خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ
١٠١
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ
١٠٢
-المائدة

اللباب في علوم الكتاب

في اتِّصال [هذه الآية] بما قَبْلَها وجوه:
أحدها: أنَّه تعالى لمَّا قال
{ { مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [المائدة: 99] كأنَّه قال: ما بلَّغَهُ الرَّسُول إلَيْكُم، فَخُذُوهُ وكونوا مُنْقَادِين لَهُ، وما لم يُبَلِّغْهُ إليكم، فلا تسْألوا عنه، ولا تخُوضُوا فيه، فإنَّكُم إنْ خضتم فيما لا تكليف فيه عَلَيْكم، فربَّما جَاءَكُمْ بسبب ذلك الخَوْضِ من التَّكْلِيف ما يَثْقُل عليْكم ويَشُقُّ.
وثانيها: أنَّه تعالى لما قال
{ { مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [المائدة: 99] وهذا ادعَاءٌ منهُ للرِّسالةِ، ثُمَّ الكُفَّار كانوا يُطالِبُونَهُ بعدَ ظُهُورِ المُعْجِزَاتِ بمُعْجِزاتٍ أُخَر على سبيلِ التَّعَنُّتِ، كما حَكَى عَنْهُم قولهمُ: { { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُر لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً } [الإسراء: 90]، إلى قوله: { { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً } [الإسراء: 93]، والمعنى: أنِّي رسولٌ أمِرْتُ بتبْليغِ الشَّرائِعِ والأحْكَام إلَيْكُم، واللَّه تعالى قد أقامَ الدلالة على صِحَّةِ دعْوَى الرِّسالة بإظْهَارِ أنواعٍ كثيرةٍ من المُعْجِزَات، وطلبُ الزِّيادة بَعْدَ ذلك من بابِ التَّعَنُّتِ، وذلك لَيْس في وُسْعِي، ولعلَّ إظْهَارَها يوجبُ ما يَسُوؤكُم، مثل أنَّها لو ظَهَرَتْ فكُلُّ من خالفَ بعد ذلك، اسْتَوْجَبَ العِقَابَ في الدُّنيا، ثُمَّ إنَّ المُسْلمِينَ لمَّا سَمِعُوا مُطالبَةَ الكُفَّار للرَّسُولِ بهذه المُعْجِزَاتِ، وقع في قُلوبِهِم مَيْلٌ إلى ظُهُورها، فَعَرفُوا في هذه الآية أنَّهم لا يَنْبَغِي أن يُطالِبُوا ذلك، فربما كان ظُهُورها يُوجبُ ما يَسُوؤهُم.
وثالثها: أنَّ هذا مُتَّصِلٌ بقوله:
{ { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } [المائدة: 99]، فاتركُوا الأمُورَ على ظَوَاهِرِهَا، ولا تَسْألُوا عن أحْوال مُخِيفَةٍ إنْ تُبْدَ لَكُم تَسُؤكُمْ.
قوله تعالى: "عَنْ أشْيَاءَ": متعلق بـ "تَسْألُوا". واختلف النحويُّون في "أشْيَاء" على خمسة مذاهب:
أحدها - وهو رأي الخليل وسيبويه والمازنيِّ وجمهور البصريين -: أنها اسمُ جمعٍ من لفظ "شَيْء"، فهي مفردةٌ لفظاً جمعٌ معنًى؛ كـ "طَرْفَاء"، و"قَصْبَاء"، وأصلها: "شَيْئاء" بهمزتين بينهما ألفٌ، ووزنها فعلاء؛ كـ "طَرْفَاء"، فاستثقلوا اجتماع همزتين بينهما ألفٌ، لا سيما وقد سبقها حرفُ علَّة، وهي الياءُ، وكَثُر دورُ هذه اللفظةِ في لسانهم، فقلبوا الكلمةَ بأنْ قَدَّمُوا لامَها، وهي الهمزةُ الأولى على فائها، وهي الشين؛ فقالوا "أشْيَاء" فصارَ وزنُها "لَفْعَاء"، ومُنِعَتْ من الصرف؛ لألف التأنيث الممدودة، ورُجِّح هذا المذهبُ بأنه لم يلزمْ منه شيءٌ غيرُ القَلْب، والقلبُ في لسانهم كثيرٌ كـ "الجَاهِ، والحَادِي، والقسيِّ، وناءَ، وآدُرٍ، وآرَامٍ، وضِئَاء في قراءة قُنْبُل، وأيِسَ"، والأصل: "وَجهٌ، وواحِدٌ، وقُووسٌ، ونَأى، وأدْوُرٌ، وأرَامٌ، وضِيَاء، ويَئِسَ"، واعترضَ بعضُهم على هذا بأن القلْبَ على خلافِ الأصْلِ، وأنه لم يَرِدْ إلا ضرورةً، أو في قليلٍ من الكلام، وهذا مردودٌ بما قدَّمْتُه من الأمثلةِ، ونحن لا نُنْكِرُ أنَّ القلبَ غير مُطَّردٍ؛ وأما الشاذُّ القليلُ، فنحو قولهم: "رَعَمْلِي" في "لَعَمْرِي"، و"شَوَاعِي" في "شَوَائع"؛ قال: [الكامل]

2055- وكَأنَّ أوْلاَهَا كِعَابُ مُقَامِرٍ ضُرِبَتْ على شُزُنٍ فَهُنَّ شَوَاعِي

[يريد شَوَائِع].
وأمَّا المذاهبُ الآتية، فإنه يَرِدُ عليها إشكالاتٌ، هذا المذهبُ سالمٌ منها؛ فلذلك اعتبره الجُمْهُور دون غيره.
وقال ابنُ الخطيبِ: منعَ الصَّرْفُ لثلاثة أوجهٍ:
أحدها: ما تقدَّم، وهو أنَّ هذه الكلمةَ لمَّا كانَتْ في الأصْلِ على وزن "فَعْلاء" مثل "حَمْرَاء"، فلم يتَصَرَّفْ كَحَمْرَاء.
وثانيها: لمَّا كانَتْ في الأصْل "شيآء"، ثُمَّ جُعِلَت أشْيَاء مَنَعَ ذَلِكَ الصَّرْف.
وثالثها: أنَّا لمَّا قَطَعْنَا الحَرْفَ الأخِيرَ منهُ، وجَعَلْنَاهُ أوَّلَه، والكَلِمَةُ إذا قُطِع منها الحرْفُ الأخيرُ صارت كنصْفِ كَلِمَة، ونِصْفُ الكلمةِ لا تَقْبَلُ الإعراب، ومن حيث إنَّ ذلك الحَرْفَ الذي قَطَعْنَاهُ، لم نحذِفْهُ بالكُلِّيَّة، بل ألصَقْنَاهُ بأوَّلِ الكَلِمَةِ، فَكَأنَّها بَاقِيَةٌ بِتَمامِهَا، فلا جرم مَنَعْنَاهُ في بَعْضِ وُجُوه الإعراب دون البَعْض.
الثاني - وبه قال الفراء -: أن "أشْيَاء" جمع لـ "شَيْء"، والأصل في "شَيْء": "شَيِّئ" على "فَيْعلٍ" كـ "لَيِّن"، ثم خُفِّفَ إلى "شَيْء"؛ كما خففوا لَيناً، وهَيِّناً، وميِّتاً إلى لَيْنٍ، وهيْنٍ، وميْتٍ، ثم جمعه بعد تخفيفه، وأصله "أشْيِئَاء" بهمزتين بينهما ألفٌ بعد ياءٍ بزنة "أفْعِلاء"، فاجتمع همزتان: لامُ الكلمة والتي للتأنيث، والألف تشبهُ الهمزة والجَمْعُ ثقيلٌ، فخَفَّفُوا الكلمة؛ بأن قلبوا الهمزة الأولى ياءً؛ لانكسار ما قبلها، فيجتمع ياءان، أولاهما مكسورةٌ، فحذفوا الياء التي هي عينُ الكلمة تخفيفاً، فصارت "أشْيَاء"، ووزنها الآن بعد الحذف "أفْلاء" فمَنْعُ الصرف؛ لأجْلِ ألفِ التأنيثِ، وهذه طريقةُ بعضهم في تَصْريف هذا المذهب؛ كمكي بن ابي طالب، وقال بعضهم كأبي البقاء: لمَّا صارت إلى أشْيِئَاء، حُذِفَتِ الهمزة الثانيةُ التي هي لام الكلمة؛ لأنَّها بها حصل الثِّقَلُ، وفُتِحَتِ الياءُ المكسورةُ؛ لتسلمَ ألف الجَمْعِ، فصار وزنُها: أفْعَاء.
المذهب الثالث - وبه قال الأخفش -: أنَّ أشْياء جمعُ "شَيْءٍ" [بزنة فَلْسٍ، أي: ليس مخفَّفاً من "شَيِّىء"، كما يقوله الفرَّاء، بل جمع "شَيْء"]، وقال: إنَّ فَعْلاً يجمعُ على أفْعِلاَء، فصار أشْيِئَاء بهمزتَيْنِ بينهما ألفٌ بعد ياء، ثم عُمِلَ فيه ما عُمِلَ في مذْهَب الفرَّاء، والطريقانِ المذْكُوران عن مَكِّيٍّ وأبي البقاء في تصريف هذا المذهب جاريان هنا، وأكثر المصنِّفين يذكرون مذهب الفرَّاء عنه وعن الأخفش، قال مكي: "وقال الفرَّاء والأخفش؛ والزياديُّ: "أشْيَاء" وزنها "أفْعِلاء"، وأصلها "أشْيِئَاء"؛ كـ "هَيِّنٍ وأهْوِنَاء"، لكنه خُفِّفَ". ثم ذكر تصريفَ الكلمةِ إلى آخره، وقال أبو البقاء: "وقال الأخفشُ والفراء: أصلُ الكلمةِ "شَيِّىء" مثل "هَيِّنٍ"، ثم خُفِّف بالحذف"، وذكر التصريف إلى آخره، فهؤلاء نقلوا مذهبهما شيئاً واحداً، والحقُّ ما ذكرته عنهُما؛ ويدلُّ على ما قلته ما قاله الواحديُّ؛ فإنه قال: "وذهبَ الفرَّاء في هذ الحرف مذهب الأخفش"، غير أنه خلطَ حين ادَّعى أنها كهَيْنٍ وليْنٍ حين جمعا على أهْوِنَاء وألْيِنَاء، وهَيْنٍ تخفيف "هَيِّن"؛ فلذلك جاز جمعه على أفْعِلاء، وشَيْء ليس مخفَّفاً من "شَيِّىء" حتى يُجْمَعَ على أفْعِلاء، وهذان المذهَبَان - أعني مذهب الفراء والأخفشِ - وإن سَلِمَا من منع الصَّرْف بغير علَّة، فقد ردَّهُمَا الناس، قال الزجَّاج: "وهذا القَوْلُ غَلَطٌ؛ لأنَّ "شَيئاً" فعلٌ، وفعلٌ لا يجمعُ على أفْعِلاء، فأما هَيِّنٌ وليِّنٌ، فأصلُه: هَيِينٌ ولَيِينٌ، فجُمِعَ على أفعلاء، كما يُجْمَعُ فَعِيلٌ على أفعلاء؛ مثل: نَصِيب وأنْصِبَاء" قال شهاب الدين: وهذا غريبٌ جدًّا، أعني كونه جعل أنَّ أصلَ "هيِّن"هَيِين" بزنة فعيلٍ، وكذا ليِّنٌ ولَيِينٌ، ولذلك صرح بتشبيههما بنصيبٍ، والناسُ يقولون: إنَّ هَيِّناً أصله هَيْونٌ، كميِّتٍ أصله مَيْوتٌ، ثم أعِلَّ الإعلال المعروف، وأصل ليِّنٍ: لَيْينٌ بياءين، الأولى ساكنة والثانية مكسورةٌ، فأدغمتِ الأولى، والاشتقاقُ يساعدُهم؛ فإن الهيِّنَ من هانَ يَهُونُ، ولأنَّهم حين جمعوه على أفعلاء أظْهَرُوا الواو، فقالوا: أهْوِنَاء. وقال الزجَّاج: "إنَّ المازنيَّ ناظر الأخفش في هذه المسألة، فقال له: كيف تُصَغِّرُ أشْيَاء؟ قال: أقول فيها أُشيَّاء. فقال المازنيُّ: لو كانت أفعالاً، لرُدَّتْ في التصغير إلى واحدهَا، وقيل: شُيَيْئَات، مثل شُعَيْعات، وإجماعُ البصريِّين أن تصغير "أصدقَاء" إن كان لمؤنث "صُدَيِّقَات"، وإن كان لمذكر: "صُدَيقُونَ" فانقطع الأخْفَشُ"، وبَسْطُ هذا أنَّ الجمع المُكَسَّرَ، إذا صُغِّرَ: فإمَّا أن يكون من جموع القلَّة، وهي أربعٌ على الصحيح: أفْعِلَةٌ وأفْعُل وأفْعَالٌ وفِعْلَةٌ، فيُصَغَّرُ على لفظه، وإن كان من جموع الكثرة فلا يُصغَّر على لفظه على الصحيح، وإنْ وردَ منه شيءٌ، عُدَّ شَاذًّا كـ "أصَيْلان" تصغير "أصْلاَن" جمع "أصيل"، بل يُرَدُّ إلى واحده؛ فإن كان من غير العقلاء، صُغِّرَ وجُمِعَ بالألف والتاء، فتقول في تصغير حُمُرٍ جمع حِمارٍ: "حُمَيْرات"، وإن كان من العقلاء صُغِّرَ وجمع بالواو والنون، فتقول في تصغير "رِجَال": "رُجَيْلُونَ"، وإن كان اسم جمعٍ كـ "قَوْم" و"رَهْط" أو اسم جنسٍ، كـ "قَمَر" و"شَجَر" صُغِّر على لفظه كسائر المفردات، رجعنا إلى "أشْيَاء"، فتصغيرُهم لها على لفظها يَدُلُّ على أنها اسمُ جمع؛ لأنَّ اسم الجمع يُصَغَّر على لفظه، نحو: "رُهَيْط" و"قُوَيْم"، وليس بجمعِ تكسيرٍ؛ إذ هي من جموعِ الكثرة، ولم تُرَدَّ إلى واحدها، وهذا لازمٌ للأخفشِ؛ لأنه بصريٌّ، والبصريُّ لا بدَّ وأن يفعل ذلك، وأصَيْلان عنده شاذٌ، فلا يقاسُ عليه، وفي عبارة مَكِّيٍّ قال: "وأيضاً فإنه يلزمُهُم أن يُصَغِّروا "أشْيَاء" على "شُوَيَّات"، أو على "شُيَيْئَات"، وذلك لم يَقُلْه أحد". قال شهاب الدين: قوله "شُوَيَّات" ليس بجيِّد؛ فإن هذا ليس موضع قلب الياء واواً، ألا ترى أنك إذا صغَّرْتَ بيتاً، قلت: بُيَيْتاً لا بُوَيْتاً، إلاَّ أنّ الكوفيِّين يُجيزُونَ ذلك، فيمكنُ أن يُرَى رأيهم، وقد ردَّ مكيٌّ أيضاً مذهب الفراء والأخفش بشيئين:
أحدهما: أنه يلزمُ منه عدمُ النظير؛ إذ لم يقع "أفْعِلاء" جمعاً لـ "فَيْعِل" فيكون هذا نظيرهُ، وهَيِّن وأهْوِنَاء شاذٌّ لا يقاس عليه.
والثاني: أن حذفه واعتلاله مُجْرى على غير قياسٍ، فهذا القولُ خارجٌ في جمعه واعتلاله عن القياس والسَّماع.
المذهب الرابع - وهو قول الكسائي وأبي حاتم -: أنها جمعُ شيءٍ على أفعالٍ كـ "بَيْتٍ" و"أبْيَاتٍ" و"ضَيْفٍ" و"أضْيَافٍ"، واعترض الناس هذا القول؛ بأنه يلزم منه منعُ الصرفِ بغير علته؛ إذ لو كان على "أفْعَال"، لانصرفَ كأبْيَاتٍ، قال الزجَّاج "أجمع البصريُّون وأكثر الكوفيِّين على أن قول الكسائيِّ خطأٌ، وألزموه ألاَّ يصرفَ أنْبَاء وأسْمَاء". قال شهاب الدين: والكسائيُّ قد استشعر بهذا الردِّ، فاعتذر عنه، ولكن بما لا يُقْبَلُ، قال الكسائيُّ -رحمه الله -: "هي - أي أشياء - على وزن أفعالٍ، ولكنها كَثُرَتْ في الكلام، فأشبهَتْ فعلاء، فلم تُصْرَف كما لم يُصْرَفْ حَمْرَاء"، قال: "وجَمَعُوهَا أشَاوَى، كما جمعوا عذرَاء وعَذارَى، وصَحْرَاء وصَحَارى، وأشْيَاوَات كما قيل حَمْرَاوَات"، يعني أنهم عاملوا "أشْيَاء"، وإن كانت على أفعالٍ معاملةَ حَمْرَاء وعَذْرَاء في جمعي التكسير والتصحيح، إلا أن الفرَّاء والزجَّاج اعترضا على هذا الاعتذار، فقال الفرَّاء: "لو كان كما قال، لكان أملكَ الوجهين أنْ تُجْرَى؛ لأن الحرْفَ إذا كَثُرَ في الكلام، خَفَّ وجاز أن يُجْرَى كما كَثُرَتِ التسميةُ بـ "يَزِيدَ"، وأجروه في النَّكرة، وفيه ياءٌ زائدةٌ تَمْنَعُ من الإجراء". والمراد بالإجراء الصرْفُ، وقال الزجَّاج: "أجمع البصريون وأكثر الكوفيِّين" وقد تقدَّم آنفاً، وقال مكي: وقال الكسائيُّ وأبو عُبَيْد: لم تَنْصَرِفْ - أي أشياء -؛ لأنها أشبهت "حَمْرَاء"؛ لأن العرب تقول: "أشْيَاوَات" كما تقول: "حَمْرَاوَات" قال: "ويلزمُهما ألاَّ يَصْرِفَا في الجمْعِ أسْمَاء وأبْنَاء لقول العرب فيهما: أسْمَاوَات وأبْنَاوَات"، وقد تقدَّم شرح هذا، ثم إنَّ مَكِّيًّا -رحمه الله - بعد أن ذكر عن الكسائيِّ ما تقدَّم، ونقل مذهب الأخفشِ والفرَّاء، قال: "قال أبو حاتم: أشياء أفعال جمع شَيءٍ كأبياتٍ" فهذا يُوهِمُ أن مذهب الكسائيِّ المتقدِّمَ غيرُ هذا المذهب، وليس كذلك، بل هو هو، وقد أجاب بعضهم عن الكسائيِّ بأن النحويِّين قد اعتبروا في باب ما لا يَنصرِفُ الشبه اللفظيَّ، دون المعنويَّ، يَدُلُّ على ذلك مسألةُ "سَراويلَ" في لغةِ مَنْ يمنعُه؛ فإنَّ فيه تأويليْن: أحدهما: أنه مفردٌ أعجميٌّ، حُمِلَ على مُوازنِهِ في العربيَّة، أي صيغة مصابيح مثلاً؛ ويدُلُّ له أيضاً أنهم أجروا ألف الإلحاقِ المقْصُورة مُجْرَى ألف التأنيث المقْصُورة، ولكن مع العلميَّة، فاعتبروا مُجَرَّدَ الصُّورة.
المذهب الخامس: أنَّ وزنها "أفْعِلاء" أيضاً جَمْعاً لـ "شَييءٍ" بزنة "ظَرِيفٍ"، وفعيلٌ يجمع على أفْعِلاء، كـ "نَصِيبٍ وأنْصِبَاء"، و"صَديقٍ وأصْدِقَاء"، ثم حُذِفت الهمزة الأولى التي هي لامُ الكلمة، وفُتحتِ الياءُ؛ لتسلمَ ألفُ الجمع؛ فصارت أشياء، ووزنُها بعد الحذف أفْعَاء، وجعله مَكِّيٌّ في التصريف كتصريف [مذهب] الأخفشِ؛ من حيث إنه تُبْدَلُ الهمزة ياءً، ثم تُحْذفُ إحدى الياءين، قال -رحمه الله -: "وحَسَّنَ الحذفَ في الجمع حَذْفُها في الواحد، وإنما حُذِفَتْ من الواحد؛ تخفيفاً لكثرة الاستعمال؛ إذ "شَيْء" يقعُ على كل مُسَمًّى من عرضٍ، أو جوهرٍ، أو جسمٍ، فلم ينصرفْ لهمزةِ التأنيثِ في الجمع"، قال: "وهذا قولٌ حسنٌ جارٍ في الجَمْعِ، وتُرِكَ الصرفُ على القياس، لولا أنَّ التصغير يعترضُهُ، كما اعترض الأخْفَش". قال شهاب الدين: قوله "هذا قول حسن"، فيه نظر؛ لكثرة ما يَرِدُ عليه، وهو ظاهر ممَّا تقدَّم، ولمَّا ذكر أبو حيان هذا المذهب، قال في تصريفه: "ثمَّ حذفتِ الهمزة الأولى، وفتحت ياءُ المدِّ؛ لكون ما بعدها ألفاً"، قال: وَزْنُهَا في هذا القولِ إلى "أفْيَاء"، وفي القول قبله إلى "أفْلاء"، كذا رأيته "أفْيَاء"، بالياء، وهذا غلطٌ فاحشٌ، ثم إنِّي جوَّزتُ أن يكون هذا غلطاً عليه من الكاتبِ، وإنما كانت "أفْعَاء" بالعين، فصحَّفها الكاتب إلى "أفْيَاء"، وقد ردَّ الناس هذا القول: بأنَّ أصل شَيْء: "شَيِيءٌ" بزنة "صديقٍ" دعوى من غير دليل، وبأنه كان ينبغي ألاَّ يُصَغَّر على لفظه، بل يُرَدُّ إلى مفرده؛ كما تقدم تحريره.
وقد تلخص القول في "أشْيَاء": أنها هَلْ هي اسمُ جمعٍ، وأصلها "شَيْئَاء"؛ كطَرْفَاء، ثم قُلِبت لامُها قبل فائِها، فصار وزنُها "لَفْعَاء" أو جمعٌ صريحٌ؟ وإذا قيل بأنها جمعٌ صريحٌ، فهل أصلها "أفْعِلاء" ثم تحذفُ، فتصير إلى "أفْعَاء" أو "أفْلاَء"، أو أنَّ وزنها "أفْعَال"؛ كأبْيَات.
قوله تعالى: "إنْ تُبْدَ" شرط، وجوابه "تَسُؤكُمْ"، وهذه الجملة الشرطية في محلِّ جرِّ صفةً لـ "أشْيَاء"، وكذا الشرطيَّة المعطوفة أيضاً، وقرأ ابن عبَّاس: "إنَّ تَبْدُ لَكُمْ تَسُؤكُمْ" ببناء الفعليْنِ للفاعلِ، مع كون حرف المضارعةِ تاءً مثنَّاةً من فوقُ، والفاعل ضميرُ "أشْياء"، وقرأ الشعبي - فيما نقله عنه أبو محمَّد بن عطيَّة: "إنْ يَبْدُ" بفتح الياء من تحتُ، وضم الدال، "يَسُؤكُمْ" بفتح الياء من تحتُ، والفاعل ضميرٌ عائدٌ على ما يليق تقديره بالمعنى، أي: إنْ يَبْدُ لكُمْ جوابُ سؤالكُمْ أو سُؤلُكُمْ، يَسُؤكُمْ، ولا جائزٌ أن تعود على "أشْيَاء"؛ لأنه جارٍ مجرَى المؤنَّث المجازيِّ، ومتى أسند فعلٌ إلى ضمير مؤنَّثٍ مطلقاً، وجبَ لَحَاقُ العلامة على الصحيح، ولا يُلتفتُ لضرورة الشعر، ونقل غيره عن الشعبيِّ؛ أنه قرأ: "يُبْدَ لَكُمْ يَسُؤكُمْ" بالياء من تحت فيهما، إلا أنه ضمَّ الياء الأولى وفتح الثانية، والمعنى: إن يُبْدَ - أي يُظْهَر - السؤالُ عَنْهَا، يَسُؤكُمْ ذلك السُّؤالُ، أي: جوابُهُ، أو هُوَ؛ لأنه سببٌ في ذلك والمُبْدِيه هو اللَّهُ تعالى، والضميرُ في "عَنْهَا" يحتمل أن يعود على نوعِ الأشياءِ المنهِيِّ عنها، لا عليها أنفسها، قاله ابن عطيَّة، ونقله الواحديُّ عن صاحب "النَّظمِ"، ونظَّرهُ بقوله تعالى:
{ { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [المؤمنون: 12] يعني آدم، "ثُمَّ جعلْنَاهُ" قال "يعني ابنَ آدَمَ" فعاد الضميرُ على ما دلَّ عليه الأول، ويحتملُ أن يعود عليها أنْفُسِها، قاله الزمخشريُّ بمعناه.
قوله: { حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْآنُ } في هذا الظرفِ احتمالان:
أظهرهما: أنه منصوبٌ بـ "تسْألُوا"، قال الزمخشريُّ: "وإنْ تَسْألُوا عنها: عن هذه التكاليفِ الصعبةِ، حين يُنَزَّلُ القرآنُ: في زمانِ الوحي، وهو ما دام الرسولُ بين أظْهُرِكُمْ يُوحَى إليه تَبْدُ لكم تلك التكاليفُ التي تَسُؤكُمْ وتُؤمَرُوا بتحمُّلِها، فَتُعَرِّضُوا أنفسكُمْ لِغَضَبِ اللَّهِ؛ لتفريطكم فيها"، ومن هنا قلنا: إنَّ الضمير في "عَنْهَا" عائدٌ على الأشياءِ الأولِ، لا على نوعها.
والثاني: أنَّ الظرف منصوبٌ بـ "تُبْدَ لَكُمْ"، أي: تَظْهَرْ لكم تلك الأشياءُ حين نُزُولِ القرآنِ، قال بعضهم: "في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ؛ لأنَّ التقدير: عن أشياءَ، إنْ تُسْألوا عَنْهَا، تُبْدَ لكم حين نُزولِ القرآنِ، وإن تُبْدَ لَكُمْ، تَسُؤكُمْ"، ولا شك أن المعنى على هذا الترتيب، لا أنه لا يقالُ في ذلك تقديمٌ وتأخيرٌ، فإنَّ الواو لا تقتضي ترتيباً، فلا فرق، ولكن إنما قُدِّم هذا أولاً على قوله: "وإنْ تَسْألُوا"؛ لفائدةٍ، وهي الزجرُ عن السؤالِ؛ فإنه قدَّم لهم أنَّ سؤالهم عن أشياء متى ظهرتْ، أساءتهم قبل أن يُخْبِرَهم بأنهم إنْ سألُوا عنها، بدتْ لهم لينزجرُوا، وهو معنًى لائقٌ.
قوله: { عَفَا الله عَنْهَا } فيه وجهان:
أحدهما: أنه في محلِّ جرٍّ؛ لأنه صفةٌ أخرى لـ "أشياء"، والضميرُ على هذا في "عَنْهَا" يعود على "أشْيَاء"، ولا حاجة إلى ادِّعاء التقديم والتأخيرِ في هذا؛ كما قاله بعضهم، قال: "تقديرُه: لا تَسْألُوا عن أشْيَاءَ عفا الله عَنْهَا إنْ تُبْدَ لَكُمْ إلى آخر الآية"؛ لأنَّ كلاًّ من الجملتين الشرطيَتَيْنِ وهذه الجملة صفةٌ لـ "أشْيَاء"، فمِنْ أين أنَّ هذه الجملةَ مستحقةٌ للتقديمِ على ما قبلها؟ وكأنَّ هذا القائل إنَّما قدَّرَها متقدِّمةً؛ ليتضحَ أنها صفةٌ لا مستأنفةٌ.
والثاني: أنها لا محلَّ لها؛ لاستئنافها، والضميرُ في "عَنْهَا" على هذا يعودُ على المسألةِ المدُلولِ عليها بـ "لا تَسْألُوا"، ويجوزُ أنْ تعودَ على "أشْيَاء"، وإنْ كان في الوجه الأولِ يتعيَّن هذا؛ لضرورةِ الربطِ بين الصفةِ والموصوف.
فصل في سبب نزول الآية
في سببِ نزولِ الآية: ما روى [قتادة] عن أنسْ:
"سألوا رسُول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى أحفوه بالمسْئَلَةِ، فغضِبَ فصَعَد المِنْبَر، قال: لا تَسْألونِي اليَوْمَ عن شَيْءٍ إلاَّ بَيَّنْتُهُ لكم، فجعلتُ أنظر يميناً وشمالاً، فإذا كلّ رَجُل لاف رأسَهُ في ثوبِه يَبكِي، فإذا [رَجُلٌ] كان [إذا] لاقى الرِّجالَ يُدْعَى لغير أبيه، فقال: يا رسُول اللَّهِ، من أبِي؟ قال: حُذافَةُ، ثم أنشأ عُمر - رضي الله عنه - فقال: رضينا باللَّه رَبًّا وبالإسْلام ديناً، وبمُحَمَّدٍ رسُولاً، نعوذُ باللَّه من الفِتَنِ، فقال رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ما رأيتُ في الخَيْرِ والشَّرِّ كاليَوْمِ قَطّ، إنه صُوِّرتْ لي الجنَّةُ والنَّارُ حتَّى رَأيْتُهُمَا ورَاءَ الحَائِطِ" "وكان قتادةُ يَذْكُر عِنْدَ هذا الحديثِ هذه الآية.
وقال يونُسُ عن [ابن] شهابٍ: أخْبَرَنِي عُبَيْد الله بن عبد الله قال: قالتْ أمُّ عبد الله بن حُذافةَ لعبد الله بن حُذافَة: ما سمعت بابْن قَطُّ أعقَّ منك أأمنت أن تكُونَ أمُّكَ قد فارقت بعْضَ ما يُفارق نساء الجاهليَّةِ، فتَفْضَحَهَا على أعْيُنِ النَّاسِ؟ قال عبد الله بن حُذَافة: "واللَّهِ لَوْ ألْحَقَنِي بعبْدٍ أسْوَد [لَلَحِقْتُه]".
ورُوِيَ أنَّ عُمَر قال: "يا رسُول الله، أنا حَدِيثُ عَهْدٍ [بجاهلية]، فاعفُ عنَّا يَعْفُ اللَّهُ عَنْكَ، فسكَنَ غَضَبُهُ".
وروى ابْنُ عبَّاسٍ قال: كان قومٌ يَسْألُون رسُول الله صلى الله عليه وسلم استهْزَاءً، فيقول الرجل مَنْ أبِي؟ ويقولُ الرَّجُلُ تَضِلُّ نَاقَتُهُ أين نَاقَتِي؟ فأنْزَلَ اللَّهُ تعالى هذه الآية.
ورُوِيَ عن عَلِيٍّ بن أبِي طالبٍ - رضي الله عنه - قال: لمَّا نزلت
{ { وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } [آل عمران: 97]، قال سُرَاقَةُ بن مالكٍ:- "ويروى عكاشَةُ بن محصن - يا رسُول اللَّهِ أفي كُلِّ عامٍ؟ فأعْرَضَ عنهُ، فعاد مَرَّتَيْنِ أوْ ثلاثاً، فقال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا يُؤمنكَ أنْ أقُولَ: نَعَمْ، واللَّهِ لو قُلْتُ: نَعَمْ لوَجَبَتْ، وَلَو وَجَبَتْ ما استطعْتُم، فاتْركُوُنِي ما تَرَكْتُكُمْ، فإنَّمَا هَلَكَ مَنْ كان قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤالِهِم، واخْتِلافِهِم على أنْبِيَائِهم، فإذا أمَرْتُكُمْ بأمْرٍ فأتُوا مِنْهُ ما اسْتَطعْتُمْ، وإذا نَهَيْتُكُم عَنْ شيءٍ فَاجْتَنِبُوهُ" فأنْزَل اللَّهُ هذه الآية.
فإنَّ من سألَ عن الحَجِّ لَمْ يَأمَنْ أنْ يُؤمَرَ به في كُلِّ عامٍ فَيَسُوؤهُ، ومن سألَ عن نَسَبِهِ لمْ يَأمَنْ أن يُلْحِقَه بِغيرِهِ، فَيَفْتَضِحَ.
وقال مُجَاهِد: نزلت حين سَألُوا رسُول اللَّهَ صلى الله عليه وسلم عن البحيرةِ، والسَّائِبةِ، والوصِيلَةِ، والْحَامِ، ألا تَرَاهُ ذكرهَا بَعْدَ ذَلِكَ.
وكان عُبَيْد اللَّهِ بن عُمَيْر يقول: إنْ اللَّهَ إنْ أحَلَّ أحِلُّوا، وإن حرَّمَ اجْتَنِبُوا، ولو تَرَكَ بين ذلك أشياءَ لم يُحَلِّلْهَا ولمْ يُحَرِّمها، فذلك عَفْوٌ من اللَّهِ، ثمَّ يَتْلُو هذه الآية.
وقال أبُو ثَعْلَبَة الخشني: إنَّ اللَّه تعالى بيَّنَ في الآية الأولى فرضَ فرائِضَ فلا تُضَيِّعُوهَا، ونَهَى عن أشياء فلا تَنْتَهِكُوهَا، وحَدَّ حُدُوداً فلا تَعْتَدُوها، وعَفَا عن أشْيَاءَ من غير نِسْيَانٍ فلا تَبْحَثُوا عنها، ثم إنَّ تلك الأشياء التي سألُوا عنها ظهر لهم ما يسوؤهم.
وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -:
"إن من أعْظَمِ المُسْلِمين في المُسْلِمين جُرْماً، من سألَ عن شَيْءٍ لَمْ يُحرَّم فَحُرِّم من أجْلِ مَسْألَتِهِ" .
وقوله: { وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } معناه: إن صَبَرْتُمْ حتَّى [ينزل] القرآنُ بحكم من فرضٍ أو نهيٍ، وليسَ في ظاهرهِ شَرْح ما بكم فيه حَاجَةٌ، ومَسَّتْ حَاجَتُكُمْ إليه، فإذَا سَألْتُم عَنْهَا حينئذْ تُبْدَ لَكُم { عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ }.
واعلم أنَّ السُّؤالَ على قسمَيْن:
أحدهما: السُّوالُ عن شَيْءٍ لَمْ يَجْرِ ذكْرُه في الكتابِ والسُّنَّة بوجه من الوُجُوه، فهذا السُّؤالُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لهذه الآية.
والقسم الثاني: السُّؤال عن شيء نزل به القُرآنُ، لكنَّ السَّامِع لَمْ يَفْهَمْهُ كما يَنْبَغِي، فَههُنَا يَجِبُ السُّؤالُ عنه، وهُوَ مَعْنَى قوله: { وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ }.
والفائِدَةُ في ذِكْرِ هذا القسْمِ؛ أنَّه لما منعَ في الآيَةِ الأولَى من السُّؤالِ، أوْهَمَ أنَّ جَمِيع أنْوَاع السُّؤال مَمْنُوع منه، فذكرَ ذلك تَمْيِيزاً لهذا القِسْمِ عن ذَلِكَ.
فإن قيل: قوله: { وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا }، هذا الضَّمِيرُ عائدٌ إلى الأشياء المذكُورَة في قوله: { لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ }، فكيف يُعقلُ في "أشْياء" بأعْيَانِهَا أن يكون السُّؤال عنهَا مَمْنُوعاً وجَائِزاً معاً؟.
فالجوابُ من وَجْهَيْن:
الأول: جاز أن يكون السُّؤالُ عنها مَمْنُوعاً قَبْلَ نُزُولِ القُرْآنِ بِهَا، ومأمُوراً بها بَعْدَ نُزُولِ القُرْآنِ بها.
الثاني: أنَّهُمَا وإن كانا نَوْعَيْن مُخْتلِفَين، إلاَّ أنَّهُمَا في كوْنِ كلِّ منهما واحدٌ مَسْؤولٌ عنه شَيْءٌ واحِدٌ، فلهذا الوجه حَسُنَ اتِّحَاد الضَّمِير، وإن كان في الحَقيقَةِ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْن.
فإن قيل: ما ذكر من كراهةِ السُّؤالِ والنَّهْي عنْهُ يُعَارِضُهُ قوله تعالى:
{ { فَسْئَلُوۤاْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [الأنبياء: 7] فالجواب: هذا الذي أمَرَ اللَّهُ به عِبَادَهُ، هو ما تَقرَّرَ وثَبَتَ وُجُوبُهُ، مِمَّا يَجِبُ عليهم العملُ به، والَّذِي نَهَى عنه هو ما لَمْ يَقْصِد اللَّهُ به عِبَاده، ولم يَذْكُرْهُ في كِتَابِهِ.
قوله: "قَدْ سَألَهَا": الضميرُ في "سَألَهَا" ظاهرُه يعود على "أشْيَاء"، لكن قال الزمخشري: "فإن قلتَ: كيف قال: لا تَسْألُوا عنْ أشْيَاء، ثم قال: "قَدْ سَألَهَا" ولم يقل سأل عنها؟ قلت: ليس يعودُ على أشياء؛ حتى يتعدَّى إليها بـ "عَنْ"، وإنما يعودُ على المسألةِ المدلولِ عليها بقوله: "لا تَسْألُوا"، أي: قد سأل المَسْألَةَ قومٌ، ثم أصبحُوا بها - أي بمَرْجُوعِهَا - كافِرِين"، ونحا ابن عطية منْحَاهُ، قال أبو حيان: "ولا يتَّجِه قولُهما إلا على حذفِ مضافٍ، وقد صَرَّحَ به بعضُ المفسِّرين، أي: قد سأل أمثالها، أي: أمثالَ هذه المسألةِ، أو أمثال هذه السؤالاتِ"، وقال الحُوفِيُّ في "سَألَهَا": "الظاهرُ عَوْدُ الضَّميرِ على "أشْيَاء" ولا يتّجه حَمْلُه على ظاهره، لا من جهة اللفظ العربيِّ، ولا من جهةِ المعنى، أمَّا من جهة اللفظ: فلأنه كان ينبغي أن يُعَدَّى بـ "عَنْ" كما عُدِّيَ في الأوَّل، وأمَّا من جهة المعنى، فلأنَّ المسئُول عنه مختلفٌ قَطْعَاً؛ فإنَّ سؤالهم غيرُ سؤالِ من قبلهم؛ فإنَّ سؤال هؤلاء مثلُ من سَألَ: أيْنَ نَاقَتِي، وما فِي بَطْنِ نَاقَتِي، وأيْنَ أبِي، وأيْنَ مَدْخَلِي؟ وسؤالُ أولئك غيرُ هذا؛ نَحْو:
{ { أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً } [المائدة: 114] { { أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً } [النساء: 153] { { ٱجْعَل لَّنَآ إِلَـٰهاً } [الأعراف: 138] وسؤال ثمود الناقة، ونحوه". وقال الواحديُّ - ناقلاً عن الجرجانيِّ -: وهذا السؤالُ في هذه الآيات يخالفُ معنى السؤال في قوله: { لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أشْيَاءَ } { وَإِن تَسْألُوا عنها }؛ ألا ترى أنَّ السؤال في الآية الأولى قد عُدِّيَ بالجارِّ، وها هنا لم يُعَدَّ بالجارِّ؛ لأن السؤالَ ها هنا طلبٌ لعينِ الشيء؛ نحو: "سَألْتُكَ دِرْهَماً" أي طلبته منْكَ، والسؤالُ في الآية الأولى سؤالٌ عن حالِ الشيء وكيفيَّتِهِ، وإنما عطف بقوله { قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ } على ما قبلَها وليستْ بمثلِها في التأويل؛ لأنه إنما نهاهم عن تكليف ما لم يُكَلَّفُوا، وهو مرفوعٌ عنْهم فهُمَا يَشْتَرِكَانِ في وصفٍ واحدٍ، وهو أنَّه خوضٌ في الفُضُولِ، وفيما لا حَاجَةَ إلَيْه.
وقيل: يجوز أن يعود على "أشْيَاء" لفظاً لا معنًى؛ كما قال النحويُّون في مسألة: "عِنْدِي دِرْهَمٌ ونِصْفُهُ"، أي: ونِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرَ، ومنه: [الطويل]

2056- وَكُلُّ أُناسٍ قَارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ونَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فَهُوَ سَارِبُ

فصل
وقرأ النَّخَعِيُّ: "سَالَهَا" بالإمالة من غير همزٍ وهما لغتان، ومنه يتساولان فإمالتُه لـ "سَألَ" كإمالة حمزة "خَافَ"، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في البقرةِ عند قوله
{ { فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } [البقرة: 61] و { سَلْ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } [البقرة: 211].
قال المُفَسِّرُون: يَعْنِي قوْمَ صَالِح، سَألُوا النَّاقَةَ ثُمَّ عَقَرُوهَا، وقومَ مُوسى، قالوا: أرنَا اللَّهَ جَهْرةً، فصارَ ذلِكَ وَبَالاً عليهم، وبَنُو إسْرَائيل قالوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ:
{ { ٱبْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } [البقرة: 246] وقالوا: { { أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ ٱلْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِٱلْمُلْكِ مِنْهُ } [البقرة: 247] فسَألُوا ثمَّ كَفَرُوا، فكأنَّه تعالى يَقُول: أولَئِكَ سَألُوا، فلما أعْطُوا سُؤلَهُم ساءَهُم ذلك، فلا تَسْألوا شيئاً فَلَعَلُّكم إنْ أعطيتُمْ سُؤلكم، ساءكم ذلك.
قوله: "مِنْ قَبْلِكُمْ" متعلق بقوله: "سَألَهَا"، فإنْ قيل: هَلْ يجوزُ أن يكون صفةً لـ "قوم"؟ فالجواب: منعَ من ذلك جماعةٌ معتلِّين بأنَّ ظَرْفَ الزمان لا يقعُ خبراً، ولا صفةً، ولا حالاً عن الجُثَّة، وقد تقدَّم نحوُ هذا في أوَّلِ البقرة عند قوله:
{ { وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [البقرة: 21]، فإنَّ الصلةَ كالصفة، و"بِهَا" متعلِّق بـ "كَافرينَ"، وإنما قُدِّم لأجْلِ الفواصل.