خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ
٣٢
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
٣٣
وَلاَ تَسْتَوِي ٱلْحَسَنَةُ وَلاَ ٱلسَّيِّئَةُ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ
٣٤
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
٣٥
-فصلت

اللباب في علوم الكتاب

قوله: "نُزُلاً" فيه أوجه:
أحدها: أنه منصوب على الحال من الموصول، أو من عائده، والمراد بالنزل الرزق المعدّ للنازل كأنه قيل ولكم فيها الذي تدعونه حال كونه معدًّا.
الثاني: أنه حال من فاعل "تَدَّعُونَ" أو من الضمير في "لَكُمْ" على أن يكون نزلاً جمع نازل كصَابِر وصُبُرٍ وشَارِفٍ وشُرُفٍ.
والثالث: أنه مصدر مؤكد، وفيه نظر، لأن المصدر "نزل" النزول لا النزل. وقيل: هو مصدر أنزل.
قوله: { من غفور رحيم } يجوز أن يكون تعلقه بمحذوف على أنه صفة "لنزلاً" في "لكم" من الاستقرار أي استقر لكم من جهة غفور رحيم، وأن يتعلق بما تعلق به الظرف في "لكم" من الاستقرار أي استقر لكم من جهة غفورٍ رحيمٍ.
قال أبو البقاء: فيكون حالاً من ما. قال شهاب الدين: وهذا البناء منه ليس بواضح بل هو متعلق بالاستقرار فَضلةً كسائر الفضلات، وليس حالاً من "ما".
قوله تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ... } الآية قال ابن سيرين والسُّدِّيُّ: هو رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعا إلى شهادة أن لا إله إلا الله وقال الحسن: هو المؤمن الذي أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه، وعمل صالحاً في إجابته وقال إنَّني من المسلمين. وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ إن هذه الآية نزلت في المؤذِّنين. وقال عكرمة: هو المؤذن. وقال أبو أمامة الباهليّ: وعمل صالحاً: ركعتين بين الأذان والإقامة. وقال قيس بن أبي حازمٍ: هو الصلاة بين الأذان والإقامة.
قوله: { وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } العامة على إنني بنونين. وابن أبي عبلة وابن نوحٍ بنون واحدة. قوله تعالى: "ولا السيئَةُ" في "لا" هذه وجهان:
أحدهما: أنها زائدة للتوكيد، كقوله:
{ وَلاَ ٱلظِّلُّ وَلاَ ٱلْحَرُورُ } [فاطر:21] وكقوله: { وَلاَ ٱلْمُسِيۤءُ } [غافر:58]، لأن استوى لا يكتفي بواحد.
والثاني: أنها مؤسسة غير مؤكِّدة؛ إذ المراد بالحسنة والسيئة الجنس، أي لا تستوي الحسنات في أنفسنا فإنها متفاوته، ولا تستوي السيئات أيضاً، فربَّ واحدةٍ أعظم من أخرى، وهو مأخوذ من كلام الزمخشري، وقال أبو حيان: "إن أخذت الحسنة والسيئة جنساً لم يكن زيادتها كزيادتها في الوجه الذي قبل هذا". قال شهاب الدين: "فقد جعلها في المعنى الثاني زائدة، وفيه نظر لما تقدم".
فصل
قال المفسرون: المراد بالحسنة الصَّبر، وبالسيئة الغضب. وقيل: الحلم والجهل. وقيل: العفو والإساء. قال ابن الخطيب: لما حكى الله تعالى عنهم قولهم: "قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ" وإصرارهم الشديد على دينهم، وعدم التأثّر بدلائل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم أطنب في الجواب عن شبهاتهم ثم رغّب محمداً صلى الله عليه وسلم في أن لا يترك الدعوة إلى الله بقوله:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ } [فصلت:30] فلهم الثواب العظيم، ثم تَرَقَّى من تلك الدرجة إلى درجة أخرى، وهي أن الدعوة إلى الله تعالى أعظم الدرجات، ثم كأن سائلاً (سأل فـ) ـقال: إن الدعوة إلى الله، وإن كانت طاعةً عظيمةً، إلا أنَّ الصبر على سفاهة الكفَّار شديدةً، فذكر الله تعالى ما يصلحُ لأ، يكون دافعاً لهذا الإشكال فقال: { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة }.
والمراد بالحسنة دعوة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الحق، والصبر على جهالة الكفار، وترك الانتقام وترك الالتفات إليهم؛ والمراد بالسيئة ما أظهروا من الجلافة في قولهم: "قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ" وقوله:
{ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ } [فصلت:26] فكأنه قال: يا محمد فعلُك حسنة، وفعلُهم سيئة، ولا تستوي الحسنة (ولا السيئة) أنت إذا أتيت بهذه الحسنة استوجبت التعظيم في الدنيا والثواب في الآخرة، وهم بالضِّدِّ من ذلك، فلا ينبغي أن يكون إقدامهم على تلك السيئة مانعاً لك من الاشتغال بهذه الحسنة. ثم قال { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } يعني ادفع سفاهتهم وجهالتهم بالطريق التي هي أحسن الطُّرق. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أمر بالصبر عند الغضب، وبالحِلْم عند الجهل، وبالعفو عن الإساءة. والمعنى أنك إذا صبرت على سوء أخلاقهم مرةً بعد أخرى ولم تقابل سفاهتهم بالغضب استحيوا من تلك الأخلاق المذمومة وتركوا أفعالهم القبيحة، وانقلبوا من العداوة إلى المحبة، ومن البغضاء إلى المودَّة فقال: { فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ } يعني إذا فعلت ذلك خضع لك عدوك { كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } أي كالصديق القريب، قال مقاتل بن حيَّان: نزلت في أبي سفيان بن حرب، وذلك لأنه لان للمسلمين بعد شدة عداوته بالمصاهرة التي حصلت بينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم فصار وليًّا بالإسلام وحميماً بالقرابة.
قوله: "كأنه ولي" في هذه الجملة التَّشبيهيَّة وجهان:
أحدهما: أنها في محل نصب على الحال، والموصول مبتدأ، و "إذا" التي للمفاجأة خبره والعامل في هذا الظرف من الاستقرار هو العامل في هذا الحال. ومحطُّ الفائدة في هذا الكلام (هي الحال والتقدير: فبالحضرة المعادي مشبهاً القريب الشفوق.
والثاني: أن الموصول مبتدأ) أيضاً، والجملة بعده خبره، و "إذَا" معمولة لمعنى التشبيه والظرف يتقدم على عامله المعنوي. هذا إن قيل: إنها ظرف.
فإن قيل: إنَّها حرف فلا عامل.
قوله: "وَمَا يُلَقَّاها" العامة على يُلَقَّاها من التَّلْقِيَة. وابن كثيرـ في رواية ـ وطلحة بن مصرف يُلاَقَاها من المُلاَقَاةِ، فالضمير للخصلة أو الكلمة، (أو الجنة أو شهادة التوحيد.
فصل
لما أرشد الله تعالى إلى الطريق النافع في الدين والدنيا) قال: { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ } (قَالَ الزَّجاج: "وَمَا يُلَقَّى هذه الفِعْلَةَ إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا) على تحمل المكاره وتجرح الشدائد وكظم الغيظ، وترك الانتقام. { يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } من الفضائل النفسانية. وقال قتادة الحظ العظيم الجنة، أي وما يلقاها إلا من وجبت له الجنة.