا يثبت ولدها إلا عند الاستلحاق، ولو كان النَّسب هو كون الوَلَدِ مخلوقاً من مائه، لما توقّف [أبو حنيفة في] ثبوت هذا النسب على الاستلحاق.
وَأمَّا العكس فهو أنَّ المشرقي إذَا تزوَّجَ بالمغربية، وحصل هناك ولد فَأبُو حَنِيفَةَ أثْبَتَ النسب ههنا مع القطع بأنَّهُ غير مخلوق من مَائِهِ، فثبت أنَّ القول بجعله التَخليق من مائه سبباً للنَّسب باطل، طرداً أوْ عكساً على قول أبِي حنيفة، وأمَّا إذا قلنا: إنَّ النَّسب إنَّمَا يثبت بحكم الشرع فههنا أجمع المسلمون أنَّه لا نسب لولد الزِّنى من الزَّاني، ولو انتسب إلى الزَّاني لوجب على القَاضِي منعَه من ذلك الانتساب، فَثَبَتَ أنَّ انتسابها إلَيْهِ غير ممكن، لا على الحقيقة، ولا على حكم الشرع.
وثانيها: قوله عليه السَّلاَمُ:
"الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ ولِلْعَاهِرِ الحَجَرُ" فحصر النسب في الفراش.
وثالثها: أنَّهُ لا ولاية له عليها، ولا يَرِثُهَا ولا ترثه، ولا يجب لها عليه نفقة ولا حضانة، ولا يَحِلُّ له الخلوةُ بها، ولَمَّا لم يثبت شَيْء من ذلك علمنا انتفاء النَّسَبِ بينهما، وَإذَا انتفى النَّسَبُ بينهما حلَّ التَّزَوُّجُ بها.
قوله { وَأَخَوَاتُكُمْ } ويدخل فيه الأخوات للأبوين والأب وللأم.
قوله { وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ }.
قال الواحِدِيُّ: كلُّ ذكر رجع نسبك إلَيْهِ فأخته عَمَّتُك، وقد تكون العمة من جهة الأم، وهي أخْتُ أبي أمِّكَ، وكل أنثى رجع نسبك إلَيْهَا بالولادة فأختها خالتك، وقد تكونُ الخالةُ من جهة الأبِ، وهي أختُ أمِّ أبيكَ، فألف "خالة" و"خال" منقلبة عن وَاوٍ بدليل جمعه على "أخْوَالٍ" قال تعالى: { وَبَنَاتُ ٱلأَخِ وَبَنَاتُ ٱلأُخْتِ } وقوله وبنات الأخ والأخت، والقول فيهنَّ كالقول في بنات الصلب.
قال المفسِّرُون كُلُّ امرأةٍ حرم اللَّهُ نكاحها ابتداءً فهنَّ المذكورات في الآية الأولى وكلُّ امرأة كانت حلالاً ثمَّ طَرَأَ تحريمها فهن اللاتي ذكرن في باقي الآية.
قوله { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَاعَةِ }.
قال الواحِدِيُّ: سَمَّاهُن أمهات لأجل الحرمة، كما أنَّهُ تعالى سَمَّى أزواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين [في قوله:]
{ { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [الأحزاب: 6].
قوله: { مِّنَ ٱلرَّضَاعَةِ } في موضع نصب على الحال، يتعلق بمحذوف تقديره: وأخواتكم كائنات من الرضاعة.
وقرأ أبو حيوة من الرِّضاعة بكسر الرَّاءِ.
فصل: [حرمة الأمهات والأخوات من الرضاعة]
نُصَّ في هذه الآية على حرمة الأمَّهَاتِ والأخوات من الرِّضاعة كما يحرمن من النَّسَبِ، وقد نبَّه الله تعالى في الآية على ذلك بتسميته المرضعة أماً والمرضعة أختاً فأجرى الرّضاع مجرى النَّسَبِ، [وذلك لأنَّهُ تعالى حرم بسبب النّسب] سبعاً اثنان بطريق الولادةِ وهما الأمهات والبنات، وخمسٌ بطريق الأخوة؛ وهنَّ: الأخواتُ والعماتُ والخالاتُ وبنات الأخ، وبنات الأخت، ثمَّ لما شرع في أحوال الرِّضاعَةِ ذكر من كل واحد من هذين القسمين صورة واحدة تنبيهاً بها على الباقي، فذكر من قسم قرابة الولادة الأمَّهات، ومن قسم قرابة الأخوة الأخوات، ونَبَّه بذكر هذين المثالين من هذين القسمين على أنَّ الحال في باب الرضاع، كما هو في باب النَّسَبِ، ثُمَّ إنَّهُ عليه الصلاة والسلام أكَّدَ ذلك البيان بقوله
"يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب" .
فصل: [من هي الأم من الرضاع؟]
الأمُّ من الرّضَاعِ هي المرضعةُ، وكذلك كلُّ امرأةٍ انتسبت إليها بالأمومة إمّا من جهة النَّسَبِ، أو من جهة الرضَاع، وكذلك القَوْلُ في الأب وَإذَا عرفت الأم والأب عرفت البنت أيضاً بذلك الطريق. وَأمَّا الأخوات فالأخت للأبوين هي الصغيرة الأجنبية التي أرضعتها أمك بلبن أبيك سواءً أرضعتها معك، أو مع ولد قبلك أو بعدك، والأخت للأب: هي الَّتي أرضعتها زوجة أبيك بلبن أبيكَ، والأخت للأمِّ: هي التي أرضعتها أمك بلبن رجل آخر، وكذلك تعرف العمَّات والخالات، وبنات الأخ وبنات الأخت.
فصل: [شرطا حرمة الرضاع]
إنَّمَا تَثْبُتُ حرمة الرضاعة بشرطين:
أحدهُمَا: أن يكون قبل استكمال المولود حولين، لقوله تعالى
{ { وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [البقرة: 233] وقالت أمُّ سلمة: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "لا يحرم الرضاع إلا ما فتق الأمعاء" وعن ابن مسعود عن النَّبي صلى الله عليه وسلم "لا رِضَاعَ إلاَّ مَا أنْشَزَ الْعَظْمَ وأنْبَتَ اللَّحْمَ" وَإنَّمَا يكون هذا في حال الصغر [لا في حال الكبر].
وعند أبي حَنِيفَةَ مدة الرضاع ثلاثون شهراً؛ لقوله تعالى
{ { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } [الأحقاف: 15] [وهو عند الأكثرين لأقلِّ هذه الحمل وأكثر مدة الرضاع، وأقَلُّ مدة الحمل ستة أشهر].
الشَّرط الثَّاني: أن توجد خمس رضعات متفرِّقات، يُرْوَى ذلك عن عائشة، وبه قال عبدُ اللَّه بنُ الزُّبَيْرِ؛ وإلَيْهِ ذهب الشَّافِعِيُّ وأحْمَدُ، قالت عائِشَةُ رضي الله عنها: أنزل في القرآن عشر رضعات يحرمن فنسخ من ذلك خمس، وصار إلى خمس رضعات معلوماتٍ يحرمن وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك.
وقال عليه الصلاة والسلام
"لا تُحَرِّمُ المَصَّةُ مِنَ الرِّضَاعِ وَلاَ المَصَّتان" [وذهب ابن عباس وابن عمر إلى أن قليله وكثيره محرم، وبه قال سعيد بن المسيب] وإليه ذهب سفيانُ الثَّوْرِيُّ ومالكٌ والأوزاعيُّ، وعبدُ اللَّهِ بنُ المباركِ وأصحابُ الرأي.
قوله تعالى: { وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ } فيدخل فيه أمها الأصلية وجميع جدّاتها من قبل الأب والأم كما بينا في النَّسب ومذهب أكثر الصحابة والتَّابعين أنَّ أمَّ الزَّوْجَةِ تحرم على زوج بنتها سواء دخل بالبنت أو لم يدخل، وذهبَ بعضُ الصَّحَابَةِ إلى أنَّ أمَّ المرأةِ لا تحرم إلا بالدُّخول بالبنت، كما أنَّ الرَّبيبة لا تحرمُ إلاَّ بالدُّخول بأمِّهَا، وهو قول علي وزيد وابن عمر وابن الزبير وجابر، وأظهر الروايات عن ابن عبَّاسٍ والسَّبَبُ في هذه الاستعارة أن مَنْ ربي طفلاً أجلسه في حجره فصار الحجرُ عبارة عن التَّربية كما يقالُ: فلان في حضَانَةِ فلان، وأصله من الحضْنِ: الَّذي هو الإبِطُ، وقال أبُو عُبَيْدَةَ: { فِي حُجُورِكُمْ } أي: في بيوتكم.
قوله: { وَرَبَائِبُكُمُ } الرَّبَائب: جمع ربيبة، وهي: بنتُ الزوج أو الزوجة، والمذكر: رَبِيبٌ. سميا بذلك؛ لأن أحد الزوجين يُرَبّيه كما يربّي ابنه.
قوله: { ٱللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ } لا مفهوم له لخروجه مخرج الغالب، والحجور: جمع حجر بفتح الحاء، وكسرها، وهو مُقَدَّمُ ثوب الإنسان ثمَّ استعملت اللَّفْظَةُ في الحِفْظِ والسَّتْرِ.
وروى قَتَادَة عن سعيد بْنِ المُسَيَّبِ أنَّ زيد بن ثابت قال: إذا طلق الرَّجُلُ امرأتَهُ قبل الدُّخُولِ [بها] تزوَّج بأمِّها، وإذا ماتت لم يتزوّج بأمِّهَا، والفرقُ بينهما أنَّ الطَّلاق قبل الدُّخول لم يتعلق به شيء؛ لأنَّهُ لا يجب عليها عدّة، والموتُ في حكم الدُّخول في وجوب العدة.
قوله: { مِّن نِّسَآئِكُمُ } فيه وجهان:
أحدهما: أنَّهُ حال من ربائبكم تقديره: وربائبكم كائنات من نسائكم.
والثاني: أنَّهُ حال من الضَّمِيرِ المستكن في قوله: { فِي حُجُورِكُمْ } لأنه لما وقع صلة تَحَمَّل ضميراً أي: اللاتي استقررن في حجوركم.
فصل
قوله: { ٱللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } صفة لنسائكم المجرور بـ "من" اشترط في تحريم الرّبيبة أنَّ يدخل بأمها، ولا جائز أن تكون صفة لـ "نسائكم" الأولى والثانية لوجهين:
أحدهما: من جهة الصّناعة، وهو أنَّ نسائكم الأولى مجرورة بالإضافة، والثَّانية مجرورة بمن فقد احتمل العاملان، وإذا اختلفا امتنع النعت لا تقولُ: رأيتُ زيداً، ومررت بِعَمرٍو العَاقِلين، على أن يكون العاقلين صفة لهما.
والثَّاني: من جهة المعنى، وهو أن أم المرأة تَحْرُمُ بمجرد العقد على البنت دخل بها أو لم يدخل بها عند الجمهور، والرَّبيبَةُ لا تحرم إلا بالدُّخُولِ على أمِّهَا، وفي كلام الزمخشريِّ ما يلزم منه أنَّهُ يجوزُ أن يكون هذا الوصف راجعاً إلى الأولى في المعنى، فإنه قال: مِنْ نِسَائِكُمْ متعلق بـ { رَبَائِبُكُمُ } ومعناه: أنَّ الرَّبيبة من المرأة المدخول بها محرّمة على الرَّجُلِ حلال له إذَا لم يدخل بها.
فَإن قُلْتَ: هل يصحُّ أن يتعلَّق بقوله { وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ } قلتُ: لا يخلو إمَّا أنْ يتعلَّق بهن، وبالرَّبائب فتكونُ حرمتهنَّ، وحرمة الرَّبائب غير مبهمتين جميعاً، وَإمَّا أنْ يتعلَّق بهنَّ دون الرَّبائب، فتكون حرمتهنَّ غير مبهمة وحرمةُ الرَّبائب مبهمة، فلا يجوز الأوَّلُ؛ لأن معنى "مِنْ" مع أحد المتعلّقين خلاف معناها مع الآخر، ألاَ ترى أنَّكَ إذا قلت: وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فقد جعلت "مِنْ" لبيانِ النِّساء، وتمييزاً للمدخول بِهِنَّ [من غير المدخول بهن] وَإذَا قلت: وربائبكم من نسائكم التي دخلتم بهن، فَإنَّكَ جاعل "من" لابتداء الغاية، كما تقول بَنَاتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم [من خديجة]، وليس بصحيحٍ أنْ يعنى بالكلمة الواحدة في خطاب واحدٍ معنيين مختلفين، ولا يجوز الثَّاني؛ لأن الذي يليه هو الذي يستوجبُ التعليق [به]، ما لم يَعْرِضْ أمر لا يُرَدُّ إلاَّ أن تقول أعَلِّقُهُ بالنِّساء والرَّبَائِبِ، وأجعل "مِنْ" للاتصال كقوله تعالى
{ { ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ } [التوبة: 67] وقال: [الوافر]

1776-............................ فإني لست منك ولست مني

وقوله: "مَا أنَا مِنَ الدَّدِ وَلاَ الدَّدُ مِنِّي" . وأمهات النِّساء متصلات بالنِّساء؛ لأنَّهُنَّ أمهاتهن كما أنَّ الرَّبائب متَّصلات بأمهاتنّ؛ لأنَّهُنَّ بناتهنَّ، هذا وقد اتفقوا على أنَّ التحريم لأمهات النساء مبهم، انتهى.
ثمَّ قال: إلا ما روي عن عليِّ، وابن عبَّاسٍ، وزيد بن عمر، وابن الزُّبير أنَّهُم قرؤوا { وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن }، وكان ابنُ عبَّاسٍ يقول: واللَّه ما أنزل إلاَّ هكذا، فقوله أعلّقه بالنِّساء والرَّبائب إلى آخره، يقتضي أنَّ القيدَ الذي في الربائب، وهو الدُّخُول في أمَّهات نسائكم كما تَقَدَّم حكايته عن عليٍّ وابن عباس. قال أبو حَيَّان: ولا نعلم أحَداً أثبت لـ "مِنْ" معنى الاتصال، وأمَّا الآية والبيت والحديثُ فمؤَّولٌ.
فصل
روي عن علي - رضي اللَّهُ عنه - أنَّهُ قال: الرّبيبة إذَا لم تكن في حجر الزَّوْجِ؛ وكان في بلد آخر ثمَّ فارق الأمَّ بعد الدُّخول فإنَّهُ يجوزُ له أن يتزوَّج الربيبة، واحتجَّ على ذلك بقوله { ٱللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ } شرط في تحريمها كونها ربيبة في حجره فإذا لم تكن في تربيته، ولا في حجره فقد فات الشَّرْطَانِ. وَأمَّا سائر العلماء فَإنَّهمُ قالوا: إذا دخل بالأم حرمت بنتها عليه سواء كانت في تربيتها أوْ لم تكن لقوله تعالى { فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } عَلَّقَ رفع الجناح بمجرَّدِ عدم الدُّخُولِ، وهذا يقتضي أنَّ المقتضي لحصول الجناح هو مُجرَّدُ الدُّخُولِ، وإنَّمَا ذكر التّربية والحجر حملاً على الأعَمِّ الأغلب لا أن تفيد شرطاً في التحريم.
قوله: { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } الحلائل جمع حليلة، وهي الزوجة سميت بذلك؛ لأنها تحل مع زوجها حيث كان فهي فعيلة بمعنى فاعلة، والزوج حليل كذلك قال الشاعر: [الكامل]

1778- أغْشَى فتاة الحَيِّ عِنْدَ حَلِيلِهَا وَإذَا غَزَا فِي الْجَيْشِ لا أغْشَاهَا

وقيل: إنه لشدّة اتِّصال كل واحد منهما بالآخر كَأنَّهُمَا يحلان في ثواب واحد وفي لحاف واحد، وفي منزل واحد، وعلى هذا فالجاريَةُ كذلك فلا يجوز للأب أنْ يتزوَّج بجارية ابنه.
وقيل: لأنَّ كل واحد منهما كَأنَّهُ حالٌّ في قلب صاحبه وفي روحه لشدَّةِ ما بينهما من المَحَبَّةِ والألفة. وقيل اشتقاقها من لفظ الحلال إذْ كُلُّ واحد منهما حلال لصاحبه.
فالحليلةُ تكون بِمَعْنَى المحلَّة أيْ المحللة، والجارية كذلك؛ فَوَجَبَ كونها حليلة، فَفَعِيلٌ بمعنى: مَفْعُول، أي: مُحَلَّلَةٌ، وهو محلل لها، إلاَّ أنَّ هذا يُضْعِفُه دخول تاء التَّأنِيثِ اللَّهُمَّ إلاَّ أن يقال: إنَّه جرى مجرى الجوامد كالنَّطِيحةِ، والذَّبيحة.
وقيل: مأخوذٌ من الحُلُول، فالحَلِيلة: عبارةٌ عن الشَّيءِ الِّذي يكون محلّ الحلول، والجاريةُ موضع حلول السَّيِّدِ فكانت حليلة له.
وقيل: هما من لفظ "الحَلّ" ضد العقد؛ لأنَّ كُلاًّ منهما يحل إزار صاحبه.
و{ الذين من أصلابكم } صفة مبنية؛ لأنَّ الابن قد يطلق على المتبنى به، وليست امرأته حرام على من تبنّى، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نكح زينب بنت جحش الأسديّة، وهي بنت أميمةَ بنت عبد المطلب فكانت زينب ابنة عمّة النَّبي صلى الله عليه وسلم، وكان زوجها زيد بن حارثة وكان زيد تبناه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال المشركون إنَّهُ تزوج امرأة ابنه فأنْزَلَ الله تعالى:
{ { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } [الأحزاب:4] وقال { { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ } [الأحزاب: 37]، وَأمَّا الابن من الرّضَاع فإنَّهُ وإن كان حكمه حكم ابن الصَّلب في ذلك فمبين بالسُّنَّةِ، فلا يَرِدُ على الآية الكريمة. وأصلاب: جمع صلب، وهو الظّهر، سمِّي بذلك لقوَّتِهِ اشتقاقاً من الصَّلابة، وأفصح لغَتَيْه "صُلْب" بضمِّ الفاء وسكون العين، وهي لغة الحجاز، وبنو تميم وأسد يقولون "صَلَباً" بفتحها حكى ذلك الفرَّاء عنهم في كتاب "لغات القرآن" وأنشد عن بعضهم: [الرجز]

1779- فِي صَلَبٍ مِثْلِ الْعِنَانِ المُؤدَمِ

وحكى عنهم: إذْ أقُوم أشتكي صَلَبي، وصُلُبٌ بضم الصّاد واللام وصَالِبٌ ومنه قول العبَّاس رضي الله عنه ينقل من صَالبٍ إلى رَحِمٍ.
فصل [الخلاف في حل جارية الابن للأب]
قال الشَّافِعِيُّ -رحمه الله تعالى - لا يجوز للأب أنْ يتزوج جارية ابنه وقال أبُو حنيفة: يجوز استدلّ الشافعيُّ بما تقدَّمَ من الاشتقاق فمن قال: إنَّهُ ليس كذلك فهو شهادةٌ على النّفي بـ "لا" فلا يلتفتُ إليْه. انتهى.
فصل [حرمة حليلة الابن بالعقد]
اتَّفَقُوا على أنَّ حُرْمَةَ حليلة الابن تَحْصُلُ بنفس الْعَقْدِ كما تحصل حرمة حليلة الأب بنفس العقد، لأنَّ عموم الآية يقتضي ذلك سواء كان مدخولاً بها أو لم يكن.
سئل ابْنُ عَبَّاسٍ عن قوله { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } أنَّهُ تعالى لم يبين أنَّ هذا الحكم مخصوص بما إذا دخل الابن بها أو غير مخصوص، فقال ابن عبَّاس: أبهموا ما أبهمه اللَّه، فليس المراد من هذا الإبهام كونها مجملة مشتبهة، بل المرادُ من هذا الإبهام التأبيد، ألا ترى أنَّهُ قال في السّبعة المحرمة من النَّسب إنَّها من المبهمات [أي] اللّواتي تثبت حرمتهن على سبيل التّأييد فَكَذَا هُنَا.
فصل [هل يحرم النكاح باللواط؟]
[قال القرطبي]: اخْتَلَفُوا في اللائِطِ فقال مَالِكٌ والشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة وأصحابهم لا يحرم النِّكاح باللواط، وقال الثَّوْرِيُّ: إذا لَعِبَ بالصَّبِيِّ حَرُمَتْ عليه أمُّهُ وقال الإمام أحْمَدُ: إذا تلوَّطَ بابن امرأته أو أخيها، أو أبيها حَرُمَتْ عليه امْرأتُهُ وقال الأوزاعيُّ: إذَا لاَطَ بِغُلاَمٍ ووُلِدَ للمفجور به بنتٌ لم يجز للفَاجِرِ أن يتزوَّجها، لأنَّهَا بنت من قد دخل به.
فصل
اتَّفَقُوا على أنَّ هذه الآية تقتضي تحريم حليلة ولد الولد على الجدِّ، وهذا يدلُّ على أنَّ ولد الولد يطلق أنَّهُ من صلب الجدّ، وكذلك ولد الولد منسوب إلى الجدّ بالولادة.
قوله { وَأَن تَجْمَعُواْ } في محلّ رفع عطف على مرفوع { حُرِّمَتْ } أي: وحرم عليكم الجمعُ بين الأختين، والمراد الجمع بينهما في النِّكَاحِ.
أما في المِلْك فجائز اتفاقاً، وأمَّا الوطء بملك اليمين ففيه خلاف.
قوله { إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } استثناء منقطع فهو منصوب المحلّ كما تَقَدَّمَ في نظيره، أي: لكن ما مضى في الجاهليَّةِ فَإنَّ اللَّهَ يغفره، وقيل: المعنى إلاَّ ما عقد عليه قبل الإسْلاَمِ، فإنَّهُ بعد الإسلام يبقى النّكاح على صحَّتِهِ، ولكن يختار واحدة منهما ويفارق الأخرى، وتقدَّم قريب من هذا المعنى في { إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } الأوَّل، ويكون الاسْتِثْنَاء عليه متصلاً، وهنا لا يتأتى الاتصال عليه ألْبَتَّةَ لفساد المعنى.
وقال عطاء والسُّدِّيِّ: إلا ما قَدْ سلف، إلا ما كان من يعقوب عليه السَّلام فإنه جمع بين ليَّا أمِّ يهوذا، وراحيل أمِّ يوسف عليهما السَّلامُ وكانتا أختين { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }.
فصل
لا يجوزُ أنْ يجمع بين أختين في عقد النكاح، ولا في عقدين، ويجوز أن يجمع بينهما بالملك، فَإذَا وَطِئَ إحْدَاهُمَا لم تُبَحْ لَهُ الأخرى حتّى تحرم الموطوءَة بتزويج، أو إخراج عن ملكه ويعلم أنَّهَا غير حامل.
قال القُرْطُبِيُّ: وشذّ أهلَ الظَّاهِرِ فقالوا: يجوزُ الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوَطْءِ، كما يجوز الجمعُ بينهما في الملك، واحتجوا بما روي عن عثمان في الأختين بملك [اليمين في الوطء]، قال: حرمتهما آية وأحلتهما آية فلا آمرك ولا أنْهَاكَ فَخَرَجَ السَّائِلُ فلقي رجلاً من أصحابِ النَّبيِّ صلى الله عليهما وسلم، قال مَعْمَرٌ أحسبه قال عليّ قال ما سألتَ عنه عثمان فأخبره بما سأله وبما أفتاه فقالَ لَهُ: لكنِّي أنْهَاكَ، ولو كان لي عليك سبيل ثم فعلت لجعلتك نكالاً.
فصل
ويحرم الجمع بين المرأةِ وعمتها وبينها وبين خالتها لقوله عليه الصلاة والسلام:
"لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأةِ وَعَمَّتِهَا وَلاَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَالَتِهَا" . وَلاَ يَجُوزُ لِلْحُرِّ أنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أكْثَرِ مِنْ أرْبَعِ نِسْوَةٍ، وَلاَ لِلْعَبْدِ أنْ يَجْمَعَ إلاَّ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ فَإنْ جَمَعَ بَيْنَ مَنْ لاَ يَجُوزُ الجَمْعُ بِيْنَهُ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَسَدَ وَإنْ كَانَ فِي عَقْدَيْنِ لَمْ يَصِحَّ الثَّانِي مِنْهُمَا وَاللَّهُ أعْلَمُ.