خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلَّذِيۤ آمَنَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُونِ أَهْدِكُـمْ سَبِيـلَ ٱلرَّشَـادِ
٣٨
يٰقَوْمِ إِنَّمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ ٱلآخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلْقَـرَارِ
٣٩
مَنْ عَمِـلَ سَـيِّئَةً فَلاَ يُجْزَىٰ إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِـلَ صَالِحاً مِّن ذَكَـرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ
٤٠
وَيٰقَوْمِ مَا لِيۤ أَدْعُوكُـمْ إِلَى ٱلنَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِيۤ إِلَى ٱلنَّارِ
٤١
تَدْعُونَنِي لأَكْـفُرَ بِٱللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى ٱلْعَزِيزِ ٱلْغَفَّارِ
٤٢
لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي ٱلدُّنْيَا وَلاَ فِي ٱلآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ
٤٣
فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُـمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِيۤ إِلَى ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ
٤٤
فَوقَاهُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَـرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوۤءُ ٱلْعَذَابِ
٤٥
ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ
٤٦
-غافر

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَقَالَ ٱلَّذِيۤ آمَنَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُونِ أَهْدِكُـمْ سَبِيـلَ ٱلرَّشَـادِ } أي طريق الهدى { يٰقَوْمِ إِنَّمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا مَتَاعٌ } أي متعةٌ تنتفعون بها مرة ثم تنقطع { وَإِنَّ ٱلآخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلْقَـرَارِ } التي لا تزول، ثم قال: { مَنْ عَمِـلَ سَـيِّئَةً فَلاَ يُجْزَىٰ إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِـلَ صَالِحاً مِّن ذَكَـرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } تقدم االخلاف في قوله: "يدخلون الجنة" في سورة النساء. وقال مقاتل: لا تبعة عليهم فيما يُعْطَوْنَ في الجنة من الخيرات.
واختلفوا في تفسير قوله: "بِغَيْرِ حِسَابٍ" فقيل: لما كان لا نهاية لذلك الثواب قيل: بغير حساب، وقيل: لأنه تعالى معطيهم ثواب آبائِهِمْ، ويضم إلى ذلك الثواب من التفضيل ما يخرج من الحساب واقع في مقابلة: "إلاّ مثلها" يعني أن جزاء السيئة له حساب وتقدير، لئلا يزيد على الاستحقاق فأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير وغير حساب، وهذا يدل على أن جانب الرحمة والفضل راجحٌ على جانب العقاب، فإذا عارضنا عُمُومَاتِ الوَعِيدِ بعُمُومَاتِ الوَعْد وجب أن يكون الترجيحُ لجانبِ عُمُومَاتِ الوعد، وذلك يهدم قواعد المعتزلة.
فصل
احتج أهل السنة بهذه الآية، فقالوا: قوله: { وَمَنْ عَمِـلَ صَالِحاً } نكرة في معرض الشرط في جانب الإثبات فجَرَى مَجْرَى أن يقال: "من ذكر كلمة أو من خطا خطوة فله كذا" فإنه يدخل فيه أنّ من آمن بتلك الكلمة أو بتلك الخطوة مرة واحدة فكذلك ها هنا وجب أن يقال: كُلُّ من عمل صالحاً واحداً من الصالحات فإنه يدخل الجنة، ويُرْزَقُ فيها بغير حساب، والآتي بالإيمان والمواظب على التوحيد والتنزيه والتقديس مدة ثمانين سنة قد أتى بأعظم الطاعات، وبأحسن الطاعات، فوجب أن يدخل الجنة، والخصم يقول: إنه يَخْلُدُ في النار أَبَدَ الآباد، وذلك مخالف لهذا النص الصريح. قالت المعتزلة: إنه تعالى شرط فيه كونه مؤمناً، ومرتكب الكبيرة عندنا ليس بمؤمن، فلا يدخل في هذا الوعد والجواب ما تقدم في قوله: "يُؤْمِنُون بالغَيْبِ" فإن صاحب الكبيرة مؤمن فَسَقَطَ كلامُهُمْ.
فصل
دلت هذه الآية على اعتبار المماثلة في الشريعة، وأن الزائد على المِثْلِ غير مشروع، وليس في الآية بيان أن تلك المماثلة معتبرةٌ في أي الأمور، فلو حملناها على رعاية المماثلة في جميع الأمور صارت الآية عامةً خاصة. وقد ثبت في أصول الفقه أن التعارض إذا وقع بين الإجمال والتخصيص كان الأول أولى، فوجب أن تحمل هذه الآية على رعاية المماثلة من كل الوجوه إلا ما خَصّهُ الدليل وإذا ثبت ذلك بني عليه أحكامٌ كثيرة من الجنايات على النفوس والأعضاء والأموال؛ لأنه تعالى بين أنَّ جزاءَ السيئة مقصورٌ على المِثْلِ، وبين أن جزاء الحسنة ليس مقصوراً على المِثْلِ بل هو خارج عن الحساب.
قوله تعالى: { وَيٰقَوْمِ مَا لِيۤ أَدْعُوكُـمْ إِلَى ٱلنَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِيۤ إِلَى ٱلنَّارِ }. قوله تعالى: { وَيٰقَوْمِ } قال الزمخشري: فَإن قُلْتَ: لِمَ جاء بالواو في النداء الثالث دون الثاني؟ قلت: لأن الثانيَ داخل على كلام هو بيان للمجمل، وتفسير له، فأعطي الداخل عليه حكمه في امتناع دخول الواو. وأما الثالث فداخلٌ على كلام ليس بتلك المَثَابَةِ، أي كلام مباين للأول والثاني، فَحَسُنَ إيرادُ الواو العاطفة فيه. وكرر النداء لأن فيه زيادةَ تنبيه له وإيقاضاً من سنة الغفلة، وأظهر أن له بهذا مزيدَ اهتمامٍ، وعلى أُولئك الأقوام فرط شفقة.
قوله: { وَتَدْعُونَنِيۤ إِلَى ٱلنَّارِ } هذه الجملة مستأنفة، أخبر عنهم بذلك بعد استفهام عن دعاء نفسه ويجوز أن يكون التقدير: وما لكم تدعونني إلى النار، وهو الظاهر، ويضعف أن تكون الجملة حالاً، أي مالكم أدعوكم إلى النجاة حال دعائكم إياي إلَى النار.
قوله: "تَدْعُونني" هذه الجملة بدل من "تَدْعُونَنِي" الأولى على جهة البيان لها. وأتى في قوله "تَدْعُونَنِي" بجملة فعلية؛ ليدل على أن دعوتهم باطلة لا ثبوت لها، وفي قوله: "وَأَنَا أَدْعُوكُمْ" بجملة إسميَّة؛ ليدل على ثُبُوتِ دعوته وتَقْوِيَتِهَا.
فصل
معنى قوله: "مَالَكُمْ" كقولك: ما لي أراك حزيناً، أي ما لك، يقول: أخبروني عنك، كيف هَذِهِ الحال؟ أدعوكم إلى النجاة من النار بالإيمان بالله، وتدعونني إلى النار بالشرك الذي يُوجِبُ النار، ثم فسر فقال { تَدْعُونَنِي لأَكْـفُرَ بِٱللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ }. والمراد بنفي العلم نفي الإله كأنه قال: وَأُشْرك به ما ليس لي بإله، وما ليس إله كيف يُعْقَلُ جَعْلُهُ شريكاً للإله؟
ولما بين أنهم يدعونه إلى الكفر بيَّنَ أنه يدعوهم إلى الإيمان بالعزيز الغَفَّارِ، "العزيز" في انتقامه ممن كفر، "الغفار" لذنوب أهل التوحيد. فقوله: "العَزِيزِ" إشارة إلى كونه كامل القدرة، وأما فرعون فهو في غاية العجز، فكيف يكون إلهاً؟ وأما الأصنام فهي حجارة منحوتة فكيف يعقل كونها آلهة؟ قوله: "الغَفَّار" إشارة إلى أنهم يجب أن لا يَيْأَسُوا من رحمة الله بسبب إصرارهم على الكفر مُدّةً مَدِيدَة فَإنَّ إله العَالَم، وإن كان عَزِيزاً لا يُغْلبُ، قادراً لا يعارض، لكنه غفار يغفر كفر سبعينَ سنة بإيمان ساعةٍ واحدةٍ.
قوله: "لاَ جَرَمَ" تقدم الخلاف في "لاَ جَرَمَ" في سورة هود في قوله:
{ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ } [هود:22]، وقال الزمخشري هنا: "ورُوِيَ عن بعض العرب: لا جُرْمَ أنه يفعل كذا ـ بضم الجيم وسكون الراء ـ بمعنى: لا بُدَّ. وَفَعَلٌ وَفُعْلٌ أخوان كَرَشَدٍ، وَرُشْدٍ، وعَدَمٍ، وَعُدْمٍ". وشأنه على مذهب البصريين أن يجعل رداً على دعاه إليه قَوْمُهُ.
و "جَرَمَ" فَعَلٌ بمعنى حَق، و "أَنَّ" مع ما في حيّزها فاعله، أي وَجَبَ بُطْلانُ دَعْوَتِهِ، أو بمعنى كَسَبَ من قوله تعالى:
{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ } [المائدة:2] أي بسبب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته بمعنى أنه ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته.
ويجوز أن يقال إنّ "لاَ جَرَمَ" نظير "لاَ بُدَّ" فَعَلَ من الجَرْم ـ وهو القطع ـ كما أن "بُدًّا" فعل من التبديد وهو التفريق، وكما أن معنى: لاَ بُدَّ أنكَ تَفْعَلُ كذا بمعنى لاَ بُدَّ لك من فِعْلِهِ، فكذلك
{ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ } [النحل:62] أي لاَ قَطْعَ لذلك بمعنى أنهم أبداً يستحقون (العقاب) النار لا انقطاع لاسْتِحْقَاقِهِمْ، ولا قطع لبُطْلاَن دعوة الأصنام أي لا تزال باطلةً لا ينقطع ذلك فينقلب حقًّا.
فصل
قال البغوي: "لاَ جَرَمَ" حقاً { أَنَّمَا تَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ } أي للدين دعوة في الآخرة قال السدي (رحمه الله) لا يستجيب لأحد في الدنيا ولا في الآخرة يعني ليست له استجابة دعوة، فسمى استجابة الدعوة دعوة، إطلاقًاً لاسم أحد المضافين على الآخر، كقوله: وجزاء سيئة سيئة مثلها. وقيل: ليستْ له دعوة أي عبادة في الدنيا؛ لأن الأوثانَ لا تَدَّعِي الربوبية، ولا تدعو إلى عبادتها وفي الآخرة تتبرأ من عابديها.
ثم قال: "وأَنَّ مَرَدَّنَا" أي مرجعنا "إلَى اللهِ" فيجازي كُلاًّ بما يَسْتَحِقُّهُ، "وَأَنَّ المُسْرِفِينَ" المشركين { هُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ }. قاله قتادة. وقال مجاهد: السفاكين الدماء.
ولما بالغ مؤمن آل فرعون في هذا البيان ختم كلامه بخاتِمَةٍ لطيفة فقال: { فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُـمْ } وهذا كلام مبهم يوجب التخويف، وهذا يحتمل أن يكون المراد منه أن هذا الذكر يحصل في الدنيا أي عند الموت، وأن يكون في القيامة عند مشاهدة العذاب حين لا ينفعكم الذكر.
قوله: "وَأُفَوِّضُ" هذه مستأنفة. وجواز أبو البقاء أن تكون حالاً من فعال "أقولُ".
وفَتَحَ نافعٌ وأبُوا عَمْرو الياء من: أمري، والباقون بالإسكان.
فصل
لما خوفهم بقوله: { فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُـمْ } توعدوه وخوفوه فعول في دفع تخويفهم وكيدهم ومكرهم على الله بقوله: { وَأُفَوِّضُ أَمْرِيۤ إِلَى ٱللَّهِ } وهو إنما تعلم هذه الطريقة من موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين خوّفة فرعون بالقتل فرجع موسى في دفع ذلك الشر إلى الله تعالى فقال:
{ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُـمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ ٱلْحِسَابِ } [غافر:27]. ثم قال: { إِنَّ ٱللَّهَ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ }. أي عالم بأحوالهم يعلم المحقَّ من المُبطل.
قوله: { فَوقَاهُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَـرُواْ }. قال مقاتل: لما قال هذه الكلمات قصدوا قتله فهرب منهم إلى الجبل فطلبوه، فلم يهتدوا عليه. وقيل: المراد بقوله: فوقاه الله سيئات ما مكروا أنه قصدوا إدخاله في الكفر، وصرفه عن الإسلام، فوقاه الله من ذلك. والأول أولى، لأن قوله بعد ذلك: { وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوۤءُ ٱلْعَذَابِ } لا يليق إلا بالوجْهِ الأول.
وقرأ حمزة وَحِيقَ ـ بكسر الحاء ـ وكذلك في كل القرآن والباقون بالفتح.
قال قتادة: نجا مع مُوسَى، وكان قِبْطِيًّا. "وَحَاقَ" نزل "بآل فرعون سواء العذاب" الغرق في الدنيا، والنار في الآخرة.
قوله: "النَّارُ" الجمهور على رفعها، وفيه ثلاثةُ أوجهُ:
أحدهما: أنه بدل من: "سوء العذاب" قاله الزجاج.
الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أي سُوء العذابِ النارُ، لأنه جواب لسؤال مقدر؛ و "يُعْرَضَونَ" على هذين الوجهين يجوز أن يكون حالاً من "النار"، ويجوز أن يكون حالاً من "آل فرعون".
الثالث: أنه مبتدأ، وخبره: "يُعْرََضُونَ".
وقُرِىءَ النَّارَ منصوباً، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه منصوب بفعل مضمر يفسره يعرضون من حيث المعنى أي يصلونَ النارَ يُعْرَضُونَ عليها كقوله:
{ وَٱلظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ } [الإنسان:31].
الثاني: أن ينتصب على الاختصاص، قال الزمخشري: فعلى الأول لا محل "لِيُعْرَضُونَ"؛ لكنه مفسراً، وعلى الثاني هو حال كما تقدم.
فصل
دلت هذه الآية على إثبات عذاب القبر؛ لأن الآية تقتضي عرض النار عليهم غُدُوًّا وعَشِيًّا، وليس المراد منه يوم القيامة، لقوله بعده { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ }، وليس المراد منه أيضاً الدنيا؛ لأن عرض النار عليهم غدوًّا وعشياً ما كان حاصلاً في الدنيا فثبت أن هذا العرض إنما حصل بعد الموت، وقبل القيامة. وذلك يدل على إثبات عذاب القبر في حق هؤلاء، وإذا ثبت في حقهم ثبت في غيرهم لأنه لا قائل بالفَرْقِ.
فإن قيل: لا يجوز أن يكون المراد من عرض النار عليهم غدواً وعشياً عرض القبائح عليهم في الدنيا لأن أهل الدين إذا ذكروا لهم الترغيب والترهيب، وخوّفهم بعذاب الله فقد عرضوا عليهم النار. ثم في الآية ما يمنع حمله على عذاب القبر وبيانه من وجهين:
أحدهما: أن ذلك العذاب يجب أن يكون دائماً غير منقطع. وقوله: { يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } يقتضي أن لا يحصُلَ ذلك العذاب إلا في هذين الوقتين فثبت أن هذا لا يمكن حمله على عذاب القبر.
الثاني: أن الغدوةَ والعشيةَ إنما يحصلان في الدنيا، أما في القيامة فلا وجود لهما، فثبت أنه لا يمكن حمل هذه الآية على عذاب القبر.
والجواب على الأول: أن في الدنيا عرض عليهم الكلمات التي تذكرهم أمر النار، ولم يعرض عليهم نفس النار، وهذا لظاهر الآية، وارتكاب المجاز، وأما قولهم: الآية تدل على حصول العذاب في هذين الوقتين وذلك لا يجوز فالجواب لِمَ لا يجوز أن يكتفى في القبر بإيصال العذاب إليه في هذين الوقتين، ثم عند قيام يُلْقَى في النار، فيدوم عذابه حينئذٍ، وأيضاً لا يمتنع أن يكون ذكر الغَدْوَةِ والعشية كناية عن الدوام، كقوله تعالى:
{ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [مريم:62] وأما قولهم: إنه ليس في القبر والقيامة غدوة وعشية قلنا: لِمَ لا يجوز أن يقال: إن (عند) حصول هذين الوقتين لأهل الدنيا يعرض عليهم العذاب.
فصل
قال ابنُ مَسعُود ـ رضي الله عنه ـ أرواح آل فرعون في أجْوَاف طيرٍ سُودٍ يعرضون على النار كل يوم مرتين تغدوا وتروح إلى النار، يقال: يا آل فرعون هذه منازلكم. وقال قتادة، والسدي والكلبي: تعرض روح كل كافر على النار بُكْرَةً وعَشِيًّا ما دامتْ الدنيا. وروى ابنُ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:
"إن أحَدَكُم إذَا مَاتَ عُرِضَ عليه مَقْعَدُهُ بالغَدَاةِ والْعَشِيِّ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وإنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فيقال: هذا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللهُ يَوْمَ القِيَامةَ" .
قوله: "وَيَوْمَ تَقُومُ" فيه ثلاثة أوجهٍ:
أظهرها: أنه معمول لقول مضمر، وذلك القول المضمر محكي به الجملة الأمرية من قوله: "أَدْخِلُوا، والتقدير: يقال لهم يوم تقوم الساعة: أَدْخِلُوا.
الثاني: أنه منصوب "بأدْخِلُوا" أي أدخلوا يوم تقوم، وعلى هذه الوجهين، فَالْوقَفُ تامٌّ على قوله: "وَعَشِيًّا".
الثالث: أنه معطوف على الظرفين قبله، فيكون معمولاً ليُعْرَضَونَ، والوقف على هذا قوله: "الساعة". و "ادخلوا" معمول لقول مضمر، أي يقال لهم كذا. وقرأ الكسائيُّ وحمزةٌ ونافعٌ وحفصٌ أدْخِلُوا بقط الهمزة وكسر الخاء، أي يقال للملائكة أدخلوا، أَمْراً من "أَدْخَلَ"فآل فرعون" مفعولٌ أول، و "أشد العذاب" مفعول ثانٍ، والباقون بهمزة وصل، من دَخَلَ يَدْخُلُ، فآل فِرْعونَ منادَى حذف حرف النداء منه و "أَشَدّ" منصوب به، إما ظرفاً، وإما مفعولاً به. أي ادخلوا يا آل فِرْعَون في أشد العذاب. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يريد ألوان العذاب، غير العذاب الذي كانوا يعذبون به منذ غرقوا.