خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

حـمۤ
١
عۤسۤقۤ
٢
كَذَلِكَ يُوحِيۤ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٣
لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلعَظِيمُ
٤
تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَٱلْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي ٱلأَرْضِ أَلاَ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ
٥
وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ
٦
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ
٧
وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَٱلظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
٨
أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَٱللَّهُ هُوَ ٱلْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٩
وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
١٠
-الشورى

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: "حم عسق" تقدم الكلام في أمثال هذه الفواتح.
وسئل الحُسينُ بنُ الفضل: لم قطع حم عسق ولم يقطع كهيعص فقال: لأنها سور أوائلها "حم" فجرت مجرى نظائرها. كأنَّ "حم" مبتدأ "عسق" خبره، ولأنهما عدا آيتين وأخواتها مثل: كهيعص، والمص والمر عدت آية واحدة. وقيل: لأن أهل التأويل لم يختلفوا في كهيعص، وأخواتها، لأنها حروف التهجي لا غير.
واختلفوا في "حم" فأخرجها بعضهم من حيِّز الحروف، وجعلها فعلاً. وقيل: معناه حُمَّ أي قضي ما هو كائن. روى عكرمة عن ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ أنه قال: "ح" حلمه "م" مجده "ع" علمه، "س" سناؤه، "ق" قدرته أقسم الله بها. وقال شهرُ بن حوشب وعطاءُ بن أبي رباح: "ح" حرب يعِزُّ فيها الذليل ويذلُّ فيها العزيز من قريش "م" ملكُ يتحول مِنْ قوم إلى قوم "ع" عدوٌّ لقريش يقصدهم "س" سبيٌ يكون فيهم "ق" قُدرةُ الله النافذة في خلقه؛ ورُوِيَ عن ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ أنه قال: ليس من نبي صاحب كتاب إلا وقد أوحيت إليه حم عسق فلذلك قال: يُوحى إليك وإلى الَّذِين من قبلك وعلى هذا فقوله { ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } تبيين للفاعل كأنه قال: من يوحي؟ فقيل: الله العزيزُ الحكيم كما سيأتي. وقرأ ابنُ عباس وابنُ مسعود حـمۤ سۤق.
قوله: "كَذَلِكَ يُوحِي" القراء على يوحي بالياء من أسفل مبنيًّا للفاعل، وهو الله تعالى، والعزيز الحكيم نعتان، والكاف منصوبة المحل إما نعتاً لمصدر، أو حالاً من ضميره، أي يوحي إيحاءً مثل ذلك الإيحاء.
وقرأ ابن كثير ـ وتُرْوَى عن أبي عمرو ـ يُوحَى ـ بفتح الحاء مبنياً للمجهول ـ وفي القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه:
أحدها: ضمير مستتر يعود على كذلك، لأنه مبتدأ، والتقدير مثلُ ذلك الإيحاء يُوحَى هو إليك. "فمِثْلُ ذَلِك" مبتدأ، و "يُوحَى إِلَيْكَ" خبره.
الثاني: أن القائم مقام الفاعل "إليك" والكاف منصوبة المحل على الوجهين المتقدمين.
الثالث: أن القائم مقامه الجملة من قوله "اللهُ العزيزُ" أي يُوحى إليك هذا اللفظُ. وأصول البصريين لا تساعد عليه؛ لأن الجملة لا تكون فاعلةً ولا قائمةً مقامه. وقرأ أبو حيوة والأعمش وأبان نُوحي ـ بالنون ـ وهي موافقة العامة. ويحتمل أن تكون الجملة من قوله: { ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } منصوبة المحل مفعولة بنُوحِي أي نُوحِي إليك هذا اللفظ، إلا أنَّ فيه حكاية الجملة بغير القول الصريح.
و "يُوحِي" على اختلاف قراءته يجوز أن يكون على بابه من الحال والاستقبال فيتعلق قوله: { وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ } بمحذوف لتعذر ذلك تقديره: "وأُحِي إلى الذَّين من قَبْلِكَ" وأن يكون يكون بمعنى الماضي، وجيء به على صورة المضارع لغرضٍ وهو تصوير الحال.
قوله: "اللهُ العَزيزُ" يجوز أن يرتفع بالفاعلية في قراءة العامة، وأن يرتفع بفعل مضمر في قراءة ابن كثير كأنه قيل: من يوحيه؟ فقيل: اللهُ العزيزُ، كقوله تعالى:
{ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ رِجَالٌ } [النور:36، 37] وقوله:

4370ـ لِيُبْــكَ يَـزِيــدُ ضَــارعٌ لِخُصُـومَـــةٍ

وقد مرَّ. وأن يرتفع بالابتداء، وما بعده خبره، والجملة قائمة مقام الفاعل على ما مر، وأن يكون "العَزِيزُ الحَكِيمُ" خبرين، أو نعتين، والجملة من قوله: { لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ } خبر أول أو ثانٍ على حسب ما تقدم في "العَزِيزِ الحَكِيم". وجوَّز أبو البقاء يكون "العَزِيزُ" مبتدأ، و "الحكيم" خبره، أو نعته و { لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ } خبره.
وفيه نظر؛ إذا الظاهر تبعيَّتُها للجلالة. وأنت إذا قلت: "جَاءَ زَيْدٌ العَاقِلُ الفَاضِلُ" لا تجعل العامل مرفوعاً على الابتداء.
فصل
الكاف في "كَذَلِكَ" معناه المثل و "ذَا" للإشارة إلى شيء سبق ذكره فيكون المعنى مثل حم عسق يوحي إليك وإلى الذين من قبلك، وعند هذا حصل قولان:
أحدهما: ما نقل عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أنه قال: لا نبي صاحب كتاب إلا وقد أوحي إليه حم عسق كما تقدم.
قال ابن الخطيب: "وهذا عندي بعيد".
والثاني: أن يكون مثل الكتاب المسمى بحم عسق يوحى إليك وإلى الذين من قبلك، وهذه المماثلة المراد منها المماثلة في الدعوة إلى التوحيد والنبوة والمعاد، وتقبيح أحوال الدنيا، والترغيب في أمور الآخرة.
قال الزمخشري: لم يقل: أُوحِيَ إليك ولكن قال: يوحى إليك على لفظ المضارع ليدل على أن إيحاء مثله عادة وكونه عزيزاً بدل على كونه قادراً على ما لا نهاية له وكونه حكيماً يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات غنياً عن جميع الحاجيات كما تقدم بيانه في أول سورة "حم" المؤمن.
وقوله: { لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } يدل على كونه موصوفاً بالقدرة الكاملة النافذة في جميع أجواء السموات والأرض على عظمها وسعتها بالإيجاد والإعدام وأن ما في السموات وما في الأرض ملكه وملكه، وهو العَلِيّ أي المتعالي عن مُشابهةِ المُمْكِنَات العظيم بالقدرة والقهر والاستعلاء.
قوله تعالى: { تَكَادُ ٱلسَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ } تقدم الكلام فيه مُشْبعاً في مريم، إلا أن الزمخشري زاد هنا وروى يونس عن أبي عمرو قراءةً غريبةً تتفطَّرن بتاءين مع النون. ونظيرها حرف نادر، رُوِيَ في نوادر ابن الأعرابي: "الإِبل تتشمَّمْنَ".
قال أبو حيان: والظاهر أن هذا وهمٌ، لأن ابن خالويه قال في شاذِّ القرآن ما نصه "تَنْفَطِرْنَ" بالتاء والنون يُونسُ عن أبي عمرو.
قال ابن خالويه: وهذا حرف نادر؛ لأن العرب لا تجمع بين علامتي التأنيث لا يقال: النساء تقُمْنَ، ولكن يَقُمْنَ، والوالِدَاتُ يُرْضِعنَ ولا يقال: تُرضِعن. وقد كان أبو عمر الزَّاهِدُ روى في نوادر ابن الأعرابي: الإبل تتشمَّمْنَ فأنكرناه، فقد قواه الآن هذا.
قال أبو حيان: فإن كانت نسخُ الزمخشري متفقةً على قوله: "بتاءين مع النون" فهو وهم، وإن كان في بعضها بتاء مع النون كان موافقاً لقول ابن خالويه وكان بتاءين تحريفاً من النساخ وكذلك كتبهم تتفطَّرن وتَتشمَّمْنَ بتاءين. انتهى.
قال شهاب الدين: كيف يستقيم أن يكو(ن) كتبهم تتشمَّمن بتاءين وهماً وذلك لأن ابن خالويه أورده في معرض الندرة والإنكار حتى يقوى عنده بهذه القراءة، وإنما يكون نادراً منكراً بتاءين، فإنه حينئذ يكون مضارعاً مسنداً لضمير الإبل، فكان من حقه أن يكون حرف مضارعته ياء منقوطة من أسفل، نحو: النِّساءُ يقُمن فكان ينبغي أن يقال: الإبل يتشمَّمن بالياء من تحت ثم بالتاء من فوق، فلما جاء بتاءين كلاهما من فوق ظهر نُدُوره وإنكاره، ولو كان على ما قال أبو حيان: إن كتبهم بتاءين وهماً بل كان ينبغي كتبه بتاء واحدة لما كان فيه شذوذ ولا إنكار، لأنه نظير: النِّسوة تدحرجْنَ فإنه ماض مسندٌ لضمير الإناث، وكذا لو كتبت بياء من تحت وتاء من فوق لم يكن فيه شذوذ، ولا إنكار.
وإنما يجيء الشذوذ والإنكار إذا كان بتاءين منقوطتين من فوق، ثم إنه سواء قُرِىء تتفطَّرن بتاءين أو بياء ونون، فإنه نادر لما ذكر ابن خالويه، وهذه القراءة لم يقرأ بها في نظيرتها في سورة مريم.
قوله: "مِنْ فَوْقِهِنَّ" في هذا الضمير ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه عائد على السموات، أي كل واحدة منها تتفطَّرُ فوق التي تليها من قول المشريكن:
{ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } [الكهف:4] كما في سورة مريم، أي يبتدىء انفطارهُنَّ من هذه الجهة "فِمَنْ" لابتداء الغاية متعلقة بما قبلها.
الثاني: أنه يعود على الأرضين؛ لتقدم ذكر الأرض.
الثالث: أنه يعود على فرق الكفار والجماعات الملحدين. قاله الأخفش الصغير. وأنكره مكي وقال لا يجوز ذلك في المذكور من بني آدم، وهذا لا يلزم الأخفش فإنه قال على الفرق والجماعات فراعى ذلك المعنى.
فصل
قال الزمخشري: كلمة الكفر إنَّما جاءت من الذين تحت السموات، وكان القياس أن يقال: ينفطِرن من تحتهن (أي) من الجهة التي (تحت) جاءت منها الكلمة، ولكن بُولغ في ذلك فجعلت مؤثرة مِنْ جهة الفوقِ، فكأنه قيل: يكون ينفطرن من الجهة التي فوقهنَّ، دع الجهة التي تحتهن. ونظيره في المبالغة، قوله تعالى:
{ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ ٱلْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَٱلْجُلُودُ } [الحج:19و20]. فجعل مؤثراً في أجزائهم الباطنة.
وقال ابن الخطيب: يعني من فوقهن أي من فوق الجهة التي حصلت هذه السموات فيها، وتلك الجهة هي فوق، فقولهن: من فوقهن أي من الجهة الفوقانيَّة التي هُنَّ فيها.
قوله: { وَٱلْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } فالتسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عما لا ينبغي والتحميد عبارة عن وصفه بكونه مُفيضاً لكُلِّ الخيرات.
قوله: { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي ٱلأَرْضِ } أي من المؤمنين كما حكى عنهم في سورة المؤمن فقال:
{ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } [غافر:7].
فإن قيل: (قوله): ويستغفرون لمن في الأرض عام، فيدخل فيهم الكفار وقد لعنهم الله تعالى فقال:
{ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ ٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [البقرة:161] فكيف (يكونون) لاعنين لهم ومستغفرين لهم؟! قال ابن الخطيب: والجواب من وجوه:
الأول: أنه عام مخصوص بآية المؤمن كما تقدم.
الثاني: أن قوله { لِمَن فِي ٱلأَرْضِ } لا يفيد العموم؛ لأنه (لا) يصح أن يقال: إنهم استغفروا لكل من في الأرض وأن يقال: إنهم استغفروا لبعض من في الأرض دون البعض ولو كان صريحاً في العموم لما صحَّ ذلك.
الثالث: يجوم أن يكون المراد من الاستغفار أنه لا يُعاجلهم بالعقاب، كما في قوله تعالى:
{ إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ } [فاطر:41] إلى أن قال: { إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } [فاطر:41].
الرابع: يجوز أن يقال: إنهم يستغفرون لكل من في الأرض، أما في حق الكفار فبطلب الإيمان لهم وأما في حق المؤمنين فبالتجاوز عن سيئاتهم فإنا نقول: اللهم أهدِ الكفار، وزيِّن قلوبهم بنور الإيمان وأَزِل عن خواطرهم وحشة الكُفْرِ، وهذا استغفار لهم في الحقيقة.
فصل
قال ابن الخطيب: قوله: "ويستغفرون لمن في الأرض" يدل على أنهم لا يستغفرون لأنفسهم ولو وجد منهم معصية لاستغفروا لأنفسهم قبل استغفارهم لمن في الأرض، فحيث لم يذكر الله عزَّ وجلَّ استغفارهم لأنفسهم علمنا أنهم مُبرَّأُون عن كل الذنوب والأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لهم ذنوب، والذين لا ذنب لهم ألبتة أفضل ممن له ذنب، وأيضاً فقوله: "ويستغفرون لمن في الأرض" يدل على أنهم يستغفرون للأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لأنهم من جملة مَنْ في الأرض، وإذا كانوا مستغفرين للأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ كان الظاهر أنهم أفضل منهم. ثم قال تعالى: { أَلاَ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } وهذا تنبيه على أن الملائكة وإن كانوا يستغفرون للبشر، إلا أن المغفرة المُطْلَقة لله تعالى وهذا يدل على أنه تعالى يعطي المغفرة التي طلبوها ويضم إليها الرحمة.
قوله: { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } أي جعلوا له شركاء وأنداداً الله حفيظٌ عليهم أي رقيب عليهم ويحفظ أعمالهم، وأقوالهم ويُحصيها ليجازيهم بها، { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم } يا محمد "بِوَكِيل" أي لم يوكلك بهم ولا أمرهم إليك إنَّما أنت مُنذرٌ.
قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً } في قرآناً وجهان:
أظهرهما: أنه مفعول أوحَيْنَا، والكاف للمصدر نعتاً أو حالاً.
الثاني: أنه حال من الكاف، و الكاف هي المفعول "لأَوْحَيْنَا" أي أوحينا مثل ذلك الإيحاء، وهو قرآن عربي وإليه نحا الزمخشري. وكون الكاف اسماً في النثر مذهب الأخفش.
فصل
قال ابن الخطيب: قوله وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً يقتضي تشبيه وحي الله بالقرآن بشيء سبق ذكره، وليس ههنا شيء سبق ذكره يمكن تشبيه وحي القرآن به إلا قوله: { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } يعني أوحينا إليك أنك لست حفيظاً عليهم ولست وكيلاً عليهم وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً ليكون نذيراً لهم.
قوله: و { لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ } أي أهلَ أُمِّ القرى؛ لأن البلد لا تعقِلُ.
قوله: { وَمَنْ حَوْلَهَا } عطف على أهل المقدر من قبل أم القرى والمفعول الثاني محذوف أي العذاب.
وقرىء: ليُنذر ـ بالياء من تحت ـ أي القرآن، وأم القرى أصل القرى بمعنى مكة، وسمي بهذا الاسم إجلالاً؛ لأن فيها البيت ومقامَ إبراهيِم. والعرب تسمي أصل كلٍّ شيء أمةً، حتى يقال: هذه القصيدة من أُمَّهاتِ قصائد فلانٍ ومعنى "مَنْ حَوْلَها" أي قرى الأرض كلها من أهل البدو والحضر وأهل المَدَر والوَبَر. والإنذار: التخويف.
قوله: { وَتُنذِرَ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ } أي تنذرهم بيوم الجمع، وهو يوم القيامة، جمع الله فيه الأولين والآخرين وأهل السموات والأرض. وقيل: المراد تجمع الأرواح بالأجساد. وقيل: يجمع بين العامل وعمله وقيل: يجمع بين الظالم والمظلوم.
قوله: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } إخبارٌ فهو مستأنف، ويجوز أن يكون حالاً من "يَوْمِ الجَمْعِ" وجعله الزَّمخشري اعتراضاً وهو غير ظاهر صناعة إذ لم يقع بين مُتلازمين.
قوله: "فَرِيقٌ" العامة على رفعه بأحد وجهين:
إمَّا الابتداء، وخبره الجار بعده، وساغ هذا في النكرة، لأنه مقام تفصيل كقوله:

4371ـ ........................فَثَوْبٌ نَسِيتُ وثَوْبٌ أَجُرٌّ

ويجوز أن يكون الخبر مقدراً تقديره منهم فريق. وساغ الابتداء بالنكرة لشيئين: تقديم خبرها جار ومجروراً ووصفها بالجار بعدها، والثاني: أنه خبر ابتداء مضمر إي هم أي المجموعون، دَلَّ على ذلك يوم الجمع.
وقرأ زيدٌ بن عليٍّ: فريقاً وفريقاً، نصباً على الحال من جملة محذوفة أي افتَرَقُوا أي المجموعون.
وقال مكي: وأجاز الكسائي والفراءُ النصب في الكلام في "فريقاً" على معنى: تُنذر فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير يوم الجمع وكأنه لم يطلع على أنها قراءة. وظاهر نقله عن هذين الإِمامين أنهما لم يطلعا (عليها) وجعل "فريقاً" مفعولاً أول لتنذر، "ويوم الجمع" مفعولاً ثانياً. وفي ظاهره إشكالٌ وهو أنَّ الإنذار لا يقع للفريقين وهما في الجنة وفي السعير إنما يكون الإنذار قبل استقرارهما فيهما. ويمكن أن يُجَابَ عنه بأن المراد مَنْ هو من أهل الجنة ومن أهل السعير، وإن لم يكن حاصلاً فيهما وقت الإنذار، و "فِي الجَنَّةِ" صفة "فَرِيقاً" أو متعلق بذلك المحذوف.
فإن قيل: يوم الجمع يقتضي كون القوم مجتمعين، والجمع بين الصنفين محال!.
فالجواب: أنهم يجتمعون أولاً ثم يصيرون فريقين.
قوله تعالى: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } قال ابن عباس (ـ رضي اللهُ عَنْهُمَا ـ) على دين واحدٍ وقال مقاتل: على ملة الإسلام، كقوله:
{ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } [الأنعام:35] { وَلَـٰكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ } أي في دين الإسلام "والظَّالِمُونَ" الكافرون { مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ } يرفع عنهم العذاب "وَلاَ نَصِير" يمنعهم من النار وهذا تقرير لقوله تعالى: { حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } أي أنت لا تقدر أن تحملهم على الإيمان فلو شاء الله لفعله؛ لأنه أقدر منك، ولكنه جعل البعض مؤمناً والبعض كافراً.
قوله تعالى: { أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } أم هذه (هي) أم المنقطعة فتقدر ببل التي للانتقال وبهمزة الإنكار، أو بالهمزة فقط. واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أولاً أنهم اتخذوا من دونه أولياء ثم يقال بعده لمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ: لَسْتَ عَلَيْهمْ بِوَكِيلٍ أي لا يجب عليك أن تحملهم على الإيمان فإن الله لو شاء لفعله أعاد ذلك الكلام على سبيل الاستنكار. ثم قال: { فَٱللَّهُ هُوَ ٱلْوَلِيُّ }، قال ابن عباس ـ (رضِيَ اللهُ عَنْهُمَا): وليك يا محمد، وولي من اتبعك، والفاء جواب شرط مقدر كأنه قال: إنْ أَرَادُوا أولياء بحق فاللهُ هو الوليّ، لاَ وليَّ سواه؛ لأنه يحيي الموتى { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فهو الحقيق بأن يتخذ ولياً دون من لا يقدر على شيء قاله الزمخشري. وقيل: الفاء عاطفة ما بعدها على ما قبلها.
قوله تعالى: { وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ } وجه النظم أنه تعالى كما منع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يحمل الكفار على الإيمان قهراً فكذلك منع المؤمنين أن يشرعوا معهم في الخُصُوماتِ والمنازعات فقال: { وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ } (من شيء) من أمر الدين فحكمه إلى الله يقضي فيه ويحكم يوم القيامة بالفصل الذي يُزيل الرَّيب، وقيل: وما اختلفتُم فيه من شيء وتنازعتم فتحاكموا فيه إلى رسول الله ـ صلى لله عليه وسلم ـ ولا يُؤْثروا حكومة غيره على حكومته.
وقيل: ما وقع بينكم فيه خلاف من الأمور التي لا يصل تكليفكم ولا طريق لكم إلى علمه، فقولوا الله أعلم كما قال تعالى:
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [الإسراء:85].
قوله: { فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ } إما أن يكون المراد فحكمه مستفاد من نص الله عليه، أو المراد فحكمه مستفاد من القياس على مان نص الله عليه، والثاني باطل، لأنه يقتضي كون كل الأحكام مثبتة بالقياس وأنه باطل فتعين الأول، فوجب كون كل الأحكام مثبتة بالمعنى، وذلك ينفي العمل بالقياس.
فإن قيل: لايجوز أن يكون المراد فحكمه معروف من بيان الله تعالى سواء كان ذلك البيان بالنص أو القياس؟.
فالجواب: أن المقصود من التحاكم إلى الله قطع الاختلاف والرجوع إلى القياس يقوي حكم الاختلاف ولا يوضحه فوجب أن يكون الواجب هو الرجوع إلى نص الله تعالى.
قوله: { ذَلِكُمُ ٱللَّهُ } أي الذي يحكم بين المختلفين { رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } في رفع كيد الأعداء وفي طلب كُل خير { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أي أرجع إليه في كل المهمات، وهذا يفليد الحصر أي لا أتوكل إلا عليه.