خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً
٧٧
-النساء

اللباب في علوم الكتاب

قال الكَلْبِي: "نزلت في عَبْد الرَّحْمن بن عَوْف الزُّهرِيِّ، والمقدَادِ بن الأسْود الكندي، وقدامة بن مَظْعُون الجُمَحِي، وسَعْد بن أبِي وَقَّاصٍ، وجَمَاعة كانوا مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْل أن يُهَاجِرُوا إلى المَدِينَةِ، ويَلْقُون من المُشْرِكِين أذًى شَديداً، فَيَشْكُون ذلك إلى الرَّسُول، ويقولون: ائْذَن لَنَا في قِتَالِهِم، ويقول لَهُم الرَّسُول: كُفُّوا أيْدِيَكُم، فإني لَمْ أومَر بقتالهِمْ، واشْتَغِلُوا بإقَامَة دينكُم من الصَّلاة والزَّكَاة، فلمَّا هَاجَر رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينَةِ، وأُمِرَ بقتالهم في وَقْعَة بَدْرٍ، كرهه بَعْضُهم وشقَّ عَلَيْه،" فأنزل اللَّه - تعالى - هذه الآية. فَذَهَب بَعْضُهم إلى أنَّهَا نَزَلَت في المُؤمِنين، واحتجُّوا: بأنَّ الَّذِين يَحْتَاج الرَّسُول إلى أن يَقُولَ لهم كَفُّوا عن القِتَال، هُم الرَّاغِبُون في القِتَالِ؛ وهم المُؤمِنُون.
ويمكن الجوابُ عنه: بأنَّ المُنَافِقِين كانوا يُظْهِرُون أنَّهم مؤمِنُونَ، وأنَّهم يريدُونَ قِتال الكُفَّار، فلما أمر اللَّهُ بقتالِهم الكُفَّار، أحجم المُنَافِقُون عَنْه، وظهر مِنْهُم خِلاف ما كَانُوا يَقُولُونَهُ.
وقيل: نزلت في المُنَافِقِين، واحتجُّوا بأنَّ الله - تعالى - وَصَفَهم بأنَّهم { يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً }، وهذا الوصف لا يَلِيقُ إلا بالمُنَافِقِ؛ لأن المُؤمِن لا يَخَاف من النَّاسِ أشَدَّ من خوفِهِ من اللَّه، وأيضاً قولهم: "ربنا لم كتبت علينا القتال" اعتراضٌ على اللَّه - تعالى -، وذلك من صِفَة الكُفَّار والمُنَافِقِين، وأيضاً قوله - تعالى - للرَّسُول: { قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ } وهذا الكلام إنَّما يذكر لمن كانت رَغبتهُ في الدُّنْيَا أكْثَر من رَغْبَته في الآخِرة، وذلك من صِفَاتِ المُنَافِقِين.
وأجاب القَائِلُون بالقَوْل الأوَّل: بأن حُبَّ الحياة والنَّفْرة عن القَتْلِ من لَوَازِمِ الطَّبْع؛ فهذه الخَشْيَة مَحْمُولة على هذا المَعْنَى، وقولهم: "لِمَ كتبت علينا القتال" محمولة على التمَنِّي بتخفيف التَّكْلِيف، لا على وَجْه إنْكَار [لإيجَابِ] اللَّه - تعالى -.
وقوله [- تعالى -]: { قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ } ذكره ليهَوِّن على القَلْبِ أمر هذه الحَيَاةِ؛ لكي تزول عن قَلْبِه نَفْرَة القِتَالِ وحُبُّ الحَيَاة، ويُقْدِمُون على الجِهَاد بقلب قَوِيٍّ، لا لأجْل الإنْكَار.
وقيل: قاله جماعة من المؤمنين لم يكونوا رَاسِخين في العِلْم، قالوه خوفاً وجُبْناً لا اعتقاداً ثم تابوا، وأهْلُ الإيمان يتفاضَلُون في الإيمَانِ.
وقيل: كانوا مُؤمنين، فلما كُتِبَ [عليهم]، أي: فرض عليْهِم القِتَال، تلفقوا من الجُبْنِ، وتخلَّفُوا عن الجِهَاد، والأوْلى حَمْل الآية على المُنَافِقِين، لأنه - تعالى - ذكر بَعْد هذه الآية قوله:
{ { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ } [النساء: 78] ولا شَكَّ أنَّ هذا من كَلاَم المُنَافِقِين.
فصل
دلَّت الآيَة على أن إيجَاب الصَّلاة والزَّكاة، كان مُقَدَّماً على إيجَاب الجِهَادِ.
قوله { إِذَا فَرِيقٌ }: "إذا" هنا فُجَائِيَّة، وقد تقدَّم أن فيها ثلاثة مَذَاهِب:
أحدُها - وهو الأصَحُّ: أنها ظَرْف مكان.
والثَّاني: أنها زمان.
والثَّالث: أنها حَرفٌ.
قيل في "إذا" هَذِه: إنها فجَائِية مَكَانِيَّة، وأنها جوابٌ لـ "لَمَّا" في قوله: { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ }، وعلى هَذَا فَفِيها وَجْهَان:
أحدُهُما: أنها خَبَر مقدَّمٌ، و"فريق": مبتدأ، و"منهم": صفةٌ لـ "فَرِيقٌ"، وكذلك "يَخْشَون"، ويجُوزُ أن يكونَ "يَخْشَون" حالاً من "فريق" لاختصاصه بالوَصْفِ، والتَّقْديرُ: "فبالحضرة فريق [فهو] كائن منهم خَاشُون أو خَاشِين".
والثاني: أن يكون "فريقٌ" مُبْتَدأ، و"منهم": صفته، وهو المُسَوِّغُ للابْتِداء به، و"يَخْشَوْن": جملة خبريةٌ وهو العَامِلُ في "إذا"، وعلى القَوْلِ الأوَّلِ: العَامِلُ فيها مَحْذُوفٌ على قَاعِدة الظُّرُوف الوَاقِعة خبراً.
وقيل: إنَّها هنا ظَرْفُ زمانٍ، وهذا فَاسِدٌ؛ لأنها إذْ ذَاك لا بُدَّ لها من عَامِلٍ، وعامِلُها إمَّا ما قَبْلَها، وإمَّا ما بَعْدَها، لا جائز أن يكُون ما قَبْلَها لأن ما قبلها وهو "كُتب" ماضٍ لفظاً ومعنى، وهي للاسْتِقْبال، فاستحال ذلك.
فإن قيل: تُجْعَلُ هنا للمُضِيِّ بمعنى "إذا".
قيل: لا يجُوز ذلك؛ لأنه يصيرُ التقدير: فلمَّا كُتِب عَلَيْهم القِتَال في وَقْتِ خَشْيةِ فَرِيقٍ مِنْهُم، وهذا يفتقرُ إلى جَوَابَ "لَمَّا" ولا جَوابَ لها، ولا جَائزٌ أن يَكُونَ ما بَعْدها؛ لأنَّ العَامِل فيها إذا كان بعدها، كان جواباً لها، ولا جَوابَ لها هُنَا، وكان قد تَقَدَّم أوَّلَ البقرة أنَّ في "لَمَّا" قولين: قولَ سيبويه: إنَّها حَرْف وجوب لوُجُوب، وقول الفَارِسي: إنها ظَرْفُ زمانٍ بِمَعْنى "حين" وتقدَّم الردُّ عليه، بأنَّها أُجيبت بـ "مَا" النَّافِية وإذا الفُجَائِية، وأنَّ ما بَعْدَها لا يَعْمَل فيما قَبْلَها، فأغْنى عن إعادته، ولا يجُوزُ أن يعمل ما يَلِيها فيها؛ لأنه في مَحَلِّ خَفْض بالإضَافَةِ على زَعْمِه، والمُضَافُ إليه لا يَعْمَل في المُضَافِ.
وقد أجابَ بعضهم، بأنَّ العامل فيها هنا مَعْنى "يخشون"؛ كأنه قيل: جَزِعوا، قال: "وجزعُوا هو العَامِلُ في "إذا"، وهذا الآية مُشكلةٌ؛ لأنَّ فيها ظَرْفَيْن: أحدُهما لما مَضَى، والآخرُ لِما يُسْتَقْبَل".
قوله: "كخشية الله" فيه ثلاثةُ أوجه:
أحَدُها - وهو المَشْهُور عند المُعْربين: أنها نَعْتُ مصدرٍ مَحْذُوفٍ، أي: خشيةً كخَشْيَِة الله.
والثاني: - وهو المُقَرَّر من مذهب سيبويه غيرَ مرة -: أنَّها في مَحَلِّ نصب على الحَالِ من ضَمِير الخَشْيَة المَحذُوف، أي: يَخْشَوْنها النَّاسَ، أي: يَخْشون الخَشْيَة الناس مشبهةً خَشْيَة الله.
والثالث: أنَّها في مَحَلِ نصبٍ على الحال من الضمير في "يخشون" أي: يَخْشَون النَّاسَ مثلَ أهل خَشْيَة الله، أي: مُشْبهين لأهل خَشْيَة الله أو أشدَّ خشية، أي: أشدَّ خَشْيَةً من أهل خَشْيَة الله. و"أشدَّ" مَعْطُوف على الحَالِ؛ قاله الزمخشري، ثم قال: "فإنْ قُلْتَ: لِمَ عَدَلْتَ عن الظَّاهِر، وهو كَوْنُه صِفة للمَصْدَر ولم تُقَدِّرْه: يَخْشون خَشْية مثل خَشْيَة الله، بمعنى: مثل ما يَخْشَى الله.
قلت: أبَى ذلك قوله: "وأشد خشية"؛ لأنه وما عُطِفَ عليه في حُكْمٍ واحدٍ، ولو قلت: "يخشون الناس أشد خشية" لم يكن إلا حَالاً من ضَمِير الفريقِ، ولم ينتَصِب انتِصَابَ المَصْدَر؛ لأنك لا تَقُول: "خَشِي فُلانٌ أشَدَّ خشيةً" فتنْصِبُ "خشية" وأنْتَ تريد المَصدر، إنَّما تَقَول: "أشدَّ خَشْيةٍ" فتجرُّها، وإذا نَصَبْتَها لم يكُن "أشدَّ خشيةً" إلا عِبَارةً عن الفاعل حالاً منه، اللَّهُم إلا أن تجعل الخَشْيَة خَاشِيةً على حدِّ قولهم: "جَدَّ جَدُّه" فتزعم أنَّ مَعْنَاه: يخشون الناسَ خَشْيَةً مثل خشيةٍ أشدَّ خَشْيَة من خَشْيَة الله، ويجُوز على هذا أن يكُون مَحَلُّ "أشدَّ" مَجْرُوراً، عطفاً على "خشية الله" تريد: كَخَشْيَة الله، أو كَخَشْيَةٍ أشدَّ منها". انتهى.
ويجوز نصبُ "خشيةً" على وجْه آخَر؛ وهو العَطْف على مَحَلِّ الكَافِ، وينتصب "أشدَّ" حينئذ على الحَالِ من "خَشْيَة"؛ لأنه في الأصْلِ نعتُ نكرةٍ قُدِّم عليها، والأصل: يَخْشَوْن النَّاسَ مثلَ خَشْيَةِ الله أو خَشْيَةً أشدَّ منها، فلا ينتصب "خَشيَة" تمييزاً، حتى يَلْزَم منه ما ذكره الزَّمَخْشَرِي ويُعْتذر عنه، وقد تقدَّم نحو من هذا عِنْد قوله:
{ { أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } [البقرة: 200]. والمصدرُ مُضَاف إلى المَفْعُول والفَاعِل مَحْذُوف، أي: كَخشيتهم اللَّهَ.
فإن قيل: ظاهر قوله: { أَوْ أَشَدَّ } يوهم الشَّكَّ، وذلك محالٌ على الله - تعالى -.
فالجواب: يحتمل الأوْجُه المذكورة في قوله { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } ويجوز أن تكون للتنويع، يعني: أن منهم من يخشاهم كخشية الله، ومنهم من يخشاهم أشد خشية من خشية الله.
قال ابْنُ الخَطِيب: وفي تأوِيله وُجُوهٌ:
الأوَّل: المُراد مِنْه: الإبْهَام على المُخَاطَب، بمعنى أنَّهم على أحَد الصِّفَتَيْن من المُسَاواة والشدّة؛ وذلك لأنَّ كُلَّ خَوْفَيْن فأحدُهُما بالنِّسْبة إلى الآخَر: إمَّا أن يكُون مُسَاوِياً، أو أنْقَص، وأزيد، فَبيَّن - تعالى - بهذه الآية أن خَوْفَهم من النَّاس ليس أنْقَص من خَوْفِهم من الله - تعالى -، بل إمَّا أن يكون مُسَاوِياً أوْ أزْيَد، وذلك لا يُوجِب كَوْنه - تعالى - شاكَّا، بل يُوجِب إبْقاء الإبْهَام في هَذَيْن القِسْمَيْن على المُخَاطَب.
والثاني: أن يكون "أو" بمعنى الوَاوِ، والتَّقْدِير: يخْشَوْنهم كَخَشْيَة اللَّه وأشَد خشية، ولَيْس بَيْن هذيْن القِسْمَيْن مُنَافَاة؛ لأنَّ من هُو أشَدّ خَشْية، فَمَعَه من الخشية مِثْل خَشْية اللَّه [وزيادة].
الثَّالث: أن هذا نظير قوله:
{ { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [الصافات: 147] يعني: أنَّ من يُبْصِرهم يَقُول هذا الكلام؛ فكذا ههنا.
قوله: { لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا } أي: هَلاَّ أخرْتَنَا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ، يعني: الموْت أي: هلاّ ترَكْتنا حَتَّى نَمُوت بآجَالِنَا، وهذا كالعِلَّة لكَرَاهَتِهم إيجَاب القِتَالِ عليْهم، ثم إنَّه -تعالى - أجَابَهُم بقوله: قلْ يا مُحَمَّد: { مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ } أي: مَنْفعَتُها والاستِمْتَاعُ بها قَلِيلٌ، "والآخرة" أي: وثواب الآخِرة خَيْر وأفْضَل لمن اتَّقَى الشِّرْك ومَعْصِية الرَّسُول، وإنَّما كانت الآخِرَة خَيْرٌ؛ لأن نِعَم الدُّنْيَا قليلة [فَانِيَةٌ] ونعم الآخِرَة كَثِيرَة بَاقِيَةٌ ونِعَم الدُّنيا مُنْقَطِعة، ونِعَم الآخِرَة مؤبَّدة، ونِعَم الدُّنْيَا مشوبَةٌ بالهُمُومِ والمَكَاره، ونِعَم الآخِرَة صَافية من الكُدُورَات.
روى المستورد بن شَدَّادِ؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَا الدُّنْيَا في الآخِرَة إلاَّ مِثْل مَا يَجْعَل أحَدُكُم أصْبُعَهُ في اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بمَ يَرْجِع" .
ثم قال: { وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً }.
قرأ ابن كَثيرٍ، وأبُو جعفَر، وحمْزَة، والكسَائِي: باليَاء رُجوعاً إلى قَولِه - تعالى -: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ } والباقُون: بتاء الخِطَاب؛ كقوله: { قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ } والمعنى
{ { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [النساء: 49]، أي: لا يُنْقَصُون من ثَوَابِ أعْمَالِهِم مثل فَتِيل النَّوَاةِ، وهو ما تفتله بيدِكَ ثم تُلْقِيه احْتِقَاراً.