خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً
٤
-النساء

اللباب في علوم الكتاب

مفعول ثانٍ، وهي جمع "صَدُقة" بفتح الصَّاد وضمَّ الدَّال بزنة "سَمُرة"، والمرادُ بها: المهر وهذه هي القراءة المشهُورَةُ، وهي لُغَةُ الحجاز.
وقرأ قتادةُ: "صُدْقاتهن" بضمِّ الصَّادِ وإسكان الدَّال، جمعُ صُدْقَةٍ بزنة غُرْفَةٍ.
وقرأ مجاهدٌ وابن أبي عبلة بضمهما وهي جمع صدقة بضم الصاد والدال، وهي تثقيل الساكنة الدَّال للاتباع.
وقرأ ابن وثاب والنخعي "صُدُقَتَهُنَّ" بضمهما مع الإفراد.
قال الزَّمخشريُّ وهي تثقيل صُدْقة كقولهم في "ظُلْمة"ظُلُمة"، وقد تقدم الخلاف، هل يجوز تثقيل الساكن المضموم الفاء؟
وقرئ: "صدقاتهن" بفتح الصَّادِ وإسْكَانِ الدَّالِ وهي تخفيف القراءة المشهورة، كقولهم في عَضُد: عَضْد.
قال الوَاحِدِيُّ: ولفظ الصَّادِ والدَّال والقاف موضوع للكمال والصحة، يسمّى المهر صداقاً وصدقة وذلك لأنَّ عقد النكاح به يتم.
وفي نصب "نحلة" أربعةُ أوجهٍ:
أحدها: أنَّها منصوبةِ على المصدر، والعامل فيها الفعل قبلها؛ لأن "آتوهن" بمعنى انحلوهُنَّ، فهي مصدر على غير الصدر نحو: "قَعَدْت جلوساً".
الثاني: أنها مصدرٌ واقِعٌ موقع الحال، وفي صاحب الحال ثلاثة احتمالات:
أحدها: أنَّهُ الفاعل من "فآتوهن" أي: فآتوهن ناحِلين.
الثاني: أنَّهُ المفعول الأوَّل وهو: النِّسَاءُ.
الثالث: أنه المفعول الثاني وهو "صدقاتهن". أي: منحولات.
الوجه الثَّالثُ: أنَّها مفعول من أجله، إذا فُسِّرَتْ بمعنى: شِرْعة.
الوجه الرابع: انتصابها بإضمار فعل بمعنى: شَرَعَ أي: نحل الله ذلك نِحلة، أي: شَرَعَةُ شِرْعة وديناً.
والنِّحْلَةُ العَطِيَّةُ عَنْ طِيبِ النَّفْسِ، والنَّحْلَة: الشِّرْعَة، ومنه: نِحْلة الإسلام خَير النحل، وفلان ينتحل بكذا: أي يَدِيِنُ به، والنَّحْلَةُ: الفَرِيضةُ.
قال الراغب: والنِّحْلَة والنَّحْلَةُ: الْعَطِيَّةُ على سبيل التبرع، وهي أخصُّ من الهِبَةِ، إذ كُل هبة نحلة من غير عكس، واشتقاقهُ فيما أرَى من النَّحْلِ، نظراً منه إلى فعله، فكأن "نَحَلْتهُ" أعْطَيْتَهُ عَطِيةَ النحل، ثم قال: ويجوز أن تكون النِّحْلةُ أصلاً فَسُمَّى النَّحْلُ بذلك اعتباراً بفعله.
وقال الزَّمخشريُّ: مِنْ نَحَلَه كذا أي: أعطاه إيَّاه ووهبه له عن طيب نفسه، نِحْلَةً وَنَحْلاً، ومنه حديث أبي بكر - رضي الله عَنْهُ -: "إنِّي نَحَلْتُكَ جِدَادَ عِشْرِينَ وِسْقاً".
قال القَفَّالُ: وأصله إضافة الشيء إلى غير من هو له، يقال: هذا شعر منحول، أي: مضاف إلى غير قائله، وانتحلت كذا إذا ادَّعَيْتَهُ وَأَضَفْتَهُ إلى نَفْسِكَ.
فصل من المقصود بالخطاب في الآية
في هذا الخطاب قولان:
أحدهما: أنه "لأولياء" [النساء]؛ لأنَّ العربَ كانت في الجاهليَّة لا تعطي النساء من مهورهن شيئاً، وكذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت: هنيئاً لك النافجة، ومعناه: أنَّك تأخذ مهرها إبلاً فَتُضُمُّهَا إلى إبلك فتنفج مالك أي: تعظمه، وقال ابن الأعرابي: النافجة ما يأخذه الرَّجلُ من الحلوانِ إذا زوج ابنته، فَنَهى الله عن ذلك، وأمر بدفع الحقِّ إلى أهله، وهذا قول الكلبيِّ وأبي صالح واختيار الفرَّاء وابن قتيبةَ.
وقال الحضرميّ: وكان أولياء النساء يُعطى هذا أُخْتَه على أن يعطيه الآخرُ أخته، ولا مهرَ بينهما، فَنُهوا عن ذلك،
"ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشِّغَار" وهو أن يزوج الرَّجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، ولا صداق بَيْنَهُمَا.
الثاني: أنَّ الخطاب للأزواج، أمِرُوا بإيفاء مهور النساء، وهذا قول علقمة، والنَخَعِيِّ وقتادة، واختيار الزجَّاج، لأنه لا ذكر للأولياء ها هنا، والخطاب قبله للأزواج.
قال قَتَادَةُ: نحله فريضة.
وقال ابن جريج: فريضة مسمَّاة.
قال أبو عبيدة: لا تكون النِّحْلَةُ إلاَّ مُسَمَّاة ومعلومة. قال القَفَّال: يحتمل أن يكون المراد من الإيتاء المناولة، ويحتمل أن يكون المراد منه الالتزام كقوله تعالى:
{ { حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ } [التوبة: 29] أي: يضمنوها ويلتزموها، فعلى الأول المراد دفع المُسَمَّى، وعلى الثاني أن المراد بيان أن الفروج لا تُستباح إلا بعوض يلتزم سواء سمَّي أو لم يسمَّ، إلا ما خُصَّ به النبي صلى الله عليه وسلم في الموهوبة.
قوله: { فإن طبن لكم منه } "منه" في محل جر؛ لأنه صفة لـ "شيء" فيتعلق بمحذوف أي: عن شيء كائن منه.
و "مِنْ" فيها وجهان:
أحدهما: أنها للتبعيض، ولذلك لا يجوز لها أن تَهَبَهُ كُلَّ الصَّداق، وإليه ذهب الليث.
والثاني: أنها للبيان، ولذلك يجوز أن تَهَبَهُ كُلَّ الصَّداق.
قال ابن عطيَّة: و "مِنْ" لبيان الجنس ها هنا ولذلك يجوز أن تهب المهر كله، ولو [وقعت] على التبعيض لما جَازَ ذلك انتهى.
وقد تَقَدَّمَ أن الليث يمنع ذلك، ولا يشكل كونها للتَّبعيض، وفي هذا الضمير أقوال:
أحدها: أنه يعود على الصَّداق المدلول عليه بـ { صَدُقَاتِهِنَّ }.
الثاني: أنه يعود على "الصَّدُقات" لسدِّ الواحِدِ مَسَدَّها، لو قيل: صَداقَهُنَّ لم يختلَّ المعنى، وهو شبيهٌ بقولهم: هو أحسنُ الفتيان وأجْمَلُهُ؛ ولأنه لو قيل: "هو أحسنُ فتىً" لَصَحَّ المعنى.
ومثله: [الرجز]

1748- وَطَابَ ألْبَانُ اللِّقَاحِ وَبَرَدْ

في "برد" ضمير يعود على "ألبان" لسدِّ "لبن" مسدَّها. الثالث: أنه يعود على "الصَّدُقات" أيضاً، لكن ذهاباً بالضمير مذهب الإشارة فَإنَّ اسم الإشارة قد يُشارُ بِهِ مفرداً مذكراً إلى أشياء تقدمت، كقوله: { { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ } [آل عمران: 15] بعد ذكر أشياء قبله، وقد تقدم ما روي في البقرة ما حكي عن رؤية لما قيل له في قوله: [الرجز]

1749- فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادِ وَبَلَقْ كَأَنَّهُ فِي الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ

فقال: أردت ذلك فأجْرَى الضمير مجرى اسم الإشارة.
الرابع: أنه يعود على المال، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ؛ لأنَّ الصَّدُقاتِ تدُلُّ عليه.
الخامس: أنه يعود على الإيتاء المدلول عليه بـ "آتوا"، قاله الرَّاغب وابن عطيَّة.
السَّادس: قال الزمخشريُّ "ويجوز أن يُذَكَّر الضميرُ؛ لينصرف إلى الصَّداق الواحد، فيكون متناولاً بَعْضَهُ، ولو أَنّثَ لتناول ظاهرة هبةَ الصَّداق كُلِّه؛ لأنَّ بعض الصُّدقات واحد منها فصاعداً".
وقال أبو حَيَّان: وأقولُ حَسَّن تذكير الضمير أن معنى "فَإنْ طِبْنَ" فإن طابَتْ كُلُّ واحدةٍ فلذلك قال: "منه" أي: مِنْ صَداقِها، وهو نظير قوله:
{ { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً } [يوسف: 31]؛ أي لكلّ واحدة منهن، ولذلك أفرد "متكأ".
قوله: "نَفْساً" منصوب على التَّمييز، وهو هنا منقولٌ من الفاعل؛ إذ الأصل: فإنْ طابَتْ أنفسُهُنَّ، ومثله
{ { وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً } [مريم: 4].
وهذا منصوب عن تمام الكلام، وجِيء بالتمييز هنا مفرداً، وإن كان قبلَه جمعٌ لعدم اللَّبْسِ، إذْ من المعلوم أنَّ الكُلَّ لَسْنَ مشتركاتٍ في نفسٍ واحدةٍ، ومثله: قَرَّ الزيدون عيناً، كقوله:
{ { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً } [هود: 77] وقيل: لَفْظُهَا واحد ومعناها جمع، ويجوز "أنفساً"وأعيناً" وَلاَ بُدَّ مِنَ التعرُّض لقاعدةٍ يَعُمُّ نفعها، وهي أنَّه إذا وقع تمييز بعد جمع منتصبٍ عن تمام الكلام فلا يخلو: إمَّا أن يكون موافقاً لما قبله في المعنى، أو مخالفاً له، فإن كان الأوَل وَجَبَتْ مطابقةُ التَّمييز لما قبله نحو: كَرُمَ الزيدون رجالاً، كما يطابقهُ خبراً وصفةً وحالاً.
وإن كان الثاني: فإمَّا أن يكونَ مفرد المدلول أو مختلفة، فإن كان مفردَ المدلول وَجَبَ إفرادُ التمييز كقولك في أبناء رجل واحد: كَرُمَ بنو زيدٍ أباً أو أصلاً، أي: إنَّ لهم جميعهم أباً واحداً متصفاً بالكرمِ، ومثله "كَرم الأتقياءُ سَعْياً"، إذا لم تَقصدْ بالمصدر اختلافَ الأنواع لاختلاف محالَّه، وإنْ كَانَ مختلفَ المدلول: فإما أن يُلبِسَ إفرادُ التمييز لو أُفرد أولاً، فإن ألْبَسَ وَجَبَت المطابقُ نحو: كَرُمَ الزيدون آباء، أي: أن لكل واحد أباً غير أب الآخر يتصفُ بالكرمِ، ولو أفردت هنا لَتُوُهِّم أنهم كلَّهم بنو أبٍ واحد، والغرضُ خلافه، وإنْ لم يُلبس جاز الأمران المطابقة والإفراد، وهو الأوْلى، ولذلك جاءت عليه الآية الكريمةُ، وحكمُ التثنية في ذلك كالجمع، وَحَسَّنَ الإفرادَ هاهنا أيضاً ما تقدَّم مِن مُحَسِّنِ تذكير الضمير وإفراده في "منه"، وهو أنَّ المعنى: فإن طابت كُلُّ واحدة نفساً.
وقال بعض البصريين: "إنَّما أفرد؛ لأن المراد بالنفس هنا الهوى، والهوى مصدر، والمصادر لا تُثَنَّى ولا تجمع".
وقال الزَّمخشريُّ: و "نَفْساً" تمييزٌ، وتوحيدُها؛ لأن الغرضَ بيانُ الجنس والواحد يدل عليه. ونحا أبو البَقاءِ نَحْوهُ، وشَبَّهَهُ بـ "درهماً" في قولك: عشرون درهماً.
واختلف النحاةُ في جوازِ تقديمِ التمييزِ على عامله إذا كان متصرفاً فمنعه سيبويه، وأجازه المبرد وجماعة مستدلين بقوله: [الطويل]

1750- أتَهْجُرُ لَيْلَى بِالفِرَاقِ حَبيبَها وَمَا كَانَ نَفْساً بالفراقِ تَطِيبُ

وقوله: [الطويل]

1751- رَدَدْتُ بِمِثْلِ السَّيدِ نَهْدٍ مُقَلَّصٍ كَمِيشٍ إذَا عِطْفَاهُ مَاءً تَحَلَّبَا

والأصل تطيبُ نفساً، وتحلَّبا ماء، وفي البيتين كلامٌ طويل ليس هذا محلَّه، وحجةُ سيبويه في منع ذلك أنَّ التَّمييز فاعل في الأصْلِ، والفاعِلُ لا يَتَقدَّم، فكذلك ما في قوته، واعترضَ على هذا بنحو: زيداً، من قولك أخرجْتُ زيداً، فإن زيداً في الأصل فاعل قبل النَّقْل، إذ الأصل: خرج زيدٌ والفرق لائح فالتمييز أقسام كثيرة مذكورة في كتب القوم. والجارّان في قوله { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ } متعلقان بالفعل قبلهما متضمناً معنى الإعراض، ولذلك عُدِّي بـ "عن" كأنَّهُ قيل: فَإن أعْرَضن لَكُمْ عَن شيء منه طيبات النفوس، والفاء في "فَكُلوه" جواب الشرط وهي واجبة، والفاء في "فَكُلوه" عائدة على "شيء".
فإن قيل: لِمَ قال: { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ } ولم يقل: وَهَبْنَ لَكُمْ أوْ سَمَحْنَ لَكُمْ؟
فالجواب أنَّ المراعى وهو تجافي نفسها عن بالموهوب طيبة].
قوله: { فكلوه هنيئاً مريئاً }.
في نصب "هَنِيئاً" أربعةُ أقوال:
أحدها: أنَّه منصوبٌ على أنه صفة لمصدر محذوف تقديره: أكْلاً هنيئاً.
الثاني: أنه منصوب على الحال من الهاء في "فَكلُوهُ" أي: مُهَنِّئاً، أي سهلاً.
والثالث: أنه منصوب على الحال بفعل لا يجوز إظهاره ألبتة؛ لأنَّهُ قصد بهذه الحال النيابةُ عن فعلها نحو: "أقائماً وَقَدْ قَعَدَ النَّاسُ"، كما ينوب المصدر عن فعله نحو "سَقْياً لَهُ وَرَعْياً".
الرابع: أنهما صفتان قامتا مقام المصدر المقصود به الدعاءُ النائب عن فعله.
قال الزَّمَخشرِيُّ: وقد يوقف على "فَكُلُوهُ" ويبتدأ بـ "هنيئاً مريئاً" على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين، كأنه قيل: "هَنْئاً مًرْءاً".
قال أبو حيان: وهذا تحريف لكلام النُّحاة، وتحريفه هو جَعْلهما أُقِيما مُقام المصدر، فانتصابهما انتصابَ المصدرِ، ولذلك قال: كَأَنَّهُ قيل: "هَنْئاً مَرْءاً"، فصار كقولك "سٌقْياً لك" و "رَعْياً لك"، وَيَدُلُّ على تحريفه وَصِحَّةِ قول النحاة أنَّ المصادرَ المقصودَ بها الدعاء لا ترفع الظاهر، لا تقول: "سقياً اللَّهَ لك"، ولا: "رعياً الله لك"، وإنْ كَانَ ذلك جائزاً في أفعالها، و "هنيئاً مرئياً"، يرفعان الظاهر بدليل قوله: [الطويل]

1752- هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخامِرٍ لِعِزَّةَ مِنْ أعْرَاضِنَا مَا اسْتَحَلَّتِ

فـ "ما" مرفوع بـ "هنيئاً" أو "مريئاً" على الإعمال، وجاز ذلك وَإنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْعَاملين رَبْطٌ بِعَطْفٍ ولا غيره؛ لأن "مريئاً" لا يستعملُ إلاَّ تابعاً لـ "هنيئاً" فكأنَّهما عاملٌ واحد. ولو قلت: "قام قعد زيد" لم يكن من الإعمال إلاَّ على نِيَّة حرف العطف. انتهى.
إلاَّ أن عبارة سيبويه فيها ما يُرْشِدُ لِما قاله الزَّمخشريُّ، فإنه قال: هنيئاً مَرِيئاً صِفَتَانِ نصبهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل المذكور غير المستعمل إظهارُهُ المختزل لدلالة الكلام عليه، كأنهم قالوا: ثبت ذلك هنيئاً مريئاً، فَأوَّلُ العبارة يُساعِدُ الزمخشري، وآخرها وهو تقديره بقوله: كأنهم قالوا: ثَبَتَ هنيئاً، يُعَكِّر عليه، فعلى القولين الأوَّلين يكُون "هَنيئاً مَريئاً" متعلقين بالجملة قبلهما لفظاً ومعنى، وعلى الآخرين مقتطعين لفظاً؛ لأنَّ عاملهما مُقَدَّر من جُملةٍ أخرى كما تقدم تقريره.
واختلف النحويون في قولك لمن قال: أصاب فلان خيراً هنيئاً مريئاً له ذلك. هل "ذلك" مرفوع بالفعل المقدر، وتقديره: ثبت له ذلك هنيئاً، فحذف "ثبت" وقام "هنيئاً" مقامه الذي هو حال أو مرفوع بـ "هنيئاً" نفسه؛ لأنه لمَّا قَامً مقامَ الفعلِ رَفَع ما كان الفعل يرفعه، كما أن قولك: "زَيْدٌ في الدَّارِ"في الدار" ضمير كان مستتراً في الاستقرار فلما حذف الاستقرار، وقام الجار مقامه رفع الضمير [المستتر] الذي كان فيه، وقد ذهب إلى الأول السيرافي وجعل في "هنيئاً" ضميراً عائداً على "ذلك"، وذهب إلى الثاني أبو علي، وجعل "هنيئاً" فارغاً من الضمير لرفعه الاسمَ الظاهر، وَإذا قُلْتَ: "هَنِيئاً" وَلَمْ تَقُلْ "ذلك" فعلى مذهب السيرافي يكون في "هَنِيئاً" ضمير عائدٌ على ذِي الْحَالِ، وهو ضمير الفاعل الذي استتر في "ثبت" المحذوفِ، وعلى مذهب الفارسي يكون في "هنيئاً" ضمير فاعل بها، وهو الضميرُ المستتر الذي كان فاعلاً لـ "ثبت"، ويكون "هنيئاً" قد قام مقام الفعل المحذوف فارغاً من الضمير.
وأما نصب "مريئاً" ففيه خمسة أوجه: أحدها: أنَّهُ صِفَةٌ لـ "هنيئاً" وإليه ذَهَبَ الحوفي.
والثاني: أنَّه انتصب انتصاب "هنيئاً"، وقد تقدَّم ما فيه من الأوجه، ومنع الفارسي كونه صفة لـ "هنيئاً" قال: لأنَّ هنيئاً قام مقام الفعل، والفعل لا يوصف، فكذا ما قام مَقَامَهُ، ويؤيد ما قاله الفارسيُّ أنَّ اسم الفاعل واسم المفعول وأمثلة المبالغة والمصادر إذا وُصِفت لم تَعْمَل عمل الفعل، ولم تستعمل "مريئاً" إلا تابعاً لـ "هنيئاً"، ونقل بعضهم أنه قد يجيء [غير] تابع وهو مردود؛ لأن العرب لم تَستَعْمِله إلاَّ تابعاً، وهل "هَنِيئاً مريئاً" في الأصل اسما فاعل على زنة المَبَالَغَة؟ أم هما مصدران جاءا على وزن فَعِيلٍ، كالصَّهيلِ والهدير؟ خلاف. نقل أبُو حَيَّان القول الثاني عن أبي البَقَاءِ قال: وأجاز أبو البقاء أن يكونا مصدرين جاءا على خلاف وزن "فعيل"، كالصَّهيل والهدير، وليسا من باب ما يطرد فيه فعيل في المصدر. انتهى.
وأبو البقاء في عبارته إشْكَالٌ، فلا بد من التعرض إليها ليُعرف ما فيها، قال: "هنيئاً" مصدر جاء على وزن "فَعِيل"، وهو نعت لمصدر محذوفٍ، أي: أكْلاً هنيئاً، وقيل: هو مصدر في موضع الحال من الهاء، والتقدير مُهَنَّأً، و "مريئاً" مثله، والمريءُ فعيل بمعنى مُفْعِل، لأنَّك تقول: "أمْرَأَنِي الشَّيْء"، ووجه الإشكال: أنَّه بعد الحكم عليهما بالمصدريَّة كيف يجعلهما [حالاً] وصفين لمصدر محذوف؟ وكيف يفسر "مريئاً" المصدر بمعنى اسم الفاعل؟
ذهب الزمخشري إلى انَّهُمَا وصفان قال: "فإنَّ الهنيءَ والْمَريءَ صفتان من هَنُؤ الطعام ومَرُؤ إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه". انتهى.
وَهَنَا يَهْنَا بغير همز - لغة ثانية أيضاً، وقرأ أبو جعفر: "هنيّاً مريّاً"، بتشديد الياء فيهما من غير همزة، كذلك "بري" و "بريون" و "بريَّا"، ويقال: هَنَأَني الطعامُ ومرأني، وإن أفردت "مَرَأنِي" لم يستعمل إلا رباعيّاً فتقول: "أمْرَأني"، وإنَّما استعمل ثلاثياً للتَّشاكل مع "هَنَأني"، وهذا كما قالوا: أخَذَهُ ما قَدُمَ وَمَا حَدُثَ، بضم الدَّال من "حدث" مشاكلة لـ "قَدُمَ"، ولو أُفرد لم يستعمل إلاَّ مفتوح الدال، وله نظائر أخر، ويقال: هَنَأتُ الرجل أهْنِئُهُ بكسر العين في المضارع أي: أعطيته. واشتقاق الهنيء من الهِناء، وهو ما يُطْلَى به البعير للجرب كالقطران قال: [الطويل]

1753- مُتَبَذِّلاً تَبْدُو مَحَاسِنُهُ يَضَعُ الْهَنَاءَ مَوَاضِعَ النُّقْبِ

والمريءُ مَا سَاغَ وَسَهُلَ من الحق، ومنه قِيل لمجرى الطَّعَام من الحُلْقُوم إلى فم المعدة: مَرِيء.
فصل في دلالة الآية على أمور
دَلَّت الآية الكريمة على أمور:
منها أنَّ المهر لها ولا حق للولي فيه.
ومنها جواز هبتها للمهر قبل القبضِ؛ لأن اللَّه تعالى لم يفرق بين الحالين.
فإن قيل: قوله: { فكلوه هنيئاً مريئاً } يتناول ما إذا كان المهر عيناً، أما إذا كان ديناً فالآية غير متناولة له لأنَّهُ لا يقال لما في الذمة كُلْهُ هَنِيئاً مريئاً.
فالجواب أن المراد بقوله "هنيئاً مريئاً" ليس نفس الأكل، بل المراد منه كل التصرفات، وإنما خَصَّ الأكل بالذكر، لأنَّهُ معظم المقصود من المال لقوله
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَامَىٰ ظُلْماً } بالنساء: 10] وقوله: { { لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ } [النساء: 29].
فصل
قال بعض العلماء: إن وهبت ثم طلبت بعد الهبة، علم أنها لم تطب عنه نفساً، وعن الشعبي: أن امرأة جاءت مع زوجها إلى شُريح في عَطِيَّة أعْطَتْهَا إيَّاهُ، وَهِيَ تطلب الرجوع، فقال شُرَيْح: رُدَّ عَلَيْهَا، فقال الرجل: أليس قد قال الله تعالى { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ }، فقال: لو طابت نفسها عنه ما رجعت فيه.
وروي عنه أيضاً: أقيلها فيما وهبت ولا أقيله؛ لأنهن يخدعن.
وَرُوِيَ أنَّ رجلاً من آل أبي معيطٍ أعطته امرأته ألف دينار صداقاً كان لها عليه، فلبثت شهراً ثم طلقها، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان، فقال الرَّجُلُ: أعْطَتْنِي طيبة به نفسها، فقال عبدُ الملك: فإن الآية التي بَعْدَهَا
{ { فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } [النساء: 20] أردد عليها.
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كتب إلى قُضاتِه: إن النساءَ يُعْطين رَغْبَةً ورهبة، وَأَيُّمَا امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها.