خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ
٢
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
٣
-الحجرات

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } قرأ العامة بضم التاء وفتح القاف وتشديد الدال مكسورة. وفيها وجهان:
أحدهما: أنه معتمدٍّ، وحذف مفعوله إما اقتصاراً كقوله: { يُحْيِـي وَيُمِيتُ } وكقولهم: "هُوَ يُعْطِي ويَمْنَعُ"، و "كُلُوا واشْرَبُوا" وإما اختصاراً للدلالة عليه أي لا تقدموا ما لا يصلح.
والثاني: أنه لازم نحو: وَجه وتَوَجَّه. ويعضده قراءة ابن عباس والضحاك: لاَ تَقَدَّمُوا بالفتح في الثَّلاَثَةِ. والأصل لا تتقدموا فحذف إحدى التاءين. وبعض المكيين لا تقدموا كذلك إلا أنه بتشديد التاء كتاءات البَزّي والمتوصل إليه بحرف الجر في هاتين القراءتين أيضاً محذوف أَيْ لا تَتَقَدَّموا إلى أمر من الأمور.
وعلى هذا فهو مجاز ليس المراد نفس التقديم بل المراد لا تجعلوا لأنفُسكم تقدماً عند النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقال: لفلان تقدم من بين الناس إذا ارتفع أمْرُهُ، وعَلاَ شَأْنُهُ. وقرىء: لا تُقْدموا ـ بضم التاء وكسر الدال ـ من أقدم أي لا تُقْدِمُوا على شيءٍ.
فصل
فصل في بيان حسن الترتيب وجوه:
أحدها: أنهم في السورة المتقدمة لما جرى منهم ميلٌ إلى الامتناع مما أجاز النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الصلح، وألزمهم الله كلمة التقوى قال لهم على سبيل العموم: لا تقدموا بين يدي الله ورسوله أي لا تتجاوزوا ما أتى من الله تعالى ورسوله.
الثاني: أنه تعالى لما بين علو درجة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكونه رسوله الذي يظهر دينه وأنه بالمؤمنين رحيمٌ قال: لا تتركوا من احترامه شيئاً لا بالفعل ولا بالقول وانظروا إلى رفعة درجته.
الثالث: أنه تعالى وصف المؤمنين بأنهم أشداء ورحماء فيما بينهم وبكونهم راكعين ساجدين وذكر أن لهم من الحرمة عند الله ما أورثهم حسن الثناء في الكتب المتقدمة بقوله:
{ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ } [الفتح:29]، فإن المَلكَ العظيم لا يذكر أحداً في غيبته إلا إذا كان عنده محترماً ووعدهم بالأجر العظيم فقال في هذه السورة لا تفعلوا ما يوجب انْحِطَاط درجاتكم وإحباطَ حَسَنَاتِكم (ولا تقدموا).
فصل في سبب النزول
روى الشعبي عن جابر أنه في الذبح يوم الأضحى قبل الصلاة وهو قول الحسن أي لا يذبحوا قيل أن يذبح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذلك أن ناساً ذبحوا قبل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأمرهم أن يُعِيدُوا الذَّبْحَ، وقال:
"من ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ عَجَّلَهُ لأَهْلِهِ لَيْسَ مِنَ النُّسُك فِي شَيْءٍ" . وروي عن مسروق عن عائشة أنه في النهي عن صوم الشك أي لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم. وروى ابن الزبير أنه قدم ركبٌ من بني تميم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أمر القعْقَاع بن معبد بن زرارة. وقال عمر: بل أمر الأقرعَ بن حابس. قال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، قال عمر: ما أردت خلافَك فَتَمَارَيَا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت: { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله }؛ قال (ابن) الزبير: فكان عمر لا يسمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (بعد هذه الآية) حتى يستفهمه. وقيل: نزلت في جماعة أكثروا من السؤال. وقال مجاهد: لا تَفْتَاتُوا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشيء حتى يَقْضِيَهُ الله على لسانه. وقال الضحاك: يعني في القتال وشرائع الدين، أي لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله. قال ابن الخطيب: والأصحّ أنه إرشاد عام يشتمل الكل ومنع مطلق يدخل فيه كل افتِيَاتٍ وتقدُّم واستبدادٍ بالأمر وإقدامٍ على فعلٍ غيرِ ضروري من غير مُشَاوَرةٍ.
فصل
ومعنى بين يدي الله ورسوله أي بحضرتهما؛ لأن ما يحضره الإنسان فهو بين يديه ناظر إليه. وفي قوله: { بين يدي الله ورسوله } فوائد:
إِحْدَاهَا: أن قول الإنسان فلان بين يدي فلان إشارة إلى أن كل واحد منهما حاضر عند الآخر مع أن لأحدهما علو الشأن وللآخر درجة العبيد والغِلْمَان؛ لأن من يجلس بجنب الإنسان يكلفه تَقْليب الحَدَقَة إليه وتحريك الرأس إليه عند الكلام ومن يجلس بين يديه لا يكلفه ذلك ولأن اليدين تنبىءُ عن القدرة لأن قول الإنسان: فلانٌ بين يدي فلان أي يُقَلِّبِه كيف يشاء في أشغاله كما يفعل الإنسان بما يكون موضوعاً بين يديه وذلك يفيد وجوب الاجْتِنَاب من التَّقَدُّم.
وثانيها: ذكر الله إشارة إلى وجوب احترام الرسول والانقياد لأوامره، لأن احترام الرسول احترام للمرسل، لكن احترام الرسول قد يترك لأجل بُعد المرسل وعدم اطّلاعه على ما يفعل برسوله فقوله: "بين يدي الله" أي أنتم بحضرة من الله وهو ناظر إليكم. وفي مثل هذه الحال يجب احترام رسوله.
وثالثها: أن العبارة كما تقرر النهي المتقدم تقرر الأمر المتأخِّر، وهو قوله: "واتّقوا الله" لأن من يكون بين يدي الغير كالمتاع الموضوع بين يديه يقلبه كيف يشاء يكون جديراً بأن يتقيه، وقوله: "وَاتَّقُوا الله" أي في تضييع حقه، ومخالفة أمره { إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } لأقوالكم، "عَلِيمٌ" بأفعالكم.
قوله (تعالى): { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ } في إعادة النداء فوائد منها أن في ذلك بيان زيادة الشفقة على المسترشد، كقول لقمان لابنه:
{ يٰبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ } [لقمان:13] { يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ } [لقمان:16] { يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ } [لقمان:17]، لأن النداء تنبيه للمنادى ليقبل على استماع الكلام ويجعل بالَه منه، فإعادته تفيد تجدد ذلك. ومنها: أن لا يتوهم متوهم أن المخاطبَ ثانياً غير المخاطب الأول، فإن من الجائز أن يقول القائل: يا زيدُ افعلْ كذا وكذا يا عمرو، فإذا أعاد مرة أخرى وقال: يا زيد قل كذا (يا زيد قل كذا (وقل كذا)) يعلم أن المخاطب أولاً هو المخاطب ثانياً. ومنها أن يعلم أن كل واحد من الكلامين مقصود، وليس الثاني تأكيداً للأول كقولك: يَا زَيْدُ لا تَنْطق ولا تَتَكَلَّم إلا الحق فإنه لا يحسن أن تقول: يا زيدُ لا تَنْطقْ يا زيدُ لا تَتَكَلَّمْ كما يحسن عند اختلاف المطلوبين.
فصل
قوله: { لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ } يحتمل أن يكون المراد حقيقة رفع الصوت، لأن ذلك يدل على قلة الاحتشام، وترك الاحترام، وهو أن رفع الصوت يدل على عدم الخَشْيَة؛ لأن من خَشِيَ قلبُه ارْتَجَفَ وَضَعُفَتْ حركته الدافعة فلا يخرج منه الصوت بقوة، ومن لم يخف ثبت قلبه وقويت حركته الدافعةُ، وذلك دليلٌ على عدم الخشية. ويحتمل أن يكون المراد المنع من كثرة الكلام، لأن من كَثُر كلامه يكون متكلماً عند سكوت الغير فيبقى لصوته ارتفاعٌ وإن كان خائفاً فلا ينبغي أن يكون لأحد عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلامٌ كثير بالنسبة إلى كلام النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُبَلِّغ فالمتكلمُ عنده إن أراد الإخبار لا يجوزُ له، وإن سأل فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لَمَّا وجب عليه البيان فهو لا يسكت عما سُئَل، وإن لم يُسْأَل فربما يكون في الجواب تكليف لا يسهل على المكلف الإتيان به فيبقى في ورْطَة العِقَاب كما قال تعالى:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } [المائدة:101].
ويحتمل أن يكون المراد رفع الكلام بالتعظيم، أي لا تجعلوا لكلامكم ارتفاعاً على كلام النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الخطاب. والأول أوضح والكل يدخل في المراد. قال المفسرون: معناه بَجِّلُوه وفَخّموهُ ولا ترفعوا أصواتكم عنده ولا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضاً. روى أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال:
" لما نزل قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ } جلس ثابتُ بنُ قيسٍ في بيته، وقال: أنا من أهل النار واحتَبَسَ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سعدَ بْنَ معاذ فقال: يا أبا عمرو ما شأنُ ثابت اشتكى؟ فقال سعدٌ: إنه لَجَارِي وما علمت له شكوى قال: فأتاه سعدٌ فَذَكَر له قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال ثابتٌ: أُنْزِلَتْ هذه الآية ولقد عَلِمْتُمْ أنِّي من أَرْفَعِكُمْ صوتاً عَلَى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنا من أهل النار فذكر ذلك سعدٌ للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل هو من أهل الجنة" . وروي "لما نزلت هذه الآية قَعَدَ ثابتٌ في الطريق يبكي فمر به عاصمُ بْنُ عَدِيٌ فقال: ما يُبكِيكَ يا ثابتُ؟ قال: هذه الآية أتخوف أن تكونَ نزلت وأنا رفيعُ الصوت أخاف أن يُحْبَط عملي وأكون من أهل النار فمضى عاصم إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وغلب ثابتاً البكاءُ فَأتى امرأته جميلَة بنتَ عبدِ الله بن أبيِّ ابنِ سلول فقال لها: إذا دخلت فَرَسي فشُدّي على الضَّبَّة بمِسمارٍ، فضربت عليه بِمسْمَارٍ وقال: لا أخْرُجُ حتى يَتَوفَّانِي الله أو يَرْضَى عنِّي رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأتى عاصمٌ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ فقال: اذهبْ فادْعُهُ لي فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فيه فلم يجدْه، فجاء إلى أهلِهِ فوجَدَهُ في بيت الفرس فقال له إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعوك فقال له: اكْسِر الضَّبة فأتى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يُبْكِيكَ يا ثابت؟ فقال: أنا صيت وأخاف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أما تَرْضَى أن تعيشَ حميداً وتُقْتَلَ شهيداً وتَدْخُلَ الجنة؟ فقال: رضيتُ ببُشْرَى الله ورسوله، لا أرفعْ صَوْتي أبداً على صوت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ" فأنزل الله { ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ } الآية. قال أنس: فكُنَّا ننظر إلى رجلٍ من أهل الجنة يمشي بيننا فلما كان يومُ اليَمَامَة في حرب مُسَيْلِمَةَ رأى ثابتٌ من المسلمين بعض الانكسار فانهزت طائفةٌ منهم فقال: أُفٍّ لهؤلاء ثم قال ثابتٌ لسالمِ مولى أبي حذيفة: ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل هذا ثُمّ ثَبَتَا وقاتلا حتى قُتِلاَ واستشهد ثابتٌ وعليه دِرْعٌ فرآه رجلٌ من الصحابة بعد موته في المنام قال له: اعلم أن فلاناً رجلٌ من المسلمين نَزَع درعي فذهب بها وهي في ناحية من المعسكر عند فرس يستن (به) في طِوَله، وقد وضع على درعي بُرْمَةً؛ فأتِ خالدَ بْن الوليد وأخْبِرْه حتى يسترد درعي، وأت أبا بكر خليفة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقُلْ له: إن عليّ دَيْناً حتى يَقْضِيَهُ (عنِّي)، وفلان (وفلان) من رقيقي عتيق. فأخبر الرجلُ خالداً فوجد دِرْعه والفرسَ على ما وصفهُ فاسْتَرَدَّ الدرع وأخبر خالدٌ أبا بكر بتلك الرؤيا، وأجاز أبو بكر وصيَّتَهُ. قال مالك بن أنس (رضي الله عنه): لا أعلم وصيةً أُجيزَتْ بعد موت صاحبها إلا هذه.
قوله: { وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } قال ابن الخطيب: إن قلنا: (إن) المراد من قوله: { لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ } أي لا تُكْثِرُوا الكلام فقوله: "ولاَ تَجْهَرُوا" يكون مجازاً عن الإتيان بالكلام عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقدر ما يؤتى به عند غيره أي لا تكثروا وقللوا غاية التقليل، وإن قلنا: المراد بالرفع الخطاب فقوله: "لاَ تَجْهَرُوا" أي لا تخاطبوه كما تُخَاطِبُو(نَ) غيره.
واعلم أن قوله تعالى: { لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ } لما كان من جنس لا تجهروا لم يستأنف النداء، ولما كان مخالفاً للتقدم لكون أحدهما فعلاً والآخر قولاً استأنف كقول لقمان لابنه:
{ يٰبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ } [لقمان:13]، وقوله: { يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ } [لقمان:17] لكن الأول من عمل القلب والثاني من عمل الجوارح، فقوله: { يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } [لقمان:17] من غير استئناف النداء لكون الكل من عمل الجوارح.
فإن قيل: ما الفائدة من قوله: { وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ } مع أن الجهر مستفاد من قوله: { لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ }؟.
فالجواب: أن المنع من رفع الصوت هو أن لا يجعل كلامه أو صوته أعلى من كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو صوته، والنهي عن الجهر منع من المساواة، أي لا تجهروا له بالقول كما تَجْهَرُو(نَ) لنظرائكم بل اجعلوةا كلمته عُلْيَا.
قوله: "أنْ تَحْبَطَ" مفعول من أجله. والمسألة من التنازع لأن كلاًّ من قوله: "لاَ تَرْفَعُوا" و "لاَ تَجْهَرُوا لَهُ" يطلبه من حيث المعنى فيكون معمولاً للثاني عند البصريين في اختيارهم، وللأول عند الكوفيين. والأول أصح للحذف من الأول أي لأن تَحْبَطَ. وقال أبو البقاء: إنها لام الصّيرورةِ و { أَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } حال.
فصل
معنى الكلام إنكم إن رفعتم أصواتكم وتقدمتم فذلك يؤدي إلى الاستحقار وهو يفضي إلى الارتداد والارتداد محبطٌ. وقوله: { وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } إشارة إلى أن الردّة تتمكن من النفس بحيث لا يشعر الإنسان فإن من ارتكب ذنباً لم يرتكبه في عمره تراه نادماً غاية الندامة خائفاً غايةَ الخَوف، فإذا ارتكبه مراراً قلّ خوفه ونَدَامَتُه ويصير عادة من حيث لا يعلم متى تمكن هذا كان في المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو غيرها، وهذا كما إذا بلغه خبر فإنه لا يقطع بالمخبر، فإذا تكرر عليه ذلك وبلغ إلى حد التواتر حصل له اليقينُ وتمكن الاعتقاد، ولا يدري متى كان ذلك وفي أي لَمْحَةٍ حَصَلَ هذا اليقين. فقوله: { وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } تأكيد للمنع أي لا تقولوا بأن المرة الواحدة تغفر ولا توجب رِدّة؛ لأن الامر غير معلوم بل احْسُموا الباب.
قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ } أي إجلالاً له { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ } اختبرها وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار فتخرج خالصة.
قوله: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ } يجوز أن يكون "أولئك" مبتدأ و "الذين" خبره والجملة خبر "إِنَّ" ويكون "لهم مَغْفِرَةٌ" جملة أخرى إما مستأنفة وهو الظاهر وإما حالية. ويجوز أن يكون "الَّذِينَ امْتَحَنَ (الله قُلُوبَهُمْ)" صفة "لأولئك" أو بدلاً منه أو بياناً و "لَهُمْ مَغْفِرَةٌ" جملة خبرية.
ويجوز أن يكون "لهم" هو الخبر وحده و "مَغْفِرَةٌ" فاعل به واللام في قوله: "لِلْتَّقْوَى" يحتمل أن يتعلق بمحذوف تقديره عرف الله قلوبهم صالحة أي كائنة للتقوى كقولك: أنْتَ لِكذَا أي صَالِحٌ أي كائنٌ ويحتمل أن يكون للتعليل. وهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون تعليلاً يجري مَجْرَى بيان السبب المتقدم، كقولك: جِئْتُكَ لإِكْرَامِكَ ابني أمسِ أي صار ذلك السبب السابق سبب المجيء.
والثاني: أن يكون تعليلاً يجري مجرى بيانه علّيّة المقصود المتوقع الذي يكون لاحقاً لا سابقاً، كقولك: جِئْتُكَ لأَدَاء الوَاجِبِ، أي ليصير مجيئي سبباً لأداء الواجب.
فعلى الأول فمعناه أن الله علم في قلوبهم تقواه فامتحن قلوبهم للتقوى التي كانت فيها، ولولا أن قلوبهم كانت مملوءة من التقوى لما أمرهم بتعظيم رسوله وتقديم نبيه على أنفسهم. على الثاني فمعناه أن الله تعالى امتحن قلوبهم بمعرفته معرفة رسوله بالتقوى أي ليرزقهم الله التقوى، ثم قال: { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } وقد تقدم الكلام عن ذلك.