خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
١٣
-الحجرات

اللباب في علوم الكتاب

قوله (تعالى): { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ... } الآية هذه الآية مبينة ومقررة لما تقدم لأن السخرية من الغير والعيب إن كان بسبب التفاوت في الدين والإيمان فهو جائز، وكذلك لَمْزُهُ وغَيْبَتُهُ وإن لم يكن بسبب الدين والإيمان فلا يجوز، لأنَّ الناسَ بعُمُومِهِمْ كافِرِهم ومؤمِنِهمْ يشتركون فيما يفتخر به المفتخِر، لأن التكبر والافتخار إن كان بسبب الغنى فالكافر قد يكون غنياً المؤمن فقيراً وبالعكس، وإنْ كان بسبب النَّسب فالكافشر قد يكون نسيباً والمؤمن مولى لِعَبْدٍ أسْود وبالعكس فالناس فيما ليس من الدين والتقوى متساوون أو متقاربون ولا يؤثر شيء من ذلك مع عدم التقوى كما قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ } فقوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ } يعنى كآدمَ أي أنكم متساوون في النسب فلا تفاخر لبعض على بعض لكونهم أبناء رجل واحد وامرأة واحدةٍ.
فصل
قال ابن عباس (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) نزلت في ثابتِ بن قيس وقوله للرجل الذي لم يتفسح له: ابنَ فلانة فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الذاكر فلانة؟ قال ثابت: أنا يا رسول الله فقال: انْظُر في وجوه القوم فَنَظَر، فقال: ما رأيت يا ثابتُ؟ قال: رأيت أبيضَ وأحْمَرَ وأسود، قال: فإنك لا تَفْضُلُهُم إلا في الدِّين والتقوى، فنزلت هذه الآية ونزل في الذي لم يَتَفَسَّح:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلْمَجَالِسِ فَٱفْسَحُواْ } [المجادلة:11].
وقال مقاتل: لما كان فتح مكة أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بلالاً حتى علا ظَهْرَ الكَعْبَةِ فأذَّن فقال عَتَّاب بن أُسَيد بن أبي العيِص: الحمدُ لِلَّه الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم. وقال الحارث بن هشام: أما وَجَدَ مُحَمَّدٌ غَيْرَ هذا الغراب الأسود مؤذناً؟ وقال سُهَيْل بن عَمْرو: إن يرد اللهُ شيئاً يُغَيِّرْهُ. وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئاً أخاف أن يخبر به ربُّ السموات فأتى جبريل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبره بما قالوا: فدعاهم عما قالوا فأقروا فأنزل الله ـ عزَّ وجلَّ ـ هذه الآية وزَجَرَهم عن التفاخر بالأنساب و التكاثر بالأموال، والإزْرَاءِ بالفقراء.
فإن قيل: هذه الآية تدل على عدم اعتبار النسب وليس كذلك فإن للنسبِ اعتباراً عُرْفاً وشرعاً حق لا يجوز تزويج الشريفة بالنَّبَطِيّ!.
فالجواب: إذا جاء الأمر العظيم لا يبقى الأمر الحقير معتبراً، وذلك في الجنس والشرع والعرف أما الجنس فلأن الكواكب لا ترى عند طلوع الشمس، ولجناح الذباب دَويّ ولا يسمع عندما يكون رَعدٌ قويّ. وأما العرف فلأن من جاءه غلام ملك أقبل عليه وأكرمه فإذا جاءه مع الملك لا يبقى له اعتبار ولا يلتفت إليه. وإذا علم هذه ففي الشرع كذلك إذا جاء الشرف الديني الإلهيّ لا يبقى هناك اعتبار لا لنسب ولا لسبب، ألا ترى أن الكافر وإنْ كان من أعلى الناس نسباً، والمؤمن وإنْ كان من أدْوَنِهِمْ نسباً لا يقاس أحدهما بالآخر وكذلك ما هو من الدين مع غيره، ولهذا تصلح المناصبُ الدينية كالقضاءِ والشهادة لكل شريف ووضيعٍ إذا كان ديناً عالماً، ولا يصلح لشيء منها فاسق وإن كان قُرَشِيَّ النَّسَبِ وقَارُونِيَّ النَّشَبِ ولكن إذا اجتمع في اثنين الدينُ المتينُ وأحدهما نسيب يرجح بالنسب عند الناس لا عند الله، لقوله تعالى
{ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } [النجم:39] وشرف النسب ليس مكتسباً و لايحصل بسعيٍ.
فصل
الحكمة في اختيار النسب من جملة أسباب التفاخر، ولم يذكر المال، لأن الأمور التي يفتخر بها في الدنيا وإن كانت كثيرة، لكن النسب أعلاها، لأن المال قد يحصل للفقير فيبطلُ افتخار المفتخر به عليه والسنّ والحسن وغير ذلك لا يدوم، والنسب ثابت مستمر غير مقدور التحصيل لمن ليس له ذلك فاختاره الله للذكر وأبطل اعتباره بالنسبة إلى التقوى ليعلم منه بطلان غيره بطريق الأولى.
فإن قيل: إذا كان ورود الآية لبيان عدم جواز الافتخار بغير التقوى فما فائدة قوله تعالى: { إِنَّا خَلَقْنَاكُم }؟.
فالجواب: بأن كل شيء يترجح علىغيره، فإما أن يرجح بأمر فيه يلحقه ويرتب عليه بعد وجوده وإما أن يرجح عليه بأمر قبله، فالذي بعده كالحُسْنِ والقوة وغيرهما من الأوصاف المطلوبة من ذلك الشيء وأما الذي قبله فإنما راجع إلى أصله الذي وجد منه أو إلى الفاعل الذي أوجده فالأول كقولك: هَذَا مِنَ النُّحَاس، وهَذَا مِنْ فضَّةِ والثاني: كقولك: هَذَا عَمَلُ فُلاَنٍ، وهذا عمل فُلاَن، فقال تعالى: لا ترجيح بما خلقتم منه، لأنكم كلكم من ذكر وأنثى، ولا تَحْصُل لكم بعد وجودكم وأشرفُها التَّقْوى.
قوله: { جَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ } الشعوب جمع شَعْبٍ فتح الشين، وهو أعلى طبقات الأنْساب مثل رَبِيعة، ومُضَر، والأوْس، والخَزْرَج، وذلك أن طبقات النسب التي عليها العرب ستّ: الشَّعب، والقَبِيلة، والعِمَارة، والبَطْن، والفَخِذ، والفصيلة، وكل واحد يدخلُ فيما قبله فالفصيلة تدخل في الفخذ والفخذ في البطن وزاد بعض الناس بعد الفخذ العشيرة فجعلها داخلة فيها، فتكون الفصائل داخلة في العَشِيرة وتدخل العشيرة في الأفخاذ وتدخل الأفخاذ في البُطُون والبطون في العَمَائر والعمائر في القبيلة والقبيلة في الشعب، وذكر الأعم لأنه أذْهَبُ بالافْتِخَارِ وسُمّي الشعب شعباً لتشَعب القبائل منه، واجتماعهم فيه كشُعَب أغصان الشجرة. والشَّعْبُ من الأضداد، يقال: شَعْبٌ أي جمع، ومنه تشعيب القَدَح وشَعَّب أي فِرق، والقبائل هي دون الشعوب واحدتها قَبيلَةٌ وهي كَبكْر مِن ربيعة، وتَميم من مُضَرَ سميت بذلك لتقابلها، شبهت بقبائل الرأس، وهي قطع متقابلة، وقيل: الشعب النسب الأبعد والقبيلة الأقرب وأنشد:

4503ـ قَبَائِلُ مِنْ شُعُوب لَيْس فِيهم كَريمٌ قَدْ يُعَدُّ ولاَ نَجِيبُ

والنسبة إلى الشّعب شَعُوبِيَّة ـ بفتح الشين ـ وهم جيل يبغضون العرب ودون القبائل العمائر واحدتها ـ عَمَارة ـ فتح العين وهم كشَيْبَان مِنْ بكر ودَارِم من تميم، وَدُونَ العَمَائر البُطُون واحدتها بَطْن وهم كبَنِي هاشم وأمية من بني لُؤَيّ. ثم الفصائل والعشائر واحدتها فَصِيلة وعَشيرة.
وقال أبو رَوْق: الشعوب الذين لا يعتزون إلى أحد بل يَنْتَسبون إلى المَدَائن والقُرَى والقَبَائل العرب الذين ينتسبون إلى آبائهم.
قوله: "لِتَعَارفُوا" العامة على تخفيف التاء، والأصل: لتتعارفُوا فحذف إحدى التاءين. والبَزِّي بتشديدها وقد تقدم ذلك في البَقَرة، واللام مُتَعلِّقة "بجَعَلْنَاكُم". وقرأ الأعْمش بتاءين وهو الأصل الذي أدغمه البزّي، وحذفه الجمهور، وابن عباس لتَعْرِفُوا مضارع عَرَفَ.
فصل
المعنى ليعرفَ بعضُكم بعضاً في قُرْب النسب وبعده لا لِتَفَاخَرُوا. وقال في أول الآية: خَلَقْنَاكُم وقال ههنا: وجَعَلْنَاكم شُعُوبا، لأن الخلق أصل تفرع عليه الجعل والإيجاد لأجل العبادة، كما قال تعالى:
{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات:56]، والجَعْلَ شعوباً للتعارف، والأصل متقدم على الفرع فتعتبر العبادة قبل اعتبار النسب، لأن اعتبار الجعل شعوباً إنما يتحقق بعد تَحَقُّقِ الخلق، وفي هذا إشارة إِلى أَنَّه إن كان فيكم عبادة فتُعْتَبَرُ، وإلا فلا اعتبار لأنْسَابِكُمْ.
فإن قيل: الهداية والضلال كذلك كقوله تعالى:
{ إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ } [الإنسان:3] { يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } [النحل:93].
فالجواب: أن الله تعالى أثبت لنا فيه كسباً مَبْنيًّا على فعل لقوله تعالى:
{ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } [الإنسان:29] ثم قال: { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [الإنسان:30] وأما في النسب فلا.
قوله: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ } أخبر تعالى أن أرفعهم منزلةً عند الله أتقاهم. وقال قتادة في هذه الآية: أكْرَمُ الكَرَمِ التقوى وألأَمُ اللُّؤم الفجور. وقال عليه الصلاة والسلام ـ:
"الحَسَبُ المَالُ والكَرَمُ التَّقْوَى" . وقال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ: كرم الدنيا الغِنَى وكرم الآخرة التقوى. وعن أبي هريرة ـ (رضي الله عنه) ـ قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ: "أيُّ الناس أكرمُ؟ قال: أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللهِ أَتقَاهُمْ، قالوا: ليس عن هذا نسألك قال: فأكرمُ الناسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللهِ ابْنُ نَبِيِّ الله ابْنِ خَلِيلِ الله قالوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قال: فَعَنْ مَعَادِن العَرَبِ تَسْأَلُونِي؟ قالوا: نَعَم قال: خِيارُكُم في الجَاهِليَة خيارُكُم في الإسْلاَم إذا فَقِهُوا" . وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "إنَّ اللهَ لاَ يَنْظُرُ إلَى صُورَكُمْ وَلكِنْ يَنْظُرُ إِلى قُلُوبِكُمْ"
. فصل
قرأ العامة: إنَّ أَكْرَمَكُمْ بكسر "إنّ" وابن عباس بفتحها، فإن جعلت اللام لام الأمر ـ وفيه بُعْدٌ ـ صَحَّ أن يكون قوله: "أنَّ أَكْرَمَكُمْ" بالفتح مفعول العِرْفَان فإن أمرهم أن يعرفوا وإن جعلتها للعلّة لم يظهر أن يكون مفعولاً، لأنه لم يجعلهم شعوباً وقبائل ليعرفوا ذلك، فينبغي أن يكون المفعول محذوفاً واللام للعلة أي لِتَعْرِفُوا الحقَّ لأنَّ أَكْرَمَكُمْ.
فصل
قال ابن الخطيب: في المراد بالآية وجهان:
الأول: أن التقوى تفيد الإكرام.
والثاني: أن الإكرام يورث التقوى، كما يقال: المخلصون على خَطَر. والأول أشهر، والثاني أظهر.
فإن قيل: التقوى من الأعمال والعلم أشرف لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ:
"لَفَقِيهُ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابدٍ" .
فالجواب: أن التقوى ثمرة العلم لقوله تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ } [فاطر:28] فلا تقوى إلا العالم فالمتقي العالم أتم علمه والعالم الذي لا يتقي كشجرةٍ لا ثَمَر لها لكن الشجرة المثمرة أشرفُ من الشَّجَرةِ التي لا تُثْمر بل هي حطب وكذلك العالم الذي لا يتّقي حَصَبُ جهنم، وأما العابد الذي يفضل عليه الفقيه فهو الذي لا علم له وحينئذ لا يكون عنده من خشية الله نِصَابٌ كامل، ولعلمه يعبده مخافة الإلقاء في النار فهو كالمكره، أو لدخول الجنة، فهو يعمل كالفاعل له أجره ويرجع إلى نيته، والمتقي هو العالم بالله المواظب لِبَابِهِ.
فإن قيل: خطاب الناس بقوله: "أَكْرَمَكُمْ" يقتضي اشتراك الكل في الإكرام ولا كرامة للكافر فإنه أضل من الأنعام.
فالجواب: ذلك غير لازم أنه بدليل قوله تعالى:
{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } [الإسراء:70] لأن كل من خلق فقد اعترف بربه، ثم من استمر عليه وزَاد زِيدَ في كرامته، ومن رجع عنه أُزِيلَ عن الكرامة.
ثم قال تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } أي عليم بظواهركم يعلم أنسابكم خبير ببواطنكم لا يخفى عليه أسراركم فاجعلوا التقوى زادكم.