خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
٤
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٥
-الحجرات

اللباب في علوم الكتاب

قوله (تعالى): { إَنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلْحُجُرَاتِ } هذا بيان لحال من كان في (مقابلة من تقدم، فإن الأول غَضَّ صوته، والآخر رفعه، وفيه إشارة إلى ترك الأدب من وجوه:)
أحدها: النداء، فإن نداء الرجل الكبير قبيح بل الأدب الحضور بين يديه وعرض الحاجة إليهِ.
الثاني: النداء من وراء الحجرات، فإن من ينادي غيره ولا حائل بينهما لا يكلفه المَشْيَ والمجيءَ بل يجيئه من مكانه ويكلمه ومن ينادي غيره مع الحائل يريد منه حضوره.
الثالث: قوله "الحجرات" يدل على كون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في خَلْوَتِهِ التي لا يمكن إتيان المحتاج إليه في حاجته (في) ذلك الوقت بل الأحسن التأخير وإن كان في وَرْطَةِ الحاجة.
قوله:"مِنْ وَرَاء"مِنْ" لابتداء الغاية. وفي كلام الزمخشري ما يمنع أن "مِنْ" يكون لابتداء الغاية وانتهائها قال: لأن الشيء الواحد لا يكون مبدأ للفعل ومنتهًى له. وهذا الذي أثبته بعض الناس وزعم أنها تدل على ابتداء الفعل وانتهائه في جهة واحدة نحو: أَخْذْتُ الدِّرْهَمَ مِنَ الكِيسِ.
والعامة على الحُجُرَات ـ بضمتين ـ وأبو جعفر وشَيْبَةُ بفَتْحها. وابن أبي عبلَة بإسكانها. وهي ثلاث لغات وتقدم تحقيقها في البقرة في قوله: "في ظُلُمَاتٍ". والحُجْرَةُ فُعْلَةٌ بمعنى مفعولة كغُرْفَة بمعنى مَغْروفَة. قال البغوي: والحُجُرَاتُ جمع الحُجْرَةِ فهي جَمْعُ الجَمْعِ.
فصل
ذكروا في سبب النزول وجوهاً:
الأول: قال ابن عباس: بعث رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سريّةً إلى بني العَنْبر، وأمر عليهم عُيَيْنَة بن حِصْنٍ الفَزَاريّ، فلما علما هربوا وتركوا عيالهم، فَسَبَاهُمْ عيينة، وقدم (بهم) على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجاء بعد ذلك رجالهم يفدونَ الذَّرَارِي فقدموا وقت الظهيرة ووافقوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلاً في أهله فلما رأتهم الذَّرَارِي أجْهَشُوا إلى آبائهم يبكون وكان لكل امرأة من نساء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حُجْرةٌ فعجلوا أن يخرج إليهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجعلوا ينادون: يا محمد اخْرُجُ إلينا حتى أيقظُوه من نومه فخرج إليهم، فقالوا يا محمد: فادنا عيالنا، فنزل جبريل (عليه الصلاة والسلام) فقال: إن الله يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلاً فقال لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتَرْضُون أن يكون بيني وبينكم سبرة بن عمرو وهو على دينكم؟ فقالوا: نعم؛ قال سبرة: أنا لا أحكم وعمي شاهد وهو الأعور بن بشامة؛ فرضوا به فقال الأعور: أرى (أن) تفادي نصفهم وأعتق نصفهم. فأنزل الله: إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحُجُرَاتِ أكْثَرُهُم لاَ يَعْقِلُونَ وصفهم بالجهل وقلة العقل.
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } لأنك كنت تعتقهم جميعاً وتطلقهم بلا فداء { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }. وقال قتادة: نزلت في ناسٍ من أعراب بني تميم جاءوا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنادوا على الباب: اخرج إلينا يا محمد فإن مَدْحَنا زَيْنٌ وذمّنا شينٌ فخرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يقول: إنما ذلكم اللهُ الذي مَدْحُهَ زَيْنٌ وذَمُّهُ شَيْنٌ، فقالوا: نحن ناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرُك ونفاخرك، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما بالشعر بُعِثْتُ، ولا بالفخر أُمِرْتُ، ولكن هاتوا فقام شاب منهم فذكر فضلَه وفضل قومه فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لثابت بن قيس بن شِمَاس، وكان خطيب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: قُمْ فَأَجِبْهُ فأجَابَهُ. وقام شاعرهم فذكر أبياتاً فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لحسَّان بن ثابت: أجبهُ فأجابهُ، فقام الأقرع بن حابس فقال: إن محمداً المؤتَى له، تكلم خطيبنا، فكان خطيبهم أحسنَ قولاً، وتكلم شاعرُنا فكان شاعرُهم أشعرَ وأحسنَ قولاً، ثم دنا من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ما يضرك ما كان من قبل هذا ثم أعطاهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما أعطاهم فأزرى به بعضهم وارتفعت الأصوات وكثر اللّغَظُ عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنزل فيهم:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ... } [الحجرات:2] الآيات الأربع إلى قوله: { غَفُورٌ رَّحِيمٌ }. وقال زيد بن أرقم: جاء ناس من العرب إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يكن نبياً فنحن أسعد الناس به، وإن يكُنْ ملكاً نعيش في جَنَاحِهِ فجاءوا فجعلوا ينادون من وراء الحجرات: يا محمدُ يا محمد، فأنزل الله: { إَنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ... } الآية.
فصل
في قوله: "أكثرهم" وجوه:
أحدها: أن العرب تذكر الأكثر وتريد الكل، احترازاً عن الكذب واحتياطاً في الكلام، لأن الكل مما لا يحيط به علم الإنسان في بعض الأشياء فيقول الأكثر وفي اعتقاده الكل، ثم إن الله تعالى مَعَ إحاطة علمه بالأمور أتى بما يناسب كلامهم، وفيه إشارة لطِيفةٍ وهي أن الله تعالى يقول: أنَا مع إحاطة علمي بكل شيء جربت على عادتكم استحساناً لتلك العادة، وهي الاحتراز عن الكذب، فلا تتركوها واجعلوا اختياري ذلك في كلامي دليلا ً قاطعاً على رضائي بذلك منكم.
الثاني: أن يكون المراد أنهم في أكثر أحوالهم لا يعقلون، وذلك أن الإنسان إذا اعتبر مع وصف ثم اعتبر مع وصف آخر يكون المجموع الأول غير المجموع الثاني، مثاله: إذا كان الإنسان جاهلاً أو فقيراً فيصير عالماً أو غنياً فيقال في العُرْف: زَيْدٌ لَيْسَ هُوَ الذي رَأَيْتُ مِنْ قَبْلُ بل الآن على أحسن حال فيجعله كأنه ليس ذلك إشارة إلى ما ذكرنا. إذا علم هذا فهم في بعض الأحوال إذا اعتبرتهم مع تلك الحالة مغايرون لأنفسهم إذا اعتبرتهم مع غيرها. فقوله تعالى: { أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } إشارة إلى ما ذكرنا.
الثالث: لعل فيهم من رجع عن ذلك الأمر، ومنهم من استمر على تلك العادة الرّديئة فقال: أكثرهم إخراجاً لمن ندم منهم عنهم.
قوله: { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ } تقدم مثله. وجعله الزمخشري فاعلاً بفعل مقدر أي ولو ثبت صَبْرُهُم. وجعل اسم أن ضميراً عائداً على هذا الفاعل. وقد تقدم أن مذهب سِيبَويْهِ أنها في محل رفع بالابتداء وحينئذ يكون اسم "أَنَّ" ضميراً عائداً على صَبْرهم المفهوم من الفعل.
قوله: { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يحتمل أمرين:
أحدهما: غفور لسوء صنعهم في التعجيل.
وثانيهما: لحسن الصبر يعني بسبب إتيانهم بما هو خير يغفر الله لهم سيئاتهم.
ويحتمل أن يكون ذلك حثّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الصلح. وقوله: { أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } كالصبر لهم.