خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً
١
لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً
٢
وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً
٣
-الفتح

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } اختلفوا في هذا الفتح فروى أنس أنه فتح مكة وقال مجاهد: فتح خيبر. والأكثرون على أنه فتح الحديبية، وقيل: فتح الروم. وقيل: فتح الإسلام بالحُجَّة والبُرْهَان والسَّيْفِ والسِّنان. وقيل: الفتح الحكم لقوله تعالى: { ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ } [الأعراف:89] وقوله: { ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ } [سبأ:26]. فمن قال: هو فتح مكة قال: لأنه مناسب لآخر السورة التي قبلها من وجوه:
أحدها: أنه تعالى لما قال:
{ { هَا أَنتُمْ هَـٰؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [محمد:38] إلى أن قال: { { وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } [محمد:38] وبين تعالى أنه فَتَحَ لهم مكة، وغَنِموا ديارهم، وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا؛ ولو بخلوا لضاع عليهم ذلك فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم.
وثانيها: لما قال:
{ { واللهُ مَعكُمْ } [محمد:35] وقال: { { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ } [محمد:35] بين برهانه بفتح مكة فإنهم كانوا هم الأعلون.
وثالثها: لما قال تعالى:
{ { فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلسَّلْمِ } [محمد:35] وكان معناه لا تسألوا الفتح بل اصبروا فإنكم تسألون الصلح كما كان يوم الحديبية فكان المراد فتح مكة حيث أتوا صَنَادِيدَ قُرَيْشٍ مستأمنين ومؤمنين ومسلمين ومستسلمين.
فإن قيل: إن كان المراد فتح مكة فمكة لم تكن فتحت فكيف قال: فتحنا بلفظ الماضي؟.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: فتحنا في حُكْمِنا وتَقْدِيرِنا.
والثاني: ما قدره الله تعالى فهنو كائن فأخبر بصيغة الماضي إشارة إلى أنه أمرٌ واقعٌ لا دَافِعَ له.
وأما حجة رأي الأَكْثرِين على أنه صلح الحديبية فلِمَا رَوَى البراء قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحاً ونحن نَعُدُّ الفتحَ بيعةَ الرضوان يوم الحديبية كنا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مائةً والحديبيةُ بئرٌ فَنَزَحَنَاهَا فلم تنزل قَطْرَةٌ فبلغ ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأتاها فجلس على شفيرها فدعا بإناءٍ من ماءٍ فتوضأ ثم تَمَضْمَضَ ودعا وَصبَّهُ فيها فتركناها غير بعيد. ثم إنها أَصْدَرَتْنَا ما شئنا نحن وركابنا. قال الشعبي في قوله: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً قال: فتح الحديبية غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأطعموا نَخْل خيبر، وبلغ الهديُ مَحِلّه وظهرت الروم على الفرس ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المَجُوسِ. قال الزهري: ولم يكن فتح أعظمُ من صُلْحِ الحُدْيبِيَةِ، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاثِ سنين خلق كثير وكثر سَواَدٌ الإسلام، قال المفسرون: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } أي قضينا لك قَضَاءً بَيِّناً.
قوله: { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ } متعلق "بِفَتَحْنَا" وهي لام العلة. وقال الزَّمَخْشَرِيُّ:
فإن قلتَ: كيف جعل فتح مكة علَّةً للمغفرة؟.
قلتُ: لَمْ تُجْعل علة للمغفرة ولكن لما عدد من الأمور الأربعة وهي المغفرة، وِإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز كأنه قال: يَسَّرْنَا لَكَ فَتْح مكة، ونَصَرْنَاك على عدوك ليجمع لك بين عِزِّ الدَّارَيْن، وإعراض العاجل والآجل. ويجوز أن (يكون) فتح مكة من حيث إنَّهُ جهادٌ للعدو سبَباً للغُفْران والثواب. وهذا الذي قاله مخالف لظاهر الآية، فإن اللام داخلة على المغفرة فتكون المغفرة علة للفتح والفتح معلَّلٌ بها فكان ينبغي أن يقول: كيف جعل فتح مكة معلَّلاً بالمغفرة؟ ثم يقول: لم يجعل مُعَلَّلاً؟.
وقال ابن الخطيب في جواب هذا السؤال وجهين: آخرين؛ فقال بعد أن حكى الأول وقال: إنَّ اجتماع الأربعة لم يثبت إلاَّ بالفتح فإنَّ النعمةَ به تَمَّتْ، والنُّصْرَةَ به عَمَت: الثاني: أن فتح مكة كان سبباً لتظهير بيت الله من رِجْز الأوثان وتطهير بيته صار سبباً لتطهير عبده. الثالث: أن الفتح سبب الحِجَج، وبالحَجِّ تحصل المغفرة كما قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الحج
"اللَّهُمّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُوراً وَسَعْياً مَشْكُوراً وَذَنْباً مَغْفُوراً" . الرابع: المراد منه التعريف تقديره: إنَّا فتحنا لك لِتَعْرفَ أنك مغفور لك معصوم. وقال ابن عطية: المراد هنا أن الله فتح لك لِكَيْ يجعل الفتح علامة لَغُفْرَانِهِ لك فكأنها لام صيرورة. وهذا كلام ماش على الظاهر، وقال بعضهم: إنَّ هذه اللام لام القَسَم والأصل: لَيَغْفِرَنَّ فكسرت اللام تشبيهاً بلام "كي"، وحذفت النون. وَرُدَّ هذا بِأن اللام لا تكسر، وبأنها لا تنصب المضارع.
وقد يقال: إنَّ هذا ليس بنصب وإنما هو بقاءُ الفتح الذي كان قبل نون التوكيد بَقِيَ ليدل عليها ولكنه قول مردودٌ.
فصل
لم يكن للنبي ـ صلى لله عليه وسلم ـ ذنب فماذا يغفر له؟ فقيل: المراد ذنب المؤمنين. وقيل: المراد ترك الأفْضل. وقيل: الصغائر فإنها جائزة على الأنبياء بالسهو والعَمْد. قال ابن الخطيب: وهي تصونهم عن العُجْبِ. وقيل: المراد بالمغفرة العِصْمة. ومعنى قوله: "وَمَا تَأَخَّر" قيل: إنه وعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه لا يذنب بعد النُّبُوَّة. وقيل: ما تقدم على الفتح.
وقيل: هو للعموم، يقال: اضْرِبْ مَنْ لَقِيتَ وَمَنْ لاَ تَلْقَاهُ مع أن من لا تلقاه لا يمكن ضربه إشارة إلى العموم. وقيل: من قبل النبوة وبعدها ومعناه ما قبل النبوة بالعفو وما بعدها بالعصمة. وفيه وجوه أُخر ساقطة. قال ابن الخطيب: منها قول بعضهم: ما تقدم من أمر "مَارِيَةَ"وَمَا تَأَخَّر" من أمر "زَيْنَبَ" وهو أبعد الوجوه وأَسْقَطُهَا لعدم الْتِئَامِ الكَلاَمِ.
قوله: { وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } قيل: إنَّ التكاليفَ عند الفتح تَمْتْ حيث وَجَب الحَجُّ ـ وهو آخر التكاليف والتكاليف نعمة ـ وقيل: يتم نعمته عليك بإخلاء الأرض من مُعَانِدِيكَ، فإنَّ مِنْ يوم الفتح لم يبق للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عدوٌّ، فإن بعضهم قُتِلَ يوم بدر، والباقون آمنوا واستأمنوا يوم الفتح. وقيل: ويتم نعمته عليك في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا باستجابة دعائك في طلب الفتح، وفي الآخرة: بِقبول شفاعتك.
فصل
قال الضحاك: إنَّا فتحنا لك فتحناً مبيناً بغير قتال، كان الصلح من الفتح. فإنْ كانت اللام في قوله: "لِيَغْفِرَ" لام كي فمعناه إنَّا فَتَحْنَا لك فتحاً مبيناً لكي يجتمع لك مع المغفرة تَمَامُ النعمة في الفتح. وقال الحسن بن الفضل: هو مردود إلى قوله: "واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلمُؤْمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر، وليُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جناتٍ تجري من تحتها الأنهار".
وقال محمد بن جرير: هو راجع إلى قوله:
{ إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ وَرَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا } [النصر:1ـ3] ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك في الجاهلية قبل الرسالة "وما تأخر" إلى وقت نزول هذه السورة. وقيل: ما تأخر مما يكون. وهذا على طريق من يجوز الصغائر على الأنبياء. وقال سُفْيَانُ الثَّوْرِيّ: "ما تقدم" مما عملت في الجاهلية "وما تأخر" كل شيء لم تعمله كما تقدم.
وقال عطاء الخراساني: { مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ } يعني ذنب أبويك آدَمَ وحوّاء ببركتك، "وَمَا تَأَخَرَ" ذنوب أمتك بدعوتك. { وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } بالنبوة والحكمة.
قوله: { وَيَهْدِيكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } قيل: يهدي بك. وقيل: يُديمك على الصراط المستقيم، وقيل جعل الفتح سبب الهداية إلى الصراط المستقيم لأنه سهل على المؤمنين الجهاد لعلمهم بفوائده (و) العادجلة والآجلة. وقيل: المراد التعريف، أي لتعرف أنك على صراط مستقيم. ثم قال: { وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً } غالباً. وقيل: مُعِزًّا؛ لأن بالفتح ظهر النصر.
فإن قيل: إنَّ الله تعالى وصف النَّصْر بكونه عزيزاً من له النصر!.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: قال الزمخشري: إنه يحتمل وجوهاً ثلاثة:
الأول: معناه نصراً ذا عزة، كقوله:
{ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [الحاقة:21] أي ذَاتِ رِضاً.
الثاني: وصف النصر بما يوصف به المنصور إسناداً مجازياً يقال لَهُ كَلاَمٌ صَادِقُ كما يقال له متكلم صادق.
الثالث: المراد نصراً عزيزاً صَاحِبُهُ.
الوجه الثاني: أن يقال إنما يلزم ما ذكره الزمخشريُّ إذا قلنا: العزة هي الغلبة والعزيز الغالب. وأما إذا قلنا: العزيز هو النفيس القليل النظير، أو المحتاج إليه القليل الوجود، يقال: عَزَّ الشَّيْءُ في سُوقِ كَذَا أي قَلَّ وُجُودُهُ مع أنه مُحْتَاحٌ إليه، فالنصرُ كان محتاجاً إليه ومثله لم يوجد وهو أخذ بيت الله من الكفار المقيمين فيه من غير عَدَد ولا عُدَدٍ.
فصل في البحث المعنوي
وهو أن الله تعالى لما قال: { لِيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ } أبرز الفاعل وهو الله، ثم عطف عليه بقوله: "ويُتِمّ" وبقوله: "ويَهْدِيكَ" ولم يذكر لفظ الله على الوجه الحسن في الكلام وهو أن الأفعال الكثيرة إذا صدرت من فاعل يظهر اسمه في الفعل، ولا يظهر فيما بعد تقول: "جَاءَ زَيْدٌ وَقَعَدَ وَتَكَلََّمَ وَرَاحَ وَقَامَ" ولا تقول جَاءَ زَيْدٌ وَقَعَدَ زَيْدٌ، بَلْ جَاءَ زَيْدٌ وَقَعَد، اختصاراً للكلام بالاقتصار على الأوّل، وههنا لم يثقل: "وَيَنْصُرَكَ نَصْراً" بل أعاد لفظ الله وجوابه هذا إرشاد إلَى طريق النَّصر ولهذا قَلَّمَا ذَكَرَ الله النَّصْرَ من غير إضافة فقال تعالى:
{ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ } [الحج:40] ولم يقل: بالنَّصْر يُنْصَرُ وقال: { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ } [الأنفال:62] ولم يقل: أيدك بالنصر، وقال: { { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } [النصر:1] وقال: { نَصْرٌ مِّن ٱللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } [الصف:13]، وقال: { وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } [آل عمران:126]، وهذا أدل الآيات على مطلوبها. وتحقيقه هو أن النصر بالصبر والصبر بالله قال تعالى: { وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ } [النحل:127] وذلك لأن الصبر سكون القلب واطمئنانه وذلك بذكر الله (تعالى) كما قال تعالى: { { أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } [الرعد:28] فلما قال ههنا: "وَيَنْصُركَ اللهُ" أظهر لفظ الله، ليُعْلَمَ أن بذكر الله يحصل اطمئنان القلب وبه يحصل الصبر وبه يتحقق النصر.
فصل
قال: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ } ثم قال: { لِيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ }، ولم يقل: "إنَّا فَتَحْنَا لِيَغْفِرَ لَكَ" تعظيماً لأمر الفتح وذلك لان المغفرة وإن كانت عظيمة لكنها عامة لقوله تعالى:
{ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً } [الزمر:53] وقال: { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [النساء:116] فإن قلنا: المراد من المغفرة في حق النبي ـ صلى الله عليه سولم ـ فكذلك لم يختص به نبينا، بل غيره من الرسل كان معصوماً وإتمام النعمة كذلك قال تعالى: { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [المائدة:3] وقال تعالى: { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِي ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [البقرة:47 و122] وكذلك الهداية قال تعالى: { يَهْدِي ٱللَّهُ } [النور:35] وكذلك النصر، قال الله تعالى: { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ } [الصافات:171ـ172] وأما الفتح فلم يبق لأحد غير النبي ـ صلى لله عليه وسلم ـ فعظَّمه بقوله: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } وفيه التعظيم من وجهين:
أحدهما: قوله:"إنَّا"
والثاني: قوله: "لَكَ" أي لأجلك على وجه المِنَّةِ.