خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ
١٠٩
-المائدة

اللباب في علوم الكتاب

اعلم: أنَّ عادةَ اللَّهِ تعالى في هذا الكِتَابِ الكَرِيم، أنَّه إذا ذَكَرَ أنْوَاعاً من الشَّرَائع والتَّكَالِيفِ والأحْكَام، أتْبَعها إمَّا بالإلهِيَّات، وإمَّا بشَرْح أحوَال الأنْبِيَاء، وإمَّا بِشَرْح أحوَال القِيامَةِ، ليصير ذلك مُؤكداً لما ذكَرَهُ من التَّكَاليفِ والشَّرائع، فلا جَرَمَ ذكر هنا بعد ما تقدَّم من الشَّرائع أحْوالَ القِيامَةِ، ثمَّ ذكر أحْوالَ عيسى - عليه السلام -.
فأمَّا أحْوالُ القِيَامَةِ، فَهُو قَوْلُه: { يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ }: في نصب "يَوْمَ" أحدَ عشرَ وجهاً:
أحدها: أنه منصوبٌ بـ "اتَّقُوا"، أي: اتَّقُوا اللَّهَ في يومِ جمعِهِ الرُّسُلَ، قاله الحُوفِيُّ، وهذا ينبغي ألاَّ يجوزَ؛ لأنَّ أمرهم بالتقوى في يوم القيامةِ لا يكون؛ إذ ليس بيومِ تَكْليفٍ وابتلاءٍ، ولذلك قال الواحديُّ: ولم يُنْصَبِ اليومُ على الظرْفِ للاتِّقاء؛ لأنَّهم لم يُؤمَرُوا بالتقوَى في ذلك اليوم، ولكنْ على المفعول به؛ كقوله:
{ { وَٱتَّقُواْ يَوْماً } [البقرة: 48].
الثاني: أنه منصوب بـ "اتَّقُوا" مضْمَراً يدلُّ عليه "واتَّقُوا الله"، قال الزَّجَّاج: "وهو محمولٌ على قوله: "واتَّقُوا الله"، ثم قال: "يَوْمَ يَجْمَعُ"، أي: واتقوا ذلك اليومَ"، فدلَّ ذِكْرُ الاتقاءِ في الأوَّل على الاتقاء في هذه الآية، ولا يكونُ منصوباً على الظَّرْف للاتقاء؛ لأنهم لم يُؤمَرُوا بالاتقاء في ذلك اليَوْم، ولكنْ على المفعول به؛ كقوله تعالى:
{ { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } [البقرة: 48].
الثالث: أنه منصوب بإضمار "اذْكُرُوا".
الرابع: بإضمار "احْذَرُوا".
الخامس: أنه بدلُ اشتمالٍ من الجلالة، قال الزمخشريُّ: "يَوْمَ يَجْمَعُ" بدلٌ من المنصوب في "واتَّقُوا الله"، وهو من بدلِ الاشتمال، كأنه قيل: "واتقُوا الله يَوْمَ جَمْعِهِ". انتهى، ولا بد من حذفِ مضافٍ على هذا الوجهِ؛ حتى تَصِحَّ له هذه العبارةُ التي ظاهرها ليْسَ بجيدٍ؛ لأنَّ الاشتمالَ لا يُوصَفُ به الباري تعالى على أيِّ مذهبٍ فَسَّرنَاهُ من مذاهب النحويين في الاشتمالِ، والتقديرُ: واتقوا - عقاب الله - يَوْمَ يَجْمَعُ رُسُلَهُ، فإنَّ العقابَ مشتملٌ على زمانِه، أو زمانُه مشتملٌ عليه، أو عامِلُهُمَا مشتملٌ عليهما على حسب الخلاف في تفسير البدلِ الاشتماليِّ، فقد تبيَّن لك امتناعُ هذه العباراتِ بالنسبةِ إلى الجلالةِ الشريفة، واستبعد أبو حيان هذا الوجه بطُولِ الفصْلِ بجملتين، ولا بُعْدَ؛ فإنَّ هاتين الجملتَيْنِ من تمامِ معنى الجملة الأولى.
السادسُ: أنه منصوبٌ بـ "لا يَهْدِي" قاله الزمخشريُّ وأبو البقاء؛ قال الزمخشريُّ: "أي: لا يهديهمْ طريقَ الجنَّة يومئذٍ كما يُفْعَلُ بغَيْرهِمْ"، وقال أبو البقاء: "أي: لا يهدِيِهمْ في ذلك اليَوْمِ إلى حُجَّةٍ، أو إلى طريقِ الجنَّة".
السابع: أنه مفعولٌ به، وناصبُه "اسْمَعُوا"، ولا بد من حذف مضاف حينئذٍ، لأنَّ الزمان لا يُسْمَعُ، فقدَّره أبو البقاء: "واسمعوا خَبَرَ يَوْمِ يُجْمَعُ"، ولم يذكر أبو البقاء غير هذين الوجهَيْن، وبدأ بأولهما، وفي نصبه بـ "لا يَهْدِي" نظرٌ؛ من حيث إنه لا يهديهم مطلقاً، لا في ذلك اليوم ولا في الدنيا، أعني المحْكُوم عليهم بالفسْقِ، وفي تقدير الزمخشريِّ "لا يَهْدِيهِمْ إلى طريقِ الجنَّة" نُحُوٌّ إلى مذهبه من أنَّ نَفْي الهداية المطلقة لا يجوزُ على الله تعالى؛ ولذلك خَصَّصَ المُهْدَى إليه، ولم يذكر غيره، والذي سَهَّلَ ذلك عنده أيضاً كونُه في يومٍ لا تَكْلِيفَ فيه، وأما في دار التكليفِ فلا يُجيزُ المعتزليُّ أن يُنْسَبَ إلى الله تعالى نَفْيُ الهدايةِ مطلقاً ألبتة.
الثامن: أنه منصوبٌ بـ "اسْمَعُوا" قاله الحُوفِيُّ، وفيه نظرٌ؛ لأنهم ليسوا مكلَّفين بالسَّماعِ في ذلك اليومِ؛ إذ المُرادُ بالسماعِ السماعُ التكليفيُّ.
التاسع: أنه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ متأخِّرٍ، أي: يوم يَجْمَعُ اللَّهُ الرسلَ كان كيتَ وكَيْتَ، قاله الزمخشريُّ.
العاشر: قال شهاب الدين: يجوز أن تكونَ المسألة من باب الإعْمَال؛ فإنَّ كُلاًّ من هذه العوامِلِ الثلاثةِ المتقدِّمة يَصِحُّ تسلُّطُه عليه؛ بدليل أنَّ العلماء جَوَّزوا فيه ذلك، وتكون المسألةُ مِمَّا تنازع فيها ثلاثةُ عوامل، وهي "اتَّقُوا"، و"اسْمَعُوا"، و"لا يَهْدِي"، ويكونُ من إعمال الأخير؛ لأنه قد حُذِفَ من الأوَّلِينَ ولا مانعَ يمنع من الصناعة، وأمَّا المعنى فقد قَدَّمْتُ أنه لا يظهرُ نصْبُ "يَوْمَ" بشيء [من الثلاثة]؛ لأنَّ المعنى يأباه، وإنما أجَزْتُ ذلك؛ جَرْياً على ما قالوه وجَوَّزوه، وكذا الحُوفِيُّ جَوَّز أن ينتصب بـ "اتَّقُوا" وبـ "اسْمَعُوا" أو بـ "لاَ يَهْدِي"، وكذا الحُوفِيُّ جَوَّز أن ينتصب بـ "اتَّقُوا" وبـ "اسْمَعُوا".
الحادي عشر: أنه منصوبٌ بـ "قَالُوا: لا عِلْمَ لَنَا" أي: قال الرسُلُ يوم جمْعِهِمْ، وقول الله لهم ماذا أجِبْتُمْ، واختاره أبو حيان على جميع ما تقدَّم، قال: وهو نظيرُ ما قلناه في قوله تعالى:
{ { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ } [البقرة: 30]، وهو وجه حسنٌ.
قوله: "مَاذَا أجِبْتُمْ" فيه أربعةُ أقوال:
أحدها: أنَّ "مَاذَا" بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ، فغلب فيه جانبُ الاستفهام، ومحلُّه النصبُ على المصدرِ بما بعده، والتقديرُ: أيَّ إجابةٍ أجِبْتُم [قال الزمخشريُّ: "مَاذَا أجِبْتُمْ" منتصبٌ انتصابَ مصدره على معنى: أيَّ إجابةٍ أجِبْتُمْ]، ولو أُريدَ الجوابُ، لقيل: "بمَاذا أُجِبْتُمْ"، أي: لو أُريدَ الكلامُ المجابُ، لقيل: بماذا، ومِنْ مجيء "مَاذَا" كلِّه مصدراً قوله: [البسيط]

2075- مَاذَا يَغِيرُ ابنَتَيْ رَبْعٍ عَوِيلُهُمَا لاتَرْقُدانِ وَلاَ بُؤسَى لِمَنْ رَقَدَا

الثاني: أن "مَا" استفهاميةٌ في محلِّ رفع بالابتداء، و"ذَا" خبره، وهي موصولةٌ بمعنى "الَّذي"؛ لاستكمال الشرطَيْن المذكورَيْن، و"أُجِبْتُمْ" صلتُها، والعائدُ محذوفٌ، أي: ما الَّذي أجِبْتُمْ به، فحذفَ العائد، قاله الحُوفِيُّ، وهذا لا يجوزُ؛ لأنه لا يجوزُ حذفُ العائدِ المجرورِ، إلا إذا جُرَّ الموصولُ بحرف مثلِ ذلك الحرفِ الجارِّ للعائد، وأنْ يَتَّحِدَ متعلَّقاهُمَا؛ نحو: "مَرَرْتُ بالَّذي مَرَرْتَ"، أي: به: وهذا الموصولُ غير مَجْرُورٍ، لو قلتَ: "رَأيْتُ الذي مَرَرْتَ"، أي: مررتَ به، لم يجُزْ، اللهم إلا أنْ يُدَّعى حَذْفُهُ على التدريج بأن يُحْذَفَ حرفُ الجرِّ، فيصلَ الفعلُ إلى الضمير، فيحذفَ؛ كقوله: { { وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ } [التوبة: 69]، أي: في أحدِ أوجهه، وقوله: { { فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } [الحجر: 94] في أحد وجهيه، وعلى الجملةِ فهو ضيعف.
الثالث: أنَّ "مَا" مجرورةٌ بحرفِ جَرٍّ مقدَّرٍ، لمَّا حُذِفَ بقيتْ في محلِّ نصبٍ، ذكره أبو البقاء وضعَّف الوجه الذي قبله - أي كون ذا موصولةً - فإنه قال: "مَاذَا في موضعِ نصْبٍ بـ "أُجبْتُمْ"، وحرفُ الجرِّ محذوفٌ، و"مَا" و"ذَا" هنا بمنزلةِ اسْمٍ واحدٍ، ويَضْعُفُ أنْ تُجْعَلَ "مَا" بمعنى "الَّذِي"؛ لأنه لا عائد هنا، وحذفُ العائدِ مع حرفِ الجَرِّ ضعيفٌ". قال شهاب الدين أمَّا جَعْلُه حذفَ العائدِ المجرورِ ضعيفاً، فصحيحٌ تقدَّم شرحُه والتنبيهُ عليه، وأمَّا حذفُ حرفِ الجر وانتصابُ مجرورِه، فهو ضيعفٌ أيضاً، لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ؛ كقوله: [الطويل]

2076- فَبِتُّ كَأنَّ العَائِدَاتِ فَرَشْنَنِي ..........................

وقوله: [الطويل]

2077-.......................... وأُخْفِي الَّذِي لَوْلاَ الأسَى لَقَضَانِي

وقوله: [الوافر]

2078- تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تَعُوجُوا ..........................

وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك، واستثناءُ المطَّرِد منه، فقد فرَّ من ضعيفٍ، ووقع في أضْعَفَ منه.
الرابع: قال ابن عطيَّة -رحمه الله -: "معناه: ماذا أجابَتْ به الأممُ"، فجعل "مَاذَا" كنايةً عن المُجَابِ به، لا المصدرِ، وبعد ذلك، فهذا الكلامُ منه محتملٌ أنْ يكونَ مثل ما تقدَّمَ حكايتُهُ عن الحُوفِيِّ في جعله "مَا" مبتدأ استفهاميةً، و"ذَا" خبره؛ على أنها موصولةٌ، وقد تقدَّم التنبيهُ على ضعفه، ويُحْتملُ أن يكون "مَاذَا" كلُّه بمنزلةِ اسمِ استفهامٍ في محلِّ رفع بالابتداء، و"أُجِبْتُمْ" خبرُه، والعائدُ محذوفٌ؛ كما قدَّره هو، وهو أيضاً ضعيفٌ؛ لأنه لا يُحْذَفُ عائدُ المبتدأ، وهو مجرورٌ إلا في مواضعَ ليس هذا منها، لو قلت: "زَيْدٌ مَرَرْتُ" لم يَجُزْ، وإذا تبيَّن ضعفُ هذه الأوجهِ، رُجِّح الأول.
والجمهورُ على "أُجِبْتُمْ" مبنيًّا للمفعول، وفي حذفِ الفاعل هنا ما لا يُبْلَغُ كُنهُهُ من الفصاحة والبلاغة؛ حيث اقتصرَ على خطاب رسله غيرَ مذكورٍ معَهُم غيرُهم؛ رفْعاً من شأنهم وتشريفاً واختصاصاً، وقرأ ابن عبَّاس وأبو حيوة "أجَبْتُمْ" مبنيًّا للفاعل، والمفعول محذوف، أي: ماذا أجَبْتُمْ أمَمَكُمْ حين كَذَّبُوكُمْ وآذَوْكُمْ، وفيه توبيخٌ للأمَمِ، وليستْ في البلاغةِ كالأولى.
فإن قيل: أيُّ فائِدَةٍ في هذا السُّؤال، فالجوابُ: توبيخُ قَوْلِهم كقوله:
{ { وَإِذَا ٱلْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } [التكوير: 8، 9]، المَقْصُودُ مِنْهُ تَوْبِيخُ من فعل ذَلِك الفِعْلَ.
وقوله تعالى: { إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ }، كقوله:
{ { إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } في [البقرة: 32]. والجمهورُ على رفع "عَلاَّمُ الغُيُوبِ"، وقرىء بنصبه، وفيه أوجهٌ ذكرها الزمخشريُّ وهي: الاختصاصُ، والنداءُ، وصفةٌ لاسم "إنَّ"؛ قال: وقُرىء بالنصْب على أنَّ الكلامَ قد تَمَّ عند قوله "إنَّكَ أنْتَ"، أي: إنَّكَ الموصوفُ بأوصَافِكَ المعرُوفة من العلمِ وغيره، ثم انتصَبَ "علاَّمَ الغُيُوبِ" على الاختصاصِ، أو على النداء، أو هو صفةٌ لاسْمِ "إنَّ"، قال أبو حيان: "وهو على حذفِ الخبر لفهم المعنى، فَتَمَّ الكلامُ بالمقدَّرِ في قوله "إنَّك أنْتَ"، أي: إنَّك الموصوفُ بأوصافِكَ المعروفةِ من العلمِ وغيره"، ثم قال:"قال الزمخشريُّ: ثم انتصبَ، فذكره إلى آخره" فزعمَ أنَّ الزمخشريَّ قدَّر لـ "إنَّكَ" خبراً محذوفاً، والزمخشريُّ لا يريد ذلك ألبتة ولا يَرْتضيه، وإنما يريدُ أنَّ هذا الضمير بكونه لله تعالى هو الدالُّ على تلك الصفات المذكورة، لا انفكاكَ لها عنه، وهذا المعنى هو الذي تقتضيه البلاغةُ، والذي غاصَ [عليه] الزمخشريُّ -رحمه الله - لا ما قدَّره أبو حيان مُوهِماً أنه أتى به من عنده، ويعني بالاختصاص النَّصْبَ على المدْحِ، لا الاختصاصَ الذي هو شبيه بالنداء؛ فإنَّ شرطه أن يكون حَشْواً، ولكنَّ أبا حيَّان قد ردَّ على أبي القاسمِ قوله "إنه يجوزُ أن يكون صفةً لاسم إنَّ" بأنَّ اسمها هنا ضميرُ مخاطبٍ، والضمير لا يوصفُ مطلقاً عند البصريِّين، ولا يوصَف منه عند الكسائيِّ إلا ضميرُ الغائبِ؛ لإبهامه في قولهم "مَرَرْتُ بِهِ المِسْكِينِ"، مع إمكان تأويله بالبدلِ، وهو ردٌّ واضحٌ، على أنه يمكن أن يقال: أراد بالصفةِ البدل، وهي عبارةُ سيبويه، [يُطْلِقُ الصفةَ ويريد البدل، فله أسْوَةٌ بإمامه، واللازمُ مشترك، فما كان جواباً عن سيبويه]، كان جواباً له، لكن يَبْقَى فيه البدلُ بالمشتقِّ، وهو أسهلُ من الأول، ولم أرَهُمْ خرَّجُوها على لغةِ مَنْ ينصِبُ الجزأيْنِ بـ "إنَّ" وأخواتِها؛ كقوله في ذلك: [الرجز]

2079- إنَّ الْعَجُوزَ خَبَّةً جَرُوزَا

وقوله: [الطويل]

2080-.......................... .............. إنَّ حُرَّاسَنَا أُسْدَا

وقوله: [الكامل]

2081- لَيْتَ الشَّبَابَ هُوَ الرَّجِيعَ عَلَى الْفَتَى ..............................

وقول الآخر: [الرجز]

2082- كَأنَّ أُذْنَيْه إذَا تَشَوَّفَا قَادمَةً أوْ قَلَماً مُحَرَّفَا

ولو قيل به لكان صواباً.
و"علاَّمُ" مثالُ مبالغة، فهو ناصب لما بعده تقديراً، وبهذا أيضاً يُرَدُّ على الزمخشريِّ على تقدير تسليم صحَّة وصف الضمير من حيث إنه نكرةٌ؛ لأن إضافته غيرُ محضَةٍ وموصوفهُ مَعْرفةٌ. والجمهورُ على ضمِّ العينِ من "الغُيُوب" وهو الأصلُ، وقرأ حمزة وأبو بكر بكسرها، والخلافُ جارٍ في ألفاظٍ أُخَرَ نحو: "البُيُوت والجُيُوب والعُيُون والشُّيُوخ" وقد تقدَّم تحرير هذا كله في البقرة عند ذكر
{ { ٱلْبُيُوتَ } [البقرة: 189]، وستأتي كلُّ لفظةٍ من هذه الألفاظِ مَعْزُوَّةً لقارئِها في سُورِهَا - إن شاء الله تعالى - وجُمِعَ الغيبُ هنا، وإنْ كان مصدراً لاختلافِ أنواعه، وإن اريدَ به الشيءُ الغائب، أو قلنا: إنه مخفَّفٌ من فَيْعِل؛ كما تقدم تحقيقه في البقرة [الآية 3]، فواضح.
فصل في معنى الآية
مَعْنَى الآية الكَرِيمة: { يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ }، وهو يَوْمُ القِيَامَةِ { فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ } أممكم، وما الذي رَدَّ عليكم قومكم حين دَعوْتُمُوهم إلى تَوْحِيدِي وطَاعَتِي؟ فَيَقُولُون: { لا عِلْمَ لنا } بوجْهٍ من الحِكْمَةِ عن سُؤالِكَ إيَّانَا عن أمْرٍ أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنَّا.
قال ابنُ جُرَيْج -رحمه الله -: لا عِلْمَ لنا بِعَاقِبَةِ أمْرِهِمْ، وبما أحدثوا من بعد يدلُّ عليه قولهم: { إنَّكَ أَنْتَ علام الغُيُوب } أيْ: أنْتَ الذي تَعْلَمُ ما غَابَ، ونحن لا نَعْلَمُ ما غابَ إلاَّ ما نُشَاهِدُ.
فإن قيل: ظَاهِرُ قولهم: { لا عِلْمَ لَنَا إنَّك أنْتَ علاَّمُ الغُيُوبِ } يَدُلُّ على أنَّ الأنْبِيَاء لا يَشْهَدُون لأمَمِهِمْ، والجمعُ بَيْن هذا وبين قوله تعالى
{ { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً } [النساء: 41] مشكل، وأيضاً قوله تعالى: { { وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [البقرة: 143]، فإذا كانت أمَّتُنَا تَشْهَدُ لسَائِر الأمَمِ، فالأنْبِيَاءُ أوْلَى بأنْ يَشْهَدُوا لأمَمِهِم.
فالجواب من وجوه:
أحدها: قال ابنُ عباسٍ، والحسن، ومُجَاهد، والسدِّيُّ: إنَّ القِيَامَة زَلاَزِل وأهوالٌ، بحيث تَزُولُ القُلُوبُ عن مواضِعِهَا عند مُشاهَدَتِهَا، والأنْبِيَاءُ - عليهم الصلاة والسلام - عند مُشَاهَدَةِ تلك الأهوال يَنْسُون أكْثَرَ الأمُور، فَهُنَالِكَ يَقُولُون: لا عِلْمَ لَنَا، فإن عادَتْ قلوبُهُمْ إلَيْهِم، فعند ذلك يَشْهَدُون للأمَمِ.
قال ابنُ الخَطِيبِ: وهذا الجوابُ وإن ذَهَبَ إليه جَمْعٌ عَظِيمٌ من الأكَابِرِ فهو عندي ضعيف؛ لأنه تبارك وتعالى قال في صِفَةِ أهْلِ الثَّوَاب:
{ { لاَ يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلأَكْبَرُ } [الأنبياء: 103]، وقال: { { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ } [عبس: 38، 39]، بل إنَّه تبارك وتعالى قال: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة: 62]، فكيف يَكُون حَالُ الأنْبِيَاء والرُّسُل أقَلّ من ذلك، ومَعْلُومٌ أنَّهُم لو خَافُوا لكَانُوا أقَلَّ من مَنْزِلَةِ هؤلاءِ الَّذِين أخْبَرَ اللَّهُ عنْهُم أنَّهُم لا يَخَافُون ألْبَتَّةَ.
وثانيها: أنَّ المُرَاد مِنْه المُبَالغة في تَحِقيقِ فَضِيحَتِهِمْ، كمنْ يقول لِغَيْرِه: ما تقولُ في فُلانٍ؟ فَيَقُولُ: أنْتَ أعْلَمُ به مِنِّي، كأنَّه قيل: لا يَحْتَاجُ فيه إلى الشَّهادَة لِظُهُوره، وهذا أيضاً ليس بِقَوِيٍّ؛ لأنَّ السُّؤال إنَّما وقَع على كُلِّ الأمَّةِ، وكُلُّ الأمَّة ما كانوا كَافِرِين حتَّى يريدَ الرَّسُول بالنفي تَبْكِيتَهُمْ وفَضِيحَتهُم.
وثالثها: وهو الأصَحُّ، وهو اخْتِيَارُ ابن عبَّاسٍ: أنَّهم إنَّما قَالُوا: لا عِلْمَ لَنَا؛ لأنَّك تَعْلَمُ ما أظْهَرُوا وما أضْمَرُوا، ونحنُ لا نَعْلَمُ إلاَّ ما أظْهَرُوا، فَعِلْمُك فيهم أقْوَى من عِلْمِنَا؛ فلهذا المَعْنَى نَفوا العِلْمَ عن أنْفُسِهِم؛ لأنَّ عِلْمهم عند الله تعالى كلا عِلْمٍ، وهذا يُرْوَى عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
ورابعها: ما تقدَّم أنَّ قولَهُم: لا عِلْمَ لنا إلا أنَّا عَلِمْنَا جوابهم لَنَا وَقْتَ حَيَاتِنَا، ولا نَعْلَم ما كان منهم بَعْدَ وَفَاتِنَا.
وخامسها: قال ابن الخطيب: ثَبَتَ في عِلْمِ الأصُول أنَّ العِلْمَ غير، والظَّنَّ غَيْر، فالحَاصِلُ أنَّ عِنْدَ كُلِّ أحَدٍ من حالِ الغَيْرِ إنَّما هو الظَّنُّ لا العِلْم، وكذلك قال - عليه الصلاة والسلام -:
"إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إليَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ ألْحَنُ بِحُجَّتِهِ، فَمَنْ حَكَمْتُ لَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ فَكأنَّمَا قَطَعْتُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ" ، والأنْبِيَاءُ - عليهم الصلاة والسلام - قالُوا: لا عِلْمَ لَنَا ألْبَتَّة بأحْوالِهِم، إنَّما الحاصِلُ عِنْدَنا من أحوالهم هو الظَّنُّ، والظَّنُّ كانَ مُعْتَبراً في الدُّنيا لا في الآخِرَةِ، لأنَّ الأحْكَام في الدُّنْيَا كانت مَبْنِيَّةً على الظَّنِّ، أمَّا فِي الآخِرَة فلا التِفاتَ فيها إلى الظَّنِّ؛ لأنَّ الأحْكَام في الآخِرَة مَبْنِيَّةٌ على حَقائِقِ الأشْيَاء وَبَواطِنِ الأمُورِ، فلهذا السَّبَب قالوا:{ لا عِلْمَ لَنَا إلا ما علمتنا } ولم يَذْكُرُوا ألْبَتَّة ما عندهم من الظَّنِّ؛ لأنَّ الظَّنَّ لا عِبْرَة به في القِيَامَةِ.
وسادسها: أنهم لمَّا عَلِمُوا أنَّهُ تعالى عالمٌ لا يَجْهَل، حكيمٌ لا يَسْفَهُ، عَادِلٌ لا يَظْلِم، عَلِمُوا أنَّ قولهم لا يفيد خَيْراً ولا يدفعُ شراً، فرأوْا أنَّ الأدَبَ في السكوت، وفي تَفْويضِ الأمْرِ إلى العَدْل الحَي الذي لا يَمُوتُ.
وسابعها: معناه: لا عِلْمَ لنا إلاَّ ما عَلَّمْتَنَا فحذف، وهذا مَرْويٌّ عن ابن عبَّاسٍ، ومُجَاهد.
فصل
دَلَّت الآيَةُ الكَرِيمَةُ على جوازِ إطلاقِ لفظ العلاَّم عليه، كما جاز إطلاقُ لفظ الخلاَّقِ عليْه، وأمَّا العلاَّمة بالتاء فإنهم أجْمَعُوا على أنَّهُ لا يجوز إطلاقُها في حَقِّهِ، ولعلَّ السَّبَب ما فيه من لفظ التَّأنِيثِ.