خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤاْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ
٢٩
قَالُواْ يٰقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ
٣٠
يٰقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
٣١
وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ ٱللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٣٢
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٣٣
وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَىٰ ٱلنَّارِ أَلَيْسَ هَـٰذَا بِٱلْحَقِّ قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ
٣٤
فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْفَاسِقُونَ
٣٥
-الأحقاف

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ... } الآية لما بين أن في الإنس مَنْ آمَنَ، ومنهم من كفر، بين أيضاً أن في الجن من آمن ومنهم من كفر، وأن مؤمنهم مُعَرّض للثواب، وأن كافرهم معرض للعقاب.
قوله: { وَإِذْ صَرَفْنَآ } منصوب باذْكُرْ مقدراً. وقرىء: صَرفنا بالتشديد للتكثير "مِنْ الْجِنِّ" صفة لـ "نَفَراً" ويجوز أن يتعلق بـ "صَرْفَنا" و"مِنْ" لابتداء الغاية.
قوله: "يسمعون" صفة أيضاً لنفراً، أو حال، لتخصصه بالصفة إن قلنا: إن "مِنَ الْجِنِّ" صفة له وراعى معنى النفر فأعاد عليه الضمير جمعاً، ولو راعى لفظه فقال: يستمع لجاز.
قوله: { فَلَمَّا حَضَرُوهُ } يجوز أن تكون الهاء للقرآن وهو الظاهر، وأن تكون للرسول ـ صلى الله عليه وسلم وحينئذ يكون في الكلام التفات من قوله: "إلَيْكَ" إلى الغيبة في قوله "حَضَرُوهُ".
قوله: { فَلَمَّا قُضِيَ } العامة على بنائه للمفعول، أي فرغ من قراءة القرآن وهو يؤيد عود "هاء" حضروه على القرآن. وأبو مِجْلزٍ وحبيب بن عبد الله قَضَى مبنياً للفاعل، أي أتم الرسول قراءته وهي تؤيد عودها على الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ.
فصل
ذكروا في كيفية هذه الواقعة قولين:
الأول: قال سعيد بن جبير: كانت الجن تَسْتَمع، فلما رجموا قالوا: هذا الذي حدث في السماء إما حدث لشيء في الأرض؟ فذهبوا يطلبون السّبب. وكان قد اتفق أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما أَيِسَ من أهله مكة أن يُجِيبُوه خرج إلى الطائف، ليَدْعُوَهُمْ إلى الإسلام فلما انصرف إلى مكة وكان ببطن مكة نخلة قام يقرأ القرآن، فمر به نفرٌ من أشراف (جِنِّ) نَصِيبِينَ، كان إبليس بعثهم ليعرف السبب الذي أوجب حراسة السماء بالرجم فسمعوا القرآن، فعرفوا أن ذلك هو السبب.
والقول الثاني: أن الله تعالى أمر رسوله أن يُنْذِرَ الجنَّ ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن فصرف إليه نفراً من الجن ليَسْتَمِعُوا منه القرآن، ويُنْذِرُوا قومهم (انتهى).
فصل
نقل القاضي في تفسيره أن الجنَّ كانوا يهوداً؛ لأن في الجن مِلَلاً كما في الإنس من اليهود والنَّصارَى والمجوس وعبدة الأوثان، وأطبق المحقِّقون على أن الجنة مكلفون. سئل ابن عباس: هل للجن ثواب؟.
قال: نعم: لهم ثواب وعليهم عقاب يلتقون في أبواب الجنة ويزدَحِمُونَ على أبوابها.
فصل
قال الزمخشري: النَّفَرُ دون العَشَرَةِ ويجمع على "أَنْفَارٍ" روى الطبري عن ابن عباس أن أولئك الجنَّ كانوا سبعة نفر من أهل نصِيبِين، فجعلهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسلاً إلى قومهم. وعن زِرِّ بن حبيش كانوا تسعة، أحدهم زوبعة. وعن قتادة: ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نِينَوَى. واختلفت الروايات في أنه هل كان عبد الله بن مسعود مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة الجن؟.
فصل
روى القاضي في تفسيره
"عن أنس قال:كنت مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو بظاهر المدينة إذْ أَقْبَلَ شيخ يَتَوَّكأ علىعُكَّازِهِ فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنها لمشية جنِّيِّ،ـ ثم أتَى فسلم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنها لنغمةُ جِنِّيّ، فقال الشيخ: أَجَلْ يا رسول الله فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أَيِّ الجن أنت؟ قال يا رسول الله: أنا هَامُ بن هِيم بن لاقيس بن إبليس فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: لا أدري بينك وبين إبليس إلا أبوين قال: أجل يا رسول الله. قال كم أتى عليك مِنَ العُمر. قال: أكلت عُمر الدنيا إلا القليل كنت حين قَتَلَ قابيلُ هابيلَ غلاماً ابن أعوام فكنت أَتَشَوفُ على الآكام، وأصْطََادُ الهَامَ وأُوْرِشُ بين الأنَام. فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم بئس العملُ قال يا رسول الله دعني من العتب، فإني ممن آمن مع نوحٍ ـ عليه الصلاة والسلام ـ وعاتبته في دعوته فبكا وأبكاني وقال: إني والله لَمِنَ النّادمين، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. ولَقِيتُ إبراهيم وآمنت به، وكنت بينه وبين الأرض إذ رُمِيَ به في المَنْجَنِيق، كنت معه في النار إذْ أُلْقِيَ فيها وكنت مع يوسف إذ أُلقِيَ في الجُبِّ فسبقته إلى قصره ولَقِيتُ موسى بْنَ عِمْرَان بالمكان الأثير. وكنت مع عيسى ابن مَرْيَمَ فقال لي: إن لَقِيتَ مُحَمَّداً فاقرأ عليه السلام (فـ) ـقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعليك يا هام ما حاجَتُكَ؟ قال: إن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ علّمني التوراة وإن عيسى علمني الإنجيل، فعلّمني القرآن. قال أنس: فعَلَّمَهُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَشْرَ سُوَرٍ، وقُبِضَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يَنْعِهِ إلينا" . قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ولا أراه إلا حيًّا. وروي أنه علمه سورة الواقعة، و { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ } [النبأ:1], و { إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ } [التكوير:1] و { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ } [الكافرون:1] وسورة الإخلاص والمُعَوِّذَتَين.
فصل
اختلفوا في عدد النفر، فقال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ كانوا سبعة وقد تقدم، وقيل: كانوا تسعةً. وروى عاصم عن زِرِّ بن حُبَيْش كان زوبعة من التسعة الذين استمعوا القرآن، فلما حضروه قالوا أنصتوا أي قال بعضهم لبعض أنصتوا أي اسْكُتُوا مستمعين يقال: أَنْصَتَ لِكَذَا، واسْتَنْصَتُّ لَهُ. روي في الحديث أن الجنة ثلاثة أصناف، صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وصنف حيَّاتٍ وكِلاَب، وصنف يحلّون ويظْعَنُون. ثم إنهم لما استمعوا القرآن حتى فرغ من تلاوته { وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم } انصرفوا إليهم "مُنْذِرِينَ" مخوفين داعين بأمر رسول الله ـ صلى لله عليه وسلم ـ وذلك لا يكون إلا بعد إيمانهم، لأنهم لا يَدْعُونَ غيرهم إلى سماع القرآن، والتصديق به، إلا وقد آمنوا. وعند ذلك { قَالُواْ يٰقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي لكتب الأنبياء، وذلك أن كتب سائر الأنبياء كانت مشتملةً على الدعوة إلى التوحيد والدعوة إلى النبوة والمَعَاد وتطهير الأخلاق، وكذلك هذا الكتاب مشتمل على هذه المعاني وهو معنى قوله { يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ }.
فإنْ قيل: كيف قالوا: من بعد موسى، ولم يقولوا: من بعد عيسى؟.
فالجواب: أنه روي عن عطاءٍ والحسن أنه كان دينهم اليهودية فلذلك قالوا: إنا سمعنا كتاباً أنزل بعد موسى. وعن ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ أن الجنَّ ما سمعت أمر عيسى فلذلك قالوا: من بعد موسى ثم إن الجن لما وصفوا القرآن بهذه الصفات الفاضلة قالوا "يا قومنا أجيبوا دَاعِيَ الله" يعني محمَّداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
فصل
دلت هذه الآية على أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان مبعوثاً إلى الجِنِّ كما كان مبعوثاً إلى الإنْسِ.
قال مقاتل: لم يبعث الله نبياً إلى الإنس وإلى الجن قبله.
فإن قيل: قوله { أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ } أمر بإجابته في كل ما أمر به فيدخل فيه الأمر بالإيمان فكيف قال: "وآمنوا به"؟.
فالجواب: أفاد ذكر الإيمان على التعيين، لأنه أهم الأقسام وِأشرفها وقد جرت عادة القرآن الكريم بأنه يذكر اللفظ العام ثم يعطف عليه أشرف أنواعه، كقوله:
{ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [البقرة:98] وقوله { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [الأحزاب:7] ولما أمر بالإيمان به ذكر فائدة ذلك الإيمان فقال: { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } قال بعضهم: كلمة "من" هنا زائدة والتقدير: يغفر لكم ذُنُوبَكُمْ، وقيل: بل فائدته أن كلمة "من" هنا لابتداء الغاية والمعنى أنه يقع ابتداء الغفران بالذنوب ثم ينتهي إلى عَفْوِ ما صدر عنكم من ترك الأَوْلَى والأكمل. ويجوز أن تكون تبعيضيةً.
قوله: { وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ فاستجاب لهم من قومهم نحو سبعينَ بَعْلاً من الجن فَرَجَعُوا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوافقوه في البَطْحَاء فقرأ عليهم القُرْآنَ وأمرهم ونَهَاهُمْ.
فصل
اختلفوا في أن الجن هل لهم ثواب أم لا؟ فقيل: لا ثَوَابَ لهم إلا النجاة من النار، ثم يقال لهم: كُونُوا تراباً مثلَ البهائم. واحتجوا على ذلك بقوله: (ويُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) وقو قول أبي حنيفة والصحيح أن حكمهم حكم بني آدم يستحقون الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية. وهو قولُ ابن أَبِي لَيْلَى ومَالِكٍ وتقدم عن ابن عباس أيضاً نحوُ ذلِكَ. قال الضحاك: يدخلون الجنة، ويأكلون ويشربون، لأن كل دليل دل على أن البشر يستحقون الثواب على الطاعة فهو بعينه قائم في حقِّ الجنِّ. والفرق بينهما بَعيداً جِدًّا، وذكر النقاش في تفسيره حديثاً أنهم يدخلون الجنة. فقيل: هل يصيبون من نعيمها؟ قال: يُلْهِمُهُم اللهُ تسبيحهُ وذِكْرَه فيصيبهم من لذته ما يصيب بني آدم من نعيم الجنة. وقال أَرطَأَةُ بْنُ المُنْذِر: سألت ضمرةَ بن حبيب هل للجن ثواب؟ ققال: نعم وقرأ:
{ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } [الرحمن:56]. وقال عمر بن العزيز: إن مؤمني الجنِّ حول الجنة في رَبَض وَرِحابٍ ولُبْسٍ فيها.
قوله: ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض أي لا يعجز الله فيفوته { وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ } أنصار يمنعونه من الله { أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }.
قوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ.. } اعلم أنه تعالى قرر من أول سورة إلى ههنا أمر التوحيد والنبوة. ثم ذكر ههنا تقرير القادر من تأمل في ذلك علم أن المقصود من القرآن كله تقرير هذه الأصول الثلاثة. واعلم أن المقصود من هذه الآية الدلالة على كونه تعالى قادراً على البعث، لأنه تعالى أمام الدليل على خلق السموات والأرض وخلقها أعظم من أعادة هذا الشّخص حيًّا بعد أن كان ميِّتاً، والقادر على الأكمل لا بدّ وأن يكون قادراً على ما دونه.
قوله: { وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ } العامة على سكون العين وفتح الياء مضارع "عَيِيَ" بالكسر يَعْيَا ـ بالفتح ـ فلما دخل الجازم حذف الألف. وقرأ الحسن يَعِي بكسر العين وسكون الياء. قالوا: وأصلها عَيِيَ بالكسر فجعل الكسر فتحة، على لغة طَيِّىء فَصَار "عَيَا"، كما قالوا في بَقِي: بَقَا. ولما بنى الماضي على "فَعَلَ" بالفتح جاء مضارعه على يَفْعِلُ بالكسر فصار يَعْيي مثل يَرْمِي، فلما دخل الجَازم حذف الياء الثانية فصار: لَمْ يَعْيِ بعين ساكنة وياءٍ مكسورة، ثم نقل حركة الياء إلى العين فصار اللفظ كما تَرَى. وقد تقدم أن عَيِيَ وحَيِيَ فيها لغتان، الفَكّ والإدغام. فأما حَيِيَ فتقدَّمَ في الأنفال و (أما) عَيِيَ فكقوله:

4460ـ عَيّوا بأمْرِهِمْ كمَا عَيْــيَتْ ببيضَتِهَا الحَمَامَهْ

والعي عدم الاهتداء إلى جهةٍ. ومنه العَيُّ في الكلام، وعَيِيَ بالأَمر إذا لم يهتد لوجهه.
قوله: "بِقَادِرٍ" الباء زائدة وحَسَّنَ زيادتَها كَوْنُ الكلام في قوة "أَلَيْسَ اللهُِ بِقَادرٍ". قال أبو عبيدة، والأخفش: الباء زائدة للتوكيد، كقوله:
{ تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ } [المؤمنون:20] وقاس الزجاج "مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أحداً بِقَائِمٍ" عَلَيْهَا. والصحيح التوقف. وقال الكسائي والفراء العرب تدخل الباء في الاستفهام فتقول: ما أظُنُّكَ بقائمٍ. وقرأ عيسى، وزيد بن علي "قَادِرٌ" بغير ياء.
قوله: "بلى" إيجاب لما تضمنه الكلام من النفي في قوله: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ }.
قوله تعالى: { وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَىٰ ٱلنَّارِ } فيقال لهم: أَلْيسَ هَذا بالْحَقِّ قَالُوا بَلَى فقوله: أليس هذا معمول لقول مضمر هو حال كما تقدم في نظيره. والمقصود من هذا الاستفهام التهكم والتوبيخ على استهزائهم بوعد الله تعالى ووعيده. فيقال لهم { فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ }.
قوله تعالى: { فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ } الفاء في قوله "فَاصْبِر" عاطفة هذه الجملة على ما تقدم، والسببية فيها ظاهرة. واعلم أنه تعالى لما قرر المَطَالِبَ الثَّلاثَة وهي التوحيد والنبوة وأجاب عن الشبهات أردفه بما يجري مجرى الوعظ والنصيحة للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذلك لأن كانوا يؤذونه ويُوجِسُون صدره فقال تعالى: { فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ } أي أُولو الجِدِّ والصَّبْر والثَّبَات وقال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ أولو الحَزْم.
قوله: { مِنَ ٱلرُّسُلِ } يجوز أن تكون من تبعيضية، وعلى هذا فالرُّسُلُ أَولُو عَزْم وَغيرُ أُولِي عَزْمٍ. ويجوز أن يكون للبيان فكلهم على هذا أُولو عَزْم. قال ابن زيد: كُلّ الرُّسُلِ كانوا أولى عزم ولم يبعث الله نبياً إلا كان ذَا عَزْم وحَزْمٍ، ورأي وكمال عقل. وإنما دخلت مِنْ للتَّجْنِيس لا للتبعيض كما يقال اشتريت (أكسية) من الخَزِّ وأَرْدِيَةً من البزّ. وقيل: الأنبياء كلهم أولو العزم إلا يُونُسَ لعجلة كانت منه، ألا ترى أنه قيل للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
{ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ } [القلم:48] وقيل هم نُجَبَاء الرسل، وهم المذكورون في سورة الأنعام، وهم ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لقوله بعد ذكرهم: { { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } [الأنعام:90]. وقال الكلبي: هم الذين أمروا بالجهاد، وأظهروا المكاشفة مع أعداء الدين وقيل: هم ستة: نوحٌ, وهودٌ، وصالحٌ، ولوطٌ، وشعيبٌ، ومُوسَى، وهم المذكورون على النَّسقِ في سورة الأعْراف والشُّعَرَاءِ.
وقال مقاتل: هم ستة، نوح صبر على أذى قومه، كانوا يضربونه حتى يُغْشَى عَلَيْه، وإبراهيم صَبَرَ على النار وذبْح الوَلَد، وإسحاق صبر على الذبح، ويعقوب، صبر على فَقْد ولده، وذَهَابِ بصره، ويوسفُ صبر في الجُبِّ والسِّجْن، وأيوبُ صبر على الضُرِّ. وقال ابن عباس وقتادة: هم نوح، وإبراهيم، وموسى وعيسى أصحاب الشرائع، فهم مع مُحَمَّد خمسة. قال البغوي: ذكرهم الله على التخصيص في قوله:
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ } [الأحزاب:7] وفي قوله: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً } [الشورى:13] الآية روي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لعائشة: يا عائشةُ إن الله لم يرض لأولي العزم إلا بالصّبر على مكروهها، والصبر على محبوبها لم يرضَ إلا ان كلفني ما كلفهم قال: { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل }، وإني والله لا بدّ لي من طاعة، والله لأصبرنَّ كما صَبَرُوا وأَجْهَدَنَّ ولا قوة إلا بالله.
قوله: { وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } العذاب فإنه نازل بهم. قيل: إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضجر من قومه بعضَ الضَّجَر، وأحبَّ أن ينزل الله العذاب بمن أبى من قومه، فأمر بالصبر، وترك الاستعجال. ثم أخبر أن ذلك العذاب إذ أنزل بهم يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبونها ساعة من نهار فقال: { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ } من العذاب { لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ } إذا عاينوا العذاب صار طُول لَبْثهِمْ في الدنيا والبْرزَخ كأنه ساعةٌ من النهار، أو كان لم يكن لهول ما عاينوا، لأن ما مضى وإن كان طويلاً صار كأنه لم يكن، قال الشاعر:

4461ـ كَأَنَّ شَيْئاً لَمْ يَكُنْ إذَا مَضَىكَأَنَّ شَيْئاً لَمْ يَكُنْ إذَا أَتَى

واعلم أنه تم الكلام ههنا.
قوله: "بلاغ" العامة على رفعه. وفيه وجْهَان:
أحدهما: أنه خبر مبتدأ محذوف، فقدره بعضهم: تلكَ الساعةُ بلاغٌ، لدلالة قوله: { إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ }. وقيل: تقديره هذا أي القرآن والشرع بلاغٌ من الله إليكم.
والثاني: أنه مبتدأ والخبر قوله "لَهُمْ" الواقع بعد قوله { وَلاَ تَسْتَعْجِل } أي لهم بلاغ فيوقف على "ولا تستعجل". وهو ضعيف جداً، للفصل بالجملة التشبيهية، ولأن الظاهر تَعَلُّق "لهم" بالاسْتِعْجَالِ فهو يشبه الهيئة والقطع.
وقرأ زيد بن علي والحسن وعيسى "بلاغاً" نصباً على المصدر أي بلِّغ بلاغاً. ويؤيده قراءة ابن مِجْلَزِ "بَلِّغْ" أمراً. وقرأ أيضاً "بَلَّغَ" فعلاً ماضياً. ويؤخذ من كلام مَكِّيٍّ أنه يجوز نصبه نعتاً "لِسَاعَةِ" فإنه قال: "ولو قرىء بلاغاً بالنصب على المصدر، أو على النعت لساعة جاز". وكأنه لم يطلع على ذلك قراءة. وقرأ الحسن أيضاً: بَلاَغٍ بالجر، ويُخَرِّج على الوصف لـ "نَهَار" على حذف مضاف أي من نهارٍ ذي بلاغ، أو وصف الزمان بالبلاغ مبالغةً. والبلاغ بمعنى التَّبلْيغ.
قوله: "فهل يهلك" العام على بنائه للمفعول. وابن محيصن يَهْلِكُ ـ بفتح الياء وكسر اللام ـ مبنياً للفاعل. وعنه أيضاً فتح اللام وهي لغةٌ والماضي هَلِكَ، بالكسر. قال ابن جني: "كُلٌّ مَرْغُوبٌ عَنْهَا". وزيد بن ثابت: بضم الياء وكسر اللام، فالفاعل هو الله تعالى. "القَوْمَ الفَاسِقِينَ". نصباً على المفعول به. وقرىء: "نَهْلِكُ" بالنو وكسر اللام ونصب "الْقَوْم".
فصل
المعنى فهل يهلك بالعذاب إذا نزل إلاّ القَوْم الفاسقون الخارجون عن أمر الله قال الزجاج: تأويله لا يَهْلِكُ مع رحمة الله وفضْلِهِ إلاَّ القَوْم الفاسقون، ولهذا قال قومٌ: مَا فِي الرَّجَاءِ لِرَحْمَةِ الله أقْوَى مِنْ هذه الآية. روى أبيّ بن كعب (ـ رضي الله عنه) ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
"مَنْ قَرَأَ سُورَة الأَحْقَافِ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ بِعَدَدِ كُلِّ رَمْلٍ فِي الدُّنْيَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ ومُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئاتٍ ورُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ" . (اللَّهُمَّ تَوفَّنَا مُسْلِمِينَ).