خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ ٱلَّذِي تَقُولُ وَٱللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً
٨١
-النساء

اللباب في علوم الكتاب

في رفع "طاعة": وجهان:
أحدهما: أنه خبرُ مُبْتَدأ مضمَرٍ، تقديره: "أمر طاعة" ولا يجُوز إظهارُ هذا المُبْتَدأ؛ لأن الخَبَر مَصْدَر بدلٌ من اللَّفْظِ بفعله.
والثاني: أنه مُبْتَدأ والخَبَر مَحْذُوف، أي: مِنَّا طَاعَة، أو: عِنْدنا طَاعَةٌ، قال مكي: "ويجُوز في الكَلاَم النَّصْبُ على المَصْدَر".
قوله: "فإذا برزوا" [وأخْرِجُوا]، من عندك بيت طائِفَةٌ مِنْهُم غير الَّذي تَقُولُ.
أدغم أبو عَمْرو وحمزة: تاء "بَيَّت" في طَاءِ "طائفة" لتقاربهما، ولم يَلْحَقِ الفِعْلَ علامةُ تأنيث؛ لكونه مَجَازياً، و "منهم": صِفَةٌ لـ "طائفة"، والضَّمِير في "تَقُول" يحتمل أن يكُون ضَمير خِطَاب للرَّسُول - عليه السلام -، أي: غيرَ الذي تَقُولُه وترسم به يا مُحَمَّد، ويؤيِّده قِرَاءة عبد الله: "بيَّتَ مُبَيِّتٌ مِنْهُم"، وأن يكون غَيْبَة للطَّائفة، أي: تقول هي.
وقرأ يَحْيَى بن يَعْمر: "يقول" بياء الغَيْبَة، فيحتمل أن يَعُود الضَّمِيرُ على الرَّسُول بالمَعْنَى المُتقدِّم، وأن يَعُود على الطَّائِفَةِ، ولم يؤنِّث الضَّمِيرَ؛ لأن الطِّائِفَة في معنى الفَرِيق والقوم.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: "بيت طائفة" أي: زوَّرت وسوَّت "غير الذي تقول": خلاف ما قُلْت ومَا أمَرْت به، أو خِلاَف ما قَالَتْ ومَا ضَمِنَت من الطَّاعَة؛ لأنَّهم أضْمَرُوا الرَّدَّ لا القَبُول.
قال الزَّجَّاج: كل أمر تفكر فيه وتُؤوِّل في مصالحه ومفاسده كثيراً، قيل: هذا أمْر مُبَيَّتٌ؛ قال - تعالى -:
{ { إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَىٰ مِنَ ٱلْقَوْلِ } [النساء: 108]، وقال قتادَةُ والكَلْبِيُّ: بَيَّت، أي: غيَّر وبَدَّل الَّذِي عَهِدَ إليهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، ويكون التَّبْييتُ بمعنى: التَّبْدِيل.
وقال أبُو عُبَيْدَة: والتَّبييتُ معناه: قالُوا وقَدَّرُوا لَيْلاً مَا أعطوك نهاراً، وكل ما قُدِّر بلَيْل فهو مُبَيَّتٌ.
وقال أبو الحَسَن الأخْفَش: تقول العَرَب للشَّيْءِ إذا قُدِّرَ: بَيْتٌ، يُشَبِّهُونَهُ بتقدير بُيُوت الشِّعْر، وفي اشْتِقَاقه وَجْهَان:
أحدهما: أن أصْلَح الأوْقَات للفكْر أن يَجْلِس الإنْسَان في بَيْتِهِ باللَّيل، فهناك تكُون الخَوَاطِر أجْلى والشَّواغل أقَل، فلما كان الغَالِبُ أنَّ الإنْسَان وقت اللَّيْل يكون في البَيْتِ، والغَالِبُ أنه إنَّما يَسْتَقْصِي في الأفْكَار في اللَِّيْلِ، فلا جَرَم سُمِّي ذلك فيس الفِكْر مبيِّتاً.
والثاني: أن التَّبْييتَ والبَيَات: أن يَأتِي العَدُوُّ ليلاً، وبات يَفْعَل كذا: إذا فَعَلَه لَيْلاً؛ كما يُقَال: ظلَّ بالنَّهار، وبَيَّتَ بالشيء، قَدَّره، وإنما خَصَّ هذه الطَّائِفَة من جُمْلَة المُنَافِقِين لوجهين:
أحدهما: أنه - تعالى - ذكر من عَلِم أنَّه يَبْقى على كُفْرِه ونِفَاقِه، فأمَّا من عَلِمَ أنَّه يرجع عن ذَلِك فإنَّه لم يَذْكُرْهُم.
والثَّاني: أنَّ هذه الطَّائِفَة كانوا قد سَهِرُوا لَيْلَهُم في التَّبْيِيتِ، وغيرهم سَمِعُوا وسَكَتُوا ولم يُبَيِّتُوا، فلا جَرَم لم يُذْكَرُوا. وفي الآيَة دليل على أن مُجَرَّدَ القَوْل لا يُفيد شيئاً، فإنَّهُمْ قَالُوا "طائفة" ولَفَظُوا بِهَا، ولم يحقِّق اللَّه طاعتهم.
ثم قال: { وَٱللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } ذكر الزَّجَّاج [فيه] وجْهَيْن:
أحدهما: [معناه]: ينزل إلَيْك في كِتَابِه.
والثَّّاني: يكُتَبُ ذلك في صَحَائِف أعْمَالهم؛ ليجَازوا به.
وقال الضَّحاك عن ابن عبَّاسٍ، يعني: ما يُسِرُّون من النِّفَاق.
و "مَا" في "ما يبيتون" يجوز أن تكون مَوْصُولة أو مَوْصُوفة أو مَصْدَرية. "فأعْرِض عَنْهم" يا مَحَمَّد، ولا تفضحهم ولا تُعَاقِبْهُم ولا تُخْبِر بأسْمَائِهِم؛ فأمر اللَّه - تعالى - بستْر [أحْوَالِ] المُنَافِقين إلى أن يَسْتَقِيم أمر الإسْلام.
ثم قَالَ: { وتوكل على الله } في شأنهم، فإن الله يَكْفِيكَ [شَرَّهُم] وينتقم [لك] منهم، { وكفى بالله وكيلاً } لمن توكَّلَ عليه.
قال المُفَسِّرون: كان الأمْر بالإعْرَاض عن المُنَافِقِين في ابْتِداء الإسْلاَم، ثم نُسِخ ذلك بقوله:
{ { جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَافِقِينَ } [التوبة: 73]. وهذا فيه نَظَر؛ لأن الأمْر بالصَّفْح مُطْلَق، فلا يفيد إلاَّ المَرَّة الوَاحِدَة، فورودُ الأمْر بعد ذَلِك بالجِهَادِ لا يكون نَاسِخاً له.