خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ
٦
وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلرَّاشِدُونَ
٧
فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٨
-الحجرات

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ } قال المفسرون: نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو أخو عثمان لأمه بعثه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بني المصطلق بعد الموقعة والياً ومصدقاً، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية فلما سمع به القوم تَلقَّوْه تعظيماً لأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فحثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال: إنهم منعوا صدقاتهم وأراد قتلي، فغضب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهمَّ أن يَغْزُوَهُمْ فبلغ القومَ رجوعُه فأتوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالوا: يا رسول الله: سَمِعْنَا برسُولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله تعالى فأبطأ في الرجوع فخشينا أنه إنما ردّه من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله. فاتَّهمُهمْ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبعث خالدَ بنَ الوليد خفْيةً في عسكره وقال: انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم وإن لم تَرَ ذلك فاستعمل فيهم ما يستعمل في الكفار، ففعل ذلك خالد ووافاهم فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء فأخذ منهم صدقاتهم ولم يَرَ منهم إلا الطاعة والخَيْرَ وانصرف إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأخبره فنزل { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ } يعني الوليد بن عقبة "بِنَبأ" بخبر، { فَتَبَيَّنُوۤاْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ } كيلا تصيبوا بالقتل والقتال قوماً بجهالة { فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ } من إصابتكم بالخَطَأ، "نَادِمينَ".
قال ابن الخطيب: وهذا ضعيف، لأن الله تعالى لم يقل: إني أنزلتها لكذا والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم ينقل عنه أنه قال: وردت الآية لبيان ذلك حسب، غاية ما في الباب أنها نزلت في ذلك الوقت وهو مثل تاريخ نزول الآية، ومما يصدِّق ذلك ويؤكده أن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد، بعيد لأنه توهم وظن فأخطأ، والمخطىء لا يسمَّى فاسقاً، وكيف والفاسق في أكثر المواضع المراد به من خرج عن رتبة الإيمان، كقوله تعالى:
{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ } [المنافقون:6] وقوله تعالى: { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [الكهف:50] وقوله: { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا } [السجدة:20] إلى غير ذلك؟!.
فصل
دلت الآية على أن خبر الواحد حجة وشهادة الفاسق لا تقبل أما في المسألة الأولى فلأنه علل الأمر بالتوقف بكونه فاسقاً ولو كان خبر الواحد العدل لا يقبل لما كان للترتيب على النسق فائدة وأما في المسألة الثانية فلوجهين:
أحدهما: أنه أمر بالتبين وقيل قوله كان الحاكم مأموراً بالتبين، فلم يفد قوله الفاسق شيئاً، ثم إنَّ الله تعالى أمر بالتبين في الخبر والنبأ وباب الشهادة أضيق من باب الخبر.
الثاني: أنه تعالى قال: { أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ }، والجهل فوق الخطأ؛ لأن المجتهد إذا أخطأ لا يسمى جاهلاً فالذي يبني الحكم على قول الفاسق إن لم يصب جاهلاً فلا يجوز البناءُ على قَوْلِهِ.
قوله: "أَنْ تُصِيبُوا" مفعول له كقوله: "أَنْ تَحْبَطَ". قال ابن الخطيب: معناه على مذهب الكوفيين لئَلاّ تُصِيبُوا، وعلى مذهب البصريين كَرَاهَةَ أَنْ تُصِيبُوا.
قال: ويحتمل أن يكون المراد فتبينوا واتقوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين، فقوله "بِجَهَالةٍ" في تقدير حال أي تُصيبوهُمْ جَاهلينَ، ثم حقق ذلك بقوله: { فتصبحوا على ما فعلتم نادمين }. وهذا بيان، لأن الجاهل لا بد وأن يندم على فِعْلِهِ. وقوله: "تصبحوا" معناه تصيبوا. قال النحاة: أصبح يستعمل على ثلاثة أوجه:
أحدها: بمعنى دخول الإنسان في الصباح.
والثاني: بمعنى كان الأمر وقت الصباح كما يقال: أصبحَ المريضُ اليومَ خَيْراً مما كان يريد كونه في وقت الصبح على حالةِ خير.
الثالث: بمعنى صار كقوله: "أصْبحَ زَيدٌ غَنيّاً" أي صار من غير إرادة وقتٍ دونَ وقتٍ.
وهذا هو المراد من الآية. وكذلك "أمسى وأَضْحَى". قال ابن الخطيب: والصيرورة قد تكون من ابتداء أمرٍ وَتدُومُ وقد تكون في آخر الأمر بمعنى آل الأمر إليه، وقد تكون متوسطة؛ فمثال الأول قولك: صَارَ الطِّفْل فاهِماً حَدُّهُ. ومثال الثالث قولك: صَار زيدٌ عالماً إذا لم ترد أخذه فيهِ ولا بلوغه ونهايته بل كونه ملتبساً به. وإذا علم هذا فنقول: أصلُ استعمال أصبح فيما يصير الشيء بالغاً في الوصف نهايته وأصل أضحى التوسط، لا يقال: أهل الاستعمال لا يفرقون بين الأمور ويستعملون الألفاظ الثلاثة بمعنى واحداً، لأنَّا نقول: إذا تقارَبتِ المعاني جاز الاستعمال، وجواز الاستعمال لا ينافي الأصل، وكثير من الألفاظ أصله معنى واستعمل استعمالاً شائعاً فيما يشاركه. وإذا علم هذا فقوله تعالى "فَتُصْبِحُوا" أي فتَصِيروا آخذين في الندم ثم تَسْتَدِيمُونَهُ، وكذلك في قوله:
{ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } [آل عمران:103] أي أخذتم في الأخوَّة وأنتم فيها زائدونَ مستمرُّون.
قوله: "نَادِمينَ" الندم هَمٌّ دائم، والنون والدال والميم في تقلبها لا تَنْفَكُّ عن معنى الدوام كقول القائل: أدْمَنَ في الشُّرْب ومُدْمِنٌ أي أقام ومنه: المَدِينَةُ.
قوله: { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ } فاتقوا الله أن تقولوا باطلاً أو تكذِّبوه فإن الله يخبرُه ويعرفُه أحوالكم فتفْتَضِحُوا.
قوله: { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ } يجوز أن يكون حالاً إما من الضمير المجرور في قوله: "فِيكُمْ" وإمَّا من المرفوع المستتر في "فِيكُمْ" لوقوعه خبراً. ويجوز أن يكون مستأنفاً، إلا أنّ الزمخشري منع هذا، لأدائه إلى تنافر النظم. ولا يظهر ما قاله بل الاستئناف واضحٌ أيضاً. وأتى بالمضارع بعد "لو" دلالة على أنه كان في إرادتهم استمرارُ عمله على ما يَسْتَصوبُونَ.
فصل
نقل ابن الخطيب أن الزمخشريَّ قال: وجه التعليق هو أن قوله: "لو يطيعكم" في تقدير حال الضمير المرفوع في قوله: فيكم، والتقدير: كائن فيكم أو موجود فيكم على حالٍ تريدون أن يُطِيعَكُمْ أو يفعل باستصوابكم فلا ينبغي أن يكون على تلك الحال لو فعل ذلك لَعِنتُّمْ أي وقعتم في شدة أو أَثِمْتُمْ وهَلَكْتُمْ والعَنَتُ الإثْمُ والهَلاَكُ.
ثم قال: { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلأِيمَانَ }. وهذا خطاب مع بعض المؤمنين غير المخاطبين بقوله: "لَوْ يُطِيعُكُمْ". قال الزمخشري: اكتفى بالتغاير في الصفة واختصر، ولم يقل: حبَّب إلى بعضكم الإيمان وقال أيضاً بأن قوله تعالى: "لَوْ يطيعكم" بدل "أطاعكم" إشارة إلى أنهم كانوا يريدون استمرار تلك الحالة ودوام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على العمل باستصوابهم لكن يكون ما بعدها على خلاف ما قبلها. وههنا كذلك ,وإن لم يحصل المخالفة بصريح اللفظ؛ لأن اختلاف المخاطبين في الوصف يدلنا على ذلك، لأن المخاطبين أولاً بقوله: "لَوْ يُطِيعُكُمْ" هم الذي أرادوا أن يكون عملهم لمراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا ما قاله الزمخشري، واختاره وهو حسن قال: والذي يَجُوز أنْ يقال وكأنه هو الأقوى أن الله تعالى قال: إِن جَآءَكُمْ فاسق بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا واكشفوا. (ثم) قال بعده: { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ } أي الكشف سهل عليكم بالرجوع إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه فيكم مبيِّن مُرْشد، وهذا كما يقول القائل عند اختلاف تلاميذ الشيخ في مسألة: هذا الشَّيْخُ قاَعِدُ، لا يريد به بيان قعوده وإنما يريد أمرهم بمراجعته؛ لأن المراد لا يطيعكم في كثير من الأمر، وذلك لأن الشيخ إذا كان يعتمد على قول التلاميذ لا يطمئن قلوبهم بالرجوع إليه وإن كان لا يذكر إلا للنقل الصحيح وتقريره بالدليل القوي يراجعه كل أحد فكذلك ههنا فاسترشدوه فإنه يعلم ولا يطيع أحداً فلا يوجد فيه حيف ولا يروج عليه زيف. والذي يدل عليه أن المراد من قوله: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّم لبيان امتناع الشرط لامتناع الجزاء، كما في قوله تعالى:
{ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء:22] وقوله: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } [النساء:82] وذلك يدل على أنه ليس فيهما آلهة وأنه ليس من عند غير الله.
قوله: { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلأِيمَانَ } هذا استدراك من حيث المعنى لا من حيث اللفظ لأن من حبب إليه الإيمان غايرت صفتُهُ صفة من تقدَّم ذِكْرُهُ.
فصل
{ حبب إليكم الإيمان } فجعله أحبّ الأديان إليكم "وزَّيَّنَهُ" حسنه "فِي قُلُوبِكُمْ" حتى اخترتموه { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ } قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ يريد الكذب "والعِصْيَانَ" جميع مَعَاصِي الله. ثم عاد من الخطاب إلى الخبر فقال: { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلرَّاشِدُونَ }.
فصل
قال ابن الخطيب: بعد ذكره الكلام المتقدم: وهذا معنى الآية جملةً فلنذكْره تفصيلاً في مسائل:
المسألة الأولى: لو قال قائل: إذا كان المراد بقوله: { واعلموا أن فيكم رسول الله } الرجوع إليه فلم لم يصرح بقوله: "فَتَبَيَّنُوا" وراجعوا النبِيَّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ؟ وما الفائِدة في العدول إلى هذا المجاز؟ نقول: فائدته زيادته التأكيد لأنَّ قول القائل في المثال المتقدم: هذا الشيخ قائد آكد في وجوب المراجعة من قوله: رَاجعُوا شَيْخَكُم؛ لأن القائل يجعل وجوب مراجعته متفقاً عليه ويجعل سبب عدم الرجوع عدم علمهم بقعوده فكأنه يقول: إنكم لا تشكون في أن الكاشف هو الشيخ وأن الواجب مراجعته، لكنكم لا تعلمون قعوده، فهو قاعد فيجعل المراجعة أظهر من القعود، لأنه يقول خفي عنكم قعوده فتركتم مراجته ولا يخفى عليكم حسنُ مراجعته فيجعل حسن المراجعة أظهر من الأمر الخفي بخلاف ما لو قال: راجعوه، لأنه حينئذ يكون قائلاً بأنكم ما علمتم أن مراجعته هو الطريق. وبين الكلامين يَوْنٌ بعيد فكذلك قوله تعالى: { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ } فجعل حُسْنَ مراجعته أظهر من كونه فيهم حيث ترك بيانه وأخذ في بيان كونه فيهم. وهذا من المعاني العزيزة التي توجد في المجازات ولا توجد في الصَّرَائِحِ.
فإن قيل: إذا كان المراد من قوله: "لَوْ يُطِيعُكُمْ" بيان كونه غير مطيع لأحد بل هو ممتنع للوحي فلِمَ لَمْ يصرِّحْ به؟.
نقول: بيان نفي الشيء مع بيان ذلك النفي أتمُّ من بيانه من غير دلِيل، والجملة الشرطية بيان للنفي مع بيان دليله وأن قوله: "ليس فيهما آلهة" لو قال قائل: لم قلت إنه ليس فيهما آلهة بحيث أن يذكر الدليل فيقال: لو كان فيهما آلهة إلا الله لَفَسَدَتَا فكذلك ههنا لو قال: لا يطيعكم لقائل قائل: لِمَا لاَ يُطِيعُ؟ فوجب أن يقال: لو أطاعكم لأطاعكم لأجل قلتكم ومصلحة أبصاركم لكن لا مصلحة لكم فيه لأنكم تَعْنَتُون وتَأْثَمُونَ وهو يشقُّ عليه عَنَتُكم كما قال:
{ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } [التوبة:128] فإذا أطاعكم لا يفيده شيئاً فلا يطيعكم فهذا نفي الطاعة بالدليل. وبين نفي الشيء بدليل ونفيه من غير دليل فَرقٌ عظيم.
واعلم أن في قوله: { فِي كَثِيرٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ } ليعلم أنه قد يوافقهم ويفعل بمقتضى مصلحتهم تحقيقاً لقوله:
{ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْرِ } [آل عمران:159].
فإن قيل: إذا كان المراد بقوله تعالى: { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ } فلا تتوقفوا فلمَ لم يصرح به؟.
قلنا: لما بيناه من الإشارة إلى ظهور الأمر يعني أنتم تعلمون أن اليقين لا يتوقف فيه، إذا ليس بعده مرتبة حتى يتوقف إلى بلوغ الأَمْر إلى تلك المرتبة، بخلاف الشك، فإنه يتوقف إلى بلوغ الأمر إلى درجة الظنّ، ثم الظن يتوقف إلى اليقين فلما كان عدم التوقف في النفس معلوماً متفقاً عليه لم يقل: فلا تتوقفوا بل قال: حَبَّب إليكم الإيمان أَي بَيَّنَهُ وزَيَّنهُ بالبُرْهَانِ النَّقيّ.
فصل
قال ابن الخطيب: معنى حبب إليكم أن قرَّبَهُ إليكم وأدخله في قلوبكم، ثم زينه فِيهَا بحيث لا تفارقونه ولا يخرج من قلوبكم وذلك لأن من يُحِبّ شيئاً فقد يسأم منه لطول ملازمته والإيمان كل يوم يزداد حُسْناً لكل من كانت عبادته أكثر وتحمّله مشاق التكليف أتم تكون العبادة والتكاليف عنده ألذ وأكمل ولهذا قال أولاً: حبب إليكم الإيمان، وقال ثانياً: وزينه في قلوبكم كأنه قرب إليهم ثم أقامه في قلوبهم.
قوله: { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ } قال ابن الخطيب: هذه الأمُور الثلاث في مقابلة الإيمان الكامل؛ لأن الإيمان المزين هو التصديق بالجِنَان. وأما الفسوق فقيل: هو الكذب كما تقدم عن ابن عباس وقال تعالى: { إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ } فسمى الكاذب فاسقاً وقال تعالى:
{ بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ } [الحجرات:11], وقيل الفسوق الخروج عن الطاعة لقولهم: فسقت الرُّطَبَةُ إِذَا خَرَجَتْ. وأما العصيان فهو ترك المأمور به. وقال بعضهم: الكفر ظاهر، والفسوق هو الكبيرة والعِصْيَانُ هو الصغيرة.
قوله: "فَضْلاً" يجوز أن ينتصب على المفعول من أجله. وفيما ينصبه وجهان:
أحدهما: قوله: { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ } وعلى هذا فما بينهما اعتراض من قوله: { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلرَّاشِدُونَ }.
والثاني: أنه الفعل الذي فوي قوله "الرّاشدون". وعلى هذا يقال: فكيف جاز أن يكون فضل الله الذي هو فعل الله مفعولاً له بالنسبة إلى الرشد الذي هو فعل العبد فاختلف الفاعل، لأن فاعَل الرُّشْدِ غير فاعل الفَضْل؟. وأجاب الزمخشري: بأن الرشد لما كان توفيقاً من الله تعالى كان فعل الله وكأنه تعالى أرشدهم فضلاً أي يكون متفضِّلاً عليه، منعماً في حقهم، لأن الرشد عبارة عن التحبب والتَّزْيين والتكريه. وجوز أيضاً أن ينتصب بفعل مقدر، أي جرى ذلك وكان ذلك فضلاً من الله. قال أبو حيان: وليس من مواضع إضمار كان، وجعل كلامه الأول اعتزالاً. وليس كذلك لأنه أراد الفعل المسند إلى فاعله لفظاً وإلا فالتحقيق أن الأفعالَ كلها مخلوقة لله تعالى وإنْ كان الزمخشري غَيْرَ موافقٍ عَلَيْه.
ويجوز أن ينتصب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة، لأنها فضل إيضاً، إلا أنَّ ابن عطية جعله من المصدر المؤكد لنفسه. وجوز الحَوْفِيُّ أن ينتصب على الحال وليس بظاهر ويكون التقدير متفضلاً منعماً أو ذا فضل ونعمة قال ابن الخطيب: ويجوز أن يكون فضلاً مفعولاً به والفعل مضمراً دل عليه قوله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلرَّاشِدُونَ } وهم يبتغون فضلاً من الله ونعمة، قال: لأن قوله: فضلاً من الله إشارة إلى ما هو من جانب الله المغني. والنعمة إشارة إلى ما هو من جانب العبد من اندفاع الحاجة. وهذا يؤكد قولنا: أن ينتصب "فضلاً" بفعل مضمر وهو الابتغاء والطَّلَبُ.
ثم قال: { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } وفيه مناسبات:
منها: أنه تعالى لما ذكر نبأ الفاسق قال: فلا يعتمد على تَرْوِيجِهِ عليكم الزُّورَ فإن الله عليم، ولا يقل كقوله المنافق: { لَوْلاَ يَعَذِّبُنَا اللهُ بِمَا نَقُولُ } فإن الله حكيم لا يفعل إلا على وَفْق حكمته.
وثانيها: لما قال تعالى: { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ } بمعنى لا يطيعكم بل يتبع الوحي "فإن الله عليم" يعلم من يكذبه "حكيمٌ" بأمره بما تقتضيه الحكمة.