خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

حـمۤ
١
تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ
٢
غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ ذِي ٱلطَّوْلِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ
٣
مَا يُجَادِلُ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي ٱلْبِلاَدِ
٤
كَـذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَٱلأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِٱلْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ
٥
وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ
٦
-غافر

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { حـمۤ } كقوله الـۤمۤ وبابه، وقرأ الأخوان وأبو بكر وابن ذكوان بإمالة (حا) في السور السبع إمالة محضة، وورش، وأبو عمرو بالإمالة بين بين، والباقون بالفتح، والعامة على سكون الميم كسائر الحروف المقطعة. وقرأ الزهري برفع الميم على أنه خبر مبتدأ مضمر، أو مبتدأ والخبر ما بعدها، وابن إسحاق وعيسى بفتحها وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: أنها منصوبة بفعل مقدر أي اقرأ حم، وإنما منع من الصرف للعلمية والتأنيث، أو العلمية وشبه العجمة وذلك أنه ليس في الأوزان العربية وزن "فاعيل" بخلاف الأعجمية نحو قابيل وهابيل.
والثاني: أنها حركة بناء تخفيفاً كَأَيْنَ وكَيْفَ. وفي احتمال هذين الوجهين قول الكميت:

4314ـ وَجَدْنَا لَكُمْ في آلِ حَامِيم آيَةً تَأَوَّلَهَا مِنَّا تَقِيٌّ ومُعْرِبُ

وقول شُرَيح بن أوفى:

4315ـ يُذَكِّرُنِي حَامِيم والرُّمْحُ شَاجِرٌ فَهَلاَّ تَلاَ حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ

وقرأ أبو السَّمَّالِ بكسرها، وهل يجوز أن يجمع (حم) على "حواميم" ونقل ابن الجوزي عن شيخه الجواليقي أنه خطأ وليس بصواب بل الصواب أن تقول قرأت أل حم، وفي الحديث عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ "إذَا وَقَعْتُ فِي آلِ حمۤ وَقَعْتُ في رَوْضَاتٍ أَتأَنَّقُ فيهن" . وقال سعيد بن إبراهيم: كلّ آل حم يسمين العرائس، قال الكُمَيْتُ:

4316ـ وجدنا لكم في آل حاميم....... .................................

ومنهم من جوزه، وروي في ذلك أحاديث منها قوله ـ عليه (الصلاة و) السلام: "الحَوَامِيمُ دِيبَاجُ القرآن" ، وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "الحواميمُ سبعٌ وأبوابُ جهنَّمَ سبعُ: جهنمُ والحُطَمَةُ ولَظَى والسعيرُ وسَقَرُ والهاويةُ والجحيمُ فتجيء كل جسم منهم يوم القيامة على باب من هذه الأبواب فتقول لا يدخل النار من كان يؤمن بي ويقرأني" . وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "لكل شيء ثمرةٌ وثمرةُ القرآن ذواتُ حم هن روضات حسان مخصبات متجاورات فمن أحب أن يَرْتَعَ في رِيَاضِ الجنة فليقرأ الحواميم" ، وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "الحواميم في القرآن كمثل الحِبَرَاتِ في الثياب" . وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لكل شيء لُباب ولُباب القرآن الحواميمُ.
فإن صحت هذه الأحاديث فهي الفصل في ذلك.
قوله "تَنْزِيلُ" إما خبرٌ لـ "حمۤ" إن كانت مبتدأ، وإما خبر لمبتدأ مضمر، أو مبتدأ وخبره الجار بعده. قال ابن الخطيب: قال "تنزيل" والمراد منه المنزل.
فصل
روى السُّدي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: حم اسم الله الأعظم، وروى عكرمة عنه قال: الم وحم ون حروف الرحمن مقطعة، وقاله سعيد بن جبير: (وقال) عطاء الخراساني: الحاء افتتاح أسمائه حكيم حميد حي حليم حنان، والميم افتتاح اسمائه ملك مجيد. قال الضحاك والكسائيّ معناه قضى ما هو كائن كأنهما أشارا إلى أن معناه: حُمَّ، بضم الحاء وتشديد الميم.
قوله "مِنَ اللهِ" لما ذكر أن حم تنزيل الكتاب وجب بيان أن المنزل من هو؟ فقال: من الله، ثم بين أن الله تعالى موصوف بصفات الجلالة فقال "العَزِيزِ العَلِيمِ".
فبين أنه بقدرته وعلمه نزل القرآن الذي يتضمن المصالح والإعجاز، ولولا كونه عزيزاً عالماً لما صح ذَلك.
قوله تعالى: { غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ } في هذه الأوصاف ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها كلها صفات الجلالة كالعزيز، والعليم. وإنما جاز وصف المعرفة بهذه وإن كانت إضافتها لفظية لأنه يجوز أن تجعل إضافتها (معنوية) فيتعرَّف بالإضافة نص سيبويه على أن كل ما إضافته غير محضة جاز أن يجعل محضة وتوصف به المعارف إلا الصفة المشبهة، ولم يستثن غيره شيئاً وهم الكوفيون يقولون في مثل "حَسَن الوَجْهِ" بأنه يجوز أن تصير إضافته محضة. وعلى هذا فقوله: "شَدِيدِ العِقَابِ" من باب الصفة المشبهة فكيف أجزت جعله صفة للمعرفة وهو لا يتعرف إلا بالإضافة؟
والجواب: إمّا بالتزام مذهب الكوفيين وهو أن الصفة المشبهة يجوز أن تتمحض إضافتها أيضاً فتكون معرفة وإما بأن "شديد" بمعنى مشدد كأَذِين بمعنى "مؤذن" فتتمحض إضافته.
والثاني: أن يكون الكلِ أبْدالاً لأن إضافتها غير محضة قاله الزمخشري، إلا أن هذا الإبدال بالمشتق قليل جداً إلا أن يهجر فيها جانب الوصفية.
الثالث: أن يكون "غَافِرِ" و"قَابِلِ" نعتَيْنِ و "شَدِيدِ" بدلاً لِمَا تقدم من أن الصفة المشبهة لا تتعرف بالإضافة قاله الزجاج إلا أن الزمخشري قال: جعل الزجاج "شديد العقاب" وحده بدلاً للصفات فيه نُبُوٌّ ظاهر. والوجه أن يقال: لما صُودِفَ بين هذه المعارف هذه النكرة الواحدة فقد آذنت بأنها كلها أبدال غير أوصاف، ومثال ذلك قصيدة جاءت تفاعيلها كلها على "مُسْتَفْعِلُن" فهي محكوم عليها بأنها من الرجز، فإن وقع فيها جزءٌ واحد على "مُتَفَاعِلُن" كانت من الكامل. وناقشه أبو حيان فقال: ولا نُبُوَّ في ذلك؛ لأن الجري على القواعد التي قد استقرت وصحت وهو الأصل. وقوله "فقد آذنت بأن كلها أبدال" تركيب غير عربي لأنه جعل فقد آذنت جواب لما، وليس من كلامهم: لَمَّا قَامَ زَيْدٌ فَقَدْ قَام عَمْرو. وقوله بأنّ كلها أبدال فيه تكرير للأبدال إمّا بدل البَدَاء عند من أثبته فقد تكررت فيه الأبدال، وإما بدل كل من كل وبدل بعض من كل وبدل اشتمال، فلا نص على أحد من النحويين أعرفه في جواز التكرار فيها أو منعه إلا أن في كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن البدل لا يكرر وذلك في قول الشاعر:

4317ـ فَإلَى ابْنِ أُمِّ أُنَاسَ أَرْحَلُ نَاقَتِي عَمْرٍو فَتُبْلِغُ حَاجَتِي أو تُزْحِفُ
مَلِكٍ إذَا نَزَلَ الوُفُودُ ببَابِهِ عَرَفُوا مَوَارِدَ مُزْبِدٍ لاَ يُنْزِفُ

قال: "فملك" بدل من "عمرو" بدل نكرة من معرفة، قال: فإن قلتَ: ألا يكون بدلاً من "ابن أم أناس" قلتُ: لأنه قد أبدل منه "عمراً" فلا يجوز أن يبدل منه مرة أخرى لأنه قد طرح انتهى.
قال أبو حيان: فدل هذا على أن البدل لا يتكرر ويتحد المبدل منه، ودل على أن البدل من البدل جَائز. قال شهاب الدين: وهذا البحث قد تقدم في قوله
{ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } [الفاتحة:7] فلْيُلْتَفَتْ إليه.
قال: وقوله تفاعيلها هو جمع تِفْعال أو تُفْعُول أو تَفْعِيل وليس شيء منها معدوداً من أجزاء العروض، فإن أجزاءه مُنْحَصِرَة ليس فيها شيء من هذه الأوزان فصوابه أن يقول: جاءت أجزاؤها كلها مُسْتَفعِلُن.
وقال الزمخشري أيضاً: ولقائل أن يقول هي صفات وإنما حذفت الألف واللام من "شديد" لِيُزَاوجَ ما قبله وما بعده لفظاً فقد غيروا كثيراً من كلامهم عن قوانينه لأجل الإزواج، قالوا: ما يعرف سَحَادَلَيْهِ من عُنَادَلَيْهِ، فَثنَّوا ما هو "وَتر" لأجل ما هو "شَفْعٌ". على أن الخليل قال في قولهم: ما يَحْسُنُ بالرجل (مِثْلِكَ أنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وما يَحْسُنُ بالرجل) خير منك أنه على نية الألف واللام كما كان الجَمَّاء الغفير على نية طرح الألف واللام، ومما سهل ذلك الأمن من اللبس وجهالة الموصوف. قال أبو حيان: ولا ضرورة إلى حذف "آل" من "شديد العقاب" وتشبيهه بنادر مغير وهو تثنية الوَتْر لأجل الشفع فيتنزه كتاب الله عن ذلك.
قال شهاب الدين: أما الازدواج وهو المشاكلة من حيث هو فإنه واقع في القرآن وقد مضى منه مواضع.
وقال الزمخشري أيضاً: ويجوز أن يقال: قد تعمد تنكيره وإبهامه للدلالة على فرط الشِّدَّةِ على ما لا شيء أدْهَى منه وَأَمرّ لزيادة الإنذار. ويجوز أن يقال: هذه النكتة هي الداعية إلى اختيار البدل على الوصف إذا سلكت طريق الإبدال انتهى.
وقال مكي: يجوز في "غافر وقابل" البدل على أنهما نكرتان لاستقبالهما والوصف على أنهما معرفتان لمُضِيِهِمَا. وقال ابن الخطيب لا نزاع في جعل "غافر" صفة، وإنما كانا كذلك لأنهما يفيدان معنى الدوام والاستمرار فكذلك (شديد العقاب) يفيد ذلك لأن صفاته منزهة عن الحدوث والتجدد فمعناه كونه بحيث شديد عقابه، وهذا المعنى حاصل أبداً لا يصوف بأنه حصل بعد أن لم يكن قال أبو حيان: وهذا كلام من لم يقف على علم النحو ولا نظر فيه ويلزمه أن يكون "حَكيٍمٌ عَلِيمٌ" و"مَلِيكٌ مُقْتَدِرٌ" معارف لتنزيه صفاته عن الحدوث والتجدد، ولأنها صفاتٌ لم تَحْدُثْ لم تحصل بعد أن لم تكن ويكون تعريف صفاته بأل وتنكيرها سواء، وهذا لا يقوله مبتدىءٌ في علم النحو بَلْه أن يًصَنّفَ فيه ويقدم على تفسير كتاب الله تعالى. وقد سُرِدَتْ هذه الصفات كلياً من غير عاطف إلا "قابل التوب" قال بعضهم: وإنما عطف لاجتماعهما وتلازمهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر وقطع "شديد" عنهما فلم يعطف لانفراده.
قال أبو حيان: وفيه نزعة اعتزالية، ومذهب أهل السنة جواز الغفران للعاصي وإن لم يتب إلا الشرك. قال شهاب الدين: وما أبعده عن نزعة الاعتزالية. ثم أقول: التلازم لازم من جهة أنه تعالى متى قَبِلَ التوبة فقد غفر الذنب وهو كَافٍ في التَّلاَزُم.
قال الزمخشري فإن قلتَ: ما بال الواو في قوله: "وَقَابِلِ التَّوْبِ"؟ قلتُ: فيها نكتة جليلة وهي إفادة الجمع المذنب والتائب بين رحمتين بين أن يقبل توبته فيقبلها فيكتبها له طاعة من الطاعات وإن لم يجعلها مَحَّاءَةً للذنوب كمن لم يذنب كأنه قال: جامعُ المغفرة والقبول أنتهى.
وبعد هذا الكلام الأنيق وإبراز هذه المعاني الحسنة قال أبو حيان: وما أكثر تَهَجُّحَ هذا الرجل وشَقْشَقَتَه، والذي أفاد: أن الواو للجمع وهذا معروف من ظاهر علم النحو. قال شهاب الدين: وقد أنشدني بعضهمرحمه الله :

4318ـ وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحاً وآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ

(وآخر):

4319ـ قَدْ تُنْكِرُ العَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ وَيُنْكِرُ الفَمُ طَعْمَ المَاءِ مِنْ سَقَمِ

والتَّوْبُ (يحتمل) أن يكون اسماً مفرداً مراداً به الجِنس كالذَّنْب، وأن يكون جمعاً لتَوْبَةٍ كتَمْرٍ وتَمْرَةٍ و"ذِي الطَّوْلِ" نعت أو بدل كما تقدم، والطَّوْلُ سَعَةُ الفَضْل، و "لاَ إله إلاَّ هُوَ" يجوز أن يكون مستأنفاً، وأن يكون حالاً وهي حالٌ لازمةٌ، وقال أبو البقاء يجوز أن يكون صفة، وهذا على ظاهره فاسد؛ لأن الجُمَل لا تكون صفة للمعارف، ويمكن أن يريد أنه صفة لشديد العقاب، لأنه لم يتعرف بالإضافة.
والقول في "إلَيْهِ المَصِيرُ" كالقول في الجملة قبله ويجوز أن يكون حالاً من الجُمْلَةِ قبله.
فصل
قال المفسرون: غافر الذنب ساتر الذنب وقابل التوب أي التوبة، مصدر تَابَ يَتُوبُ تَوْباً، وقيل: التوب جمع توبة مثل: دَوْمَة ودَوْم، وعَوْمة وعَوْم، وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: غافر لمن قال لا إله إلا الله، وقال التوب لمن قال لا إله إلا الله، شديد العقاب لمن لا يقول لا إله إلا الله، "ذي الطول" ذي الغِنَى عمن لا يقول لا إله إلا الله. قال مجاهد: ذي الطول ذي السَّعَةِ، والغِنَى، وقال الحسن: ذي الفضل، وقال قتادة: ذو النعم، وقيل: ذو القدرة، وأصل الطَّوْل الإنعام الذي تطولُ مُدَّتُهُ على صاحبه، لا إله إلا هو إليه المصير. والمعنى أنه لما وصف نفسه بصفاتِ الرحمة والفضل فلو حصل معه إله آخر يشاركه في صفة الرحمة والفضل لما كانت الحاجة إلى عبوديته شديدة فكان الترغيب والترهيب الكاملين حاصلين بسبب هذا التوحيد. و قوله "إلَيْهِ المَصِيرُ" مما يقوِّي الرغبة في الإقرار بالعبودية.
قوله تعالى: { مَا يُجَادِلُ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } لما قرر أن القرآن كتابه أنزله ليهتدى به في الدين ذكر أقوال من يجادل لغرض إبطاله فقال { مَا يُجَادِلُ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ } أي في دفع آيات الله بالتكذيب والإنكار إلا الذين كفروا.
واعلم أن الجدالَ نوعان، جدالٌ في تقرير الحق، وجدالٌ في تقرير الباطل، أما الجدال في تقرير الحق فهو حِرْفة الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ قال تعالى لمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ
{ وَجَادِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل:125] وحكى عن قوم نوح قولهم: { قَالُواْ يٰنُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } [هود:32]. وأما الجدال في تقرير الباطل فهو مذموم وهو المراد بهذه الآية، وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "إنَّ جِدَالاً في القُرْآنِ كُفْرٌ" وروى عمرو بنُ شُعَيْبٍ عن أبيه عن جده قال: "سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوماً يَتَمارَوْنَ فقال: إنما هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بهذا ضربوا كتابَ الله عزّ وجلّ بعضَه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يُصَدِّق بعضه بعضاً فلا تكذبوا بعضَه ببعض فما علمتم منه فقُولُوه، وما جَهْلتم فكِلُوهُ إلى عالمه" ، وقال تعالى: { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } [الزخرف:58] وقال: { وَجَادَلُوا بِٱلْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ } [غافر:5].
قوله "فَلاَ يَغْرُرْكَ" قرأ العامة بالفك وهي لغة الحِجَاز، وزيدُ بنُ عليّ وعُبَيْدُ بن عُمَيْرٍ فلا يَغُرَّكَ بالإدغام مفتوح الراء وهي لغة تَمِيمٍ.
فصل
جدالهم في آيات الله هو قولهم مرة سحرٌ، ومرة هو شعرٌ، ومرة إنه قول الكهنة، ومرة إنه أساطير الأولين، ومرة إنه يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، وقولهم:
{ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } [يس:15] أَأنْزِلَ عَلَيْنَا المَلاَئِكَةُ، وأشباه هذا.
ثم قال: { فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي ٱلْبِلاَدِ } أي لا تغترَّ بأني أمْهَلْتُهُمْ وتركتهم سالمين في أبدانهم وأموالهم يتقلبون في البلاد أي يتصرفون فيها للتجارات وطلب المعاش فإني وإن أمهلتهم فإني سآخُذُهم وأنتقم كما فعلت بالأمم الماضية.
ثم كشف عن هذا المعنى فقال { كَـذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَٱلأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ } وهم الكفار الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب من بعد قوم نوح { وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ }، وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: ليقتلوه ويُهلكوه وقيل: ليأسِرُوه. وقرأ عبدالله بِرَسُولِها، أعاد الضمير على لفظ "الله" والجمهور على معناها، وفي قوله "ليأخذوه" عبارة عن المُسَبَّبِ بالسَّبَبِ وذلك أن القتل مسبب عن الأخذ ومنه قيل لِلأسير: أخِيذٌ قال:

4320ـ فَإمَّا تأْخُذُونِي تَقْتُلُونِي فكَمْ مِنْ واحدٍ يَهْوَى خُلُودِي

{ وَجَادَلُوا بِٱلْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ } ليُبْطِلُوا به الحق الذي جاءت به الرسلُ، { فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } اجتزاءٌ بالكسرة عن ياء المتكلم وصلاً ووقفاً؛ لأنها رأ س فاصلة، والمعنى فأنزلت بهم من الهلاك ما هموا بإنزاله بالرسل، وأرادوا أن يأخذوهم فأخذتهم أنا فكيف كان عقابي إيَّاهُم؟ أليس كان مستأصلاً؟ فأنا أفعل بقومك ما فعلت بهؤلاء إن أصروا على الكفر والجدال في آيات الله.
قوله (تعالى) "وَكَذَلِكَ حَقَّتْ" يحتمل الكاف أن تكون مرفوعة المحل على خبر مبتدأ مضمر، أي والأمر كذلك: ثم أخبر بأنه حقت كلمة الله عليهم بالعذاب، وأن يكون نعتاً لمصدر محذوف أي مثل ذلك الوجوب من عقابهم وجب على الكفرة، والمعنى كما حقت كلمة العذاب على الأمم المكذبة حقت أيضاً على الذين كفروا من قومك.
قوله { أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ } يجوز أن يكون على حذف حرف الجِرّ أي لأَنَّهُم (فحذف) فيجري في محلها القولان (قال الأخفش لأَنَّهُمْ أو بأَنَّهُمْ أَصْحَابُ النار)، ويجوز أن يكون في محل رفع بدلاً من "كلمةٍ". وقد تقدم خلافهم في إفراد "كَلِمَة" وجمعها، وأن نافعاً وابن عامر قرأ "كلمات" على الجمع والباقون بالإفراد.