خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ
٤
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ
٥
وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ
٦
-محمد

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } العامل في هذا الظرف فعل مقدر هو العامل في "ضَرْبَ الرِّقَابِ" تقديره فاضربوا الرقاب وقتَ مُلاَقَاتِكُمُ العَدُوَّ. ومنع أبو البقاء أن يكون المصدر نفسه عاملاً، قال: لأنه مؤكَّد وهذا أحد القولين في المصدر النائب عن الفعل، نحو: ضرباً زيداً، هل العمل منسوب إليه أم إلى عامله؟ ومنه (قول الشاعر):

4462ـ عَلَى حِينَ أَلْهَى النَّاسَ جُلُّ أُمُورِهِمْ فَنَدْلا زُرَيْقَ المَالَ نَذْلَ الثَّعَالِبِ

فالمال منصوب إما بـ "اندل" أو بـ "ندْلاً" والمصدر هنا أضيف إلى معموله. وبه استدل على أن العمل للمصدر، لإضافته إلى ما بعده ولو لم يكن عاملاً لَمَا أضيف إلى ما بعده.
فصل
قال ابن الخطيب: الفاء في قوله: "فإذا لقيتم" يستدعي متعلَّقاً تُعَلَّقُ به وتُرَتَّبُ عَلَيْه وفيه وجوه:
الأول: لما بين أن الذين كفروا أضل أعمالهم، وأن اعتبار الإنسان بالعمل ومَنْ لا عمل له فهو هَمَج إعدامه خير من وجوده. { فإذا لقيتم الذين كفروا } بعد ظهور أن لا حرمة لهم بعد إبطال عملهم فاضربوا أعناقهم قال البغوي: فضرب الرقاب نَصْبٌ على الإغراء.
الثاني: إذا تبين تباين الفريقين وتباعد الطريقين بأن أحدهما يتبع الباطل وهو حزب الشيطان والآخر يتبع الحق وهو حِزب الرحمن حق القتال (عند التَّحَزُّب) فإذا لَقِيتُمُوهُمْ فاقْتُلُوهُمْ.
الثالث: أن من الناس من يقول لضعف قلبه وقُصُور نَظَرِه إيلام الحَيوان من الظُّلْم والطُّغْيَان ولا سيما القَتْلُ الذي هو تخريب بنيان. فيقال رَدًّا عليهم: لما كان اعتبار الأعمال باتباع الحق والباطل فلمن يُقْتَلْ في سبيل الله لتعظيم الله وبأمره له (من) الأجر ما للمصلي والصائم فإذا لقيتم الذين كفروا فاقتلوهم ولا تأْخُذْكُمْ بهم رأفة. فإن ذلك اتباع للحق والاعتبار به لا بصورة الفعل.
فصل
والحكمة في اختيار ضرب الرقبة دون غيرها من الأعضاء، لأن المؤمن هنا ليس بدافع، إنما هو مدافع وذلك لأن من يدفع الصائل لا ينبغي أن يقصد أولاً مقتله، بل يُتَدَرَّج ويُضْرَب غير المقتل فإن اندفع فذاك، ولا يرقى إلى درجة الإهلاك، فأخبر تعالى أنه ليس المقصود دفعهم عنكم بل المقصود دفعهم عن وجه الأرض بالكلية، وتطهير الأرض منهم وكيف لا والأرض لكم مسجِد، والمشركون نَجَسٌ، والمسجدُ يُطَهَّرُ من النجاسة؟ فإذاً ينبغي أن يكون قصدكم أولاً إلى قتلهم بخلاف دفع الصَّائل. والرقبة أظهر المقاتل، لأن قطع الحلقوم والأوداج مستلزم للموت، بخلاف سائر المواضع ولا سيما فِي الحرب. وفي قوله "لَقِيتُمْ" ما ينبىء عن مخالفتهم الصَّائل، لأن قوله: "لقيتم" يدل على أن القصد من جانبهم بخلاف قولنا "لقيكم"، ولذلك قال في غير هذا الموضع
{ وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ } [النساء:91].
فإن قيل: ما الفائدة في قوله ههنا: { فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ } بإضمار الفعل وإظهار المصدر، وقال في الأنفال:
{ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ } [الأنفال:12] بإظهار الفعل وترك المصدر؟!.
فالجواب مبني على تقديم مقدَّمة، وهي أن المقصود في بعض الصور قد يكون صدور الفعل من فاعل ويتبعه المصدر ضمناً؛ إذ لا يمكن أن يفعلَ فاعل إلا ويقع منه المصدر, ويدخل في الوجود, وقد يكون المقصود أولاً المصدرَ, ولكنه لا يوجد إلا فاعل، فيطلب منه أن يفعل مثاله من قال: أنِّي حَلَفْتُ أن أخْرُج مَن المدينة، فيقال له: فاخْرج صار المقصود صدور الفِعْل منه والخروج في نفسه غير مقصود الابتعاد ولو أمكن أن يخرج من غير تحقق الخروج منه لما كان عليه أن لا يَخْرُج لكن في ضرورة الخروج أن يخرج. فإذا قال قائل صادق: ضَاقَ بي المكانُ بسبب الأعداء فيقال مثلاً: الخروج يعني الخروج فاخرج فإن الخروج هو المطلوب، حتى لو أمكن الخروج من غير فعل منه، لحصل الغرض لكنه محال فيتبعه الفعل. وإذا عرف هذا فيقال: في الأنفال الحكاية عن الحرب الكائنة، وهم كانوا فيها والملائكة أنزلوا للنّصرة (و) من حضر في صفِّ القتالِ، فصدور الفعل منه مطلوب. وههنا الأمر وارد ليس في وقتِ القِتال، بدليل قوله تعالى: { فَإِذَا لَقِيتُمُ } والمقصود بيان كون المصدر مطلوباً لتقدم المأمُورِ على الفِعْل قال: { فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ }. وفي ذلك بيان فائدة أخرى، وهي أن الله تعالى قال هناك
{ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [الأنفال:12] وذلِكَ لأن الوقت وقت القتال فأرشدهم إلى القتل وغيره إن لم يصيبوا المقتل وههنا ليس وقت القتال. فبين أن المقصود القتل وغرض المسلم ذلك.
قوله: { حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ } هذه غاية للأمر بضرْب الرِّقاب، لا لبيان غاية القتل. وقوله: { فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ } قرأ السُّلَمِيُّ: فَشِدُّوا ـ بكسر الشين وهي ضعيفة جِدًّا,. والوَثَاقُ ـ بالفتح وفيه الكسر ـ اسم ما يُوثَقُ به والمعنى حتى إذا أثْخَنْتُمُوهُمْ أي بالَغْتُم في القتل وقَهَرْتُمُوهُمْ فشدّوا الوثاق يعني في الأسر حتى لا يَفْلِتوا. والأسر يكون بعد المبالغة في القتل كقوله تعالى:
{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ } [الأنفال:67].
قوله: { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً }. فيهما وجهان:
أشهرهما: أنهما منصوبان على المصدر بفعل لا يجوز إظهاره؛ لأن المصدر متَى سبق تفصيلاً لعاقبة جملة وجب نصبه بإِضمار فعل لا يجوز إظهاره، والتقدير: فَإِمَّا أنْ تَمُنُّوا وَإِمَّا أَنْ تُفَادُوا فِدَاءً ومثله:

4463ـ لأَجْهَـدَنَّ فَإِمَّـا دَرْءَ وَاقِعَـةٍتُخْشَى وَإِمَّـا بُلُـوغَ السُّـؤْلِ وَالأَمَـلِ

والثاني: قال أبو البقاء: إنهما مفعولان بهما لعامل مقدر تقديره: أَوْلُوهُمْ مَنَّا واقْبَلُوا مِنْهُمْ فِدَاءً.
قال أبو حيان: وليس بإعرابِ نَحْويًّ.
وقرأ ابن كثير: فِدًى ـ بالقصر ـ قال أبو حاتم: لا يجوز، لأنه مصدر فَادَيته. ولا يُلْتَفَتُ إليه؛ لأن الفرّاء حكى فيه أربع لغات المشهور المدّ والإعراب: فِدَاءً لَكَ، وفَدَاءِ بالمد أيضاً والبناء على الكسر، والتنوين، وهو غريب جداً. وهذا يشبه قول بعضهم: هؤلاءٍ بالتنوين. وفِدًى بالكسر مع القصر، وفَدًا بالفتح مع القصر أيضاً. والأوزار هنا الأثقال. وهو مجاز. وقيل: هو من مجاز الحذف أي أهْل الحرب. والأوزار عبارة عن آلات الحرب قال (الشاعر في معنى ذلكرحمه الله ):

4464ـ وَأَعْـدَدْتَ لِلْحَــرْبِ أَوزَارَهَــارِمَاحـاً طُـوَالاً وَخَيْـلاً ذُكُــورا

وحتى الأولى غاية لضرب الرقاب، والثانية لـ "شُدُّوا" ويجوز أن يكونا غايتين لضَرْب الرِّقاب على أن الثانية توكيد وبدل.
قال ابن الخطيب: وفي تعلق "حَتَّى" وجْهَانِ:
أحدهما: تعلقها بالقتل أي اقْتُلُوهُمْ حَتَّى تَضَعَ.
وثانيهما: بالْمَنِّ والفِداء. ويحتمل أن يقال متعلقة بقوله: "فشدوا الوثاق" وتعلقها بالقتل أظهر.
فصل
قدم المن على الفداء، لأن حرمة النفس راجحة على طلب المال. والفداء يجوز أن يكون مالاً ويجوز أن يكون غيره من الأشياء ويشرط بشرط عليهم، أوعليه وحده.
فصل
قال ابن الخطيب: الوزر الإثمُ أو السِّلاح، والإثم إنما هو على المحارب وكذلك السلاح ومعناه تضع الحرب الأوزار التي على المحاربين أو السلاح الذي عليهم، كقوله تعالى:
{ وَسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [يوسف:82] فكأنه قال: حتى تَضَع أمةُ الحرب، أو فِرقةُ الحرب أوزارها. والمراد انقضاء الحرب بالكلية بحيث لا يبقى في الدنيا حزب من أحزاب الكفر لا حزب من أحزاب الإسلام هذا إذا أمعنت النظر في المعنى. ولو قلنا: حتى تضع أمة الحرب جاز أن يضعوا الأسلحة ويتركوا الحرب وهي باقية، كقول القائل: خصومتي ما انْفَصَلَتْ، ولكني تركتها في هذه الأيام. وإذا أسندنا الوضع إلى الحرب يكون معناه إن الحرب لم تَبْقَ. واختلفوا في وقت وضع الأوزار على أقوال، يرجع حاصلها إلى الوقت الذي لا يبقى فيه حِزْبٌ من أحْزَاب الإسلام، ولا حزب من أحزاب الكفر. وقيل: ذلك عند قتال الدجال ونزول عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ.
فصل
اختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال قوم: هي منسوخة بقوله:
{ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي ٱلْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } [الأنفال:57] وبقوله: { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة:5] وإليه ذهب قتادة والضحاك، والسُّديُّ وابنُ جُرَيْجٍ، وهو قول الأوزاعي وأصحاب الرأي وقالوا: لا يجوز المنّ على من وقع في الأسر من الكفار ولا الفداء. وذهب آخرون إلى أن الآية محكمة، والإمام بالخيار في الرجال العاقلين من الكفار إذا أوقعوا في الأسر بين أن يقتلهم، أو يَسْتَرِقَّهُمْ أو يمُنَّ عليهم فيطلقهم بلا عوض أو يُفَادِيهم بالمال أو بأسارى المسلمين. وإليه ذهب ابنُ عمر. وبه قال الحسن وعطاء وأكثر الصحابة والعلماء. وهو قول الثَّوريِّ والشافعيِّ وأحمد وإسحاق. قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنزل الله في الأسارى { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً }، وهذا هو الأصح والاختيار، لأنه عمل به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والخلفاءُ بعده. روى البخاري عن أبي هريرةَ قال: بعث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خيلاً قبل نَجْد، فجاءت برجُل من بني حنيفة، يقال (له) ثُمَامَةُ بنُ أُثَالِ، فربطوه في سَارِيَةٍ من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خيرٌ يا محمد، إن تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وإن تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شاكرٍ وإنْ كُنْتَ تريدُ المالَ فلك ما شئتَ، حتى كان الغَدُ لقال له: ما عندك يَا ثُمَامَةُ؟ فقال: عندي ما قلتُ لك: إن تُنْعِمْ تُنْعمْ عَلَى شكر. فتركه حتى إذا كان بعد الغد قال: ما عند يا ثمامةُ؟ قال: عندي ما قلتُ لك قال: أطْلِقُوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريبٍ من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله والله ما كان على الأرض وجهٌ أبغضُ إليَّ مِنْ وَجْهِكَ فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه إليَّ، واللهِ ما كان من دينٍ أبغَضَ إلَيَّ من دينكَ فأصبح دينُك أحبَّ الدِّين إلَيَّ. واللهِ ما كان من بَلَدٍ أبغضَ إلَيَّ من بلدِكَ فقد أصبح بلدكُ أحبَّ البلادِ إلَيَّ. وإن خَيْلكَ أخذتني وأنا أريدُ العُمْرَةَ فما ترى؟ فبشَّره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمره أن يعتمر فلما قدم مكة قال له قائل: صَبَوْتَ؟ قال: لا ولكن أسلمت مع محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا واللهِ لا يأتيكُم من اليَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حتى يأذن فيها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وعن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قال: أسر أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجلاً من عَقِيل فأوثقوه، وكانت ثَقِيفٌ قد أسرت رجلين من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَفَداهُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالرجلين اللذين أَسَرَتْهُمَا ثَقِيفٌ.
قوله: "ذَلك" يجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي الأمر ذلك وأن ينتصب بإضمار "افْعَلُوا". قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يقال: واجبٌ أو مقدمٌ كما يقول القائل: إنْ فعلت فذاك، أي فذاك مقصود ومطلوبٌ.
فصل
قال المفسرون: معناه "ذلك" الذي ذكرت وبيّنت من حكم الكفار، { وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ } فأهلكهم وكفاهم أمرهم بغير قتال، "ولكن" أمركم بالقتال { لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } فيصير من قتل من المؤمنين إلى الثواب، ومن قتل من الكافرين إلى العذاب.
فإن قيل: ما التحقيق في قولنا: التكليف ابتلاء وامتحان والله يعلم السِّرَّ وأخْفَى؟.
فالجواب من وجوه:
الأوّل: أن المراد منه يفعل ذلك فعل المسلمين أي كما يقول المبتلى المُخْتَبَر.
الثاني: أن الله تعالى يَبْلُو ليظهر الأمر لغيره، إما للملائكة، أو للناس والتحقيق هو أن الابتلاء والاختبار فعل يظهر بسببه أمر ظاهر.
فإن قيل: فائدة الابتلاء حصول العلم عند المبتلي، فإذا كان الله عالماً فَأَيُّ فائدةٍ فيه؟.
فالجواب: أن هذا السؤال كقول القائل لم عاقب الكافر وهو مُسْتَغْنٍ؟ ولم خلق النار مُحْرِقَةً وهو قادر على أن يخلقها بحيث تنفع ولا تضر؟ وجوابه: لاَ يُسْألُ عَمَّا يَفْعَلُ (وَهُمْ يُسْأَلُونَ)؟.
قوله: { وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } قرأ العامة قَاتَلُوا. وأبو عمرو وحفصٌ قُتِلُوا مبنياً للمفعول على معنى أنهم قُتِلُوا وماتوا؛ أصاب القتل بعضهم كقوله:
{ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ } [آل عمران:146]. وقرأ الجَحْدَرِيّ: قَتَلُوا بفتح القاف والتاء خفيفة ومفعوله محذوف. وزيد بن ثابت والحسن وعيسى قُتِّلُوا، بتشديد التاء مبنياً للمفعول.
قوله: { فلن يضل أعمالهم } قرأ على ـ رضي الله عنه ـ يُضَلَّ مبنياً للمفعول أَعْمَالُهُمْ بالرفع لقيامه مقام الفاعل. وقرىء: تَضِلَّ بفتح التاء أَعْمَالُهُمْ بالرفع فاعلاً. والفاء في قوله: "فَلَنْ يُضِلّ" جَزَائية؛ لأن قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ } فيه معنى الشرط. قال قتادة: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أُحُدٍ، وقد فَشَتْ في المسلمين الجِرَاحَاتُ والقَتْلُ.
قوله: { سَيَهْدِيهِمْ } أيام حياتهم في الدنيا إلى أرشد الأمور وفي الآخرة إلى الدرجات { وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } برضى خصمائهم وتقبل أعمالهم. وقد تقدم تفسيره في قوله تعالى: { أصْلَحَ بَالَهُمْ } والماضي والمستقبل راجحٌ إلى أن هناك وعدهم ما وعدهم بسبب الإيمان، والعمل الصالح، وكان قد وقع منهم فأخبر عن الجزاء أيضاً بصيغة الوقوع. وههنا وعدهم بسببه القتل والقتال وكان في اللفظ ما يدل على الاستقبال، لأن قوله { فَإِذَا لَقِيتُمُ } يدل على الاستقبال فقال: { يُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ }.
قوله: { عَرَّفَهَا لَهُمْ } يجوز فيها وجهان:
أحدهما: أن تكون مستأنفة.
والثاني: أن تكون حالاً.
فيجوز أن تضمر "قد"، وأن لا تضمر، و "عَرَّفَهَا" من التعريف الذي هو ضد الجَهْل والمعنى أن كل أحد يعرف منزله في الجنة. وقيل: الملك الموكل بأعماله يهديه. وعن ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ أنه من العَرْفِ وهو الطيب أي طيِّبهَا لهم. وقال الزمخشري: يحتمل أن يقال: عرَّفَهَا لهم من عرَّفَ الدَّارَ وأَوْرَثَها أي حددها، وتحديدها في قوله تعالى:
{ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ } [آل عمران:133]، ويحتمل أن يقال: المراد هو قوله تعالى لهم: { وَتِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِيۤ أُورِثْتُمُوهَا } [الزخرف:72] فيشير إليه معرفاً لهم بأنها هي تلك. وقيل: عرفها لهم وقت القتل، فإن الشهيد وقت وفاته يُعْرَضُ عليه منزله في الجنة فيشتاقُ إليه. وقرأ أبو عمرو ـ في رواية ـ ويِّدْخِلْهُمْ ـ بسكون اللام وكذا ميم ويُطْعِمُهُمْ وعين { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } [النساء:87] كان يستثقل الحركات. وقد تقدم له قراءة بذلك في { يُشْعِرُكُمْ } [الأنعام:109] و { يَنصُرْكُمْ } [محمد:7] وبابه.