قوله تعالى: { إذ قال الله } فيها أوجه:
أحدها: أنه بدل من "يَوْمَ يَجْمَعُ" قال الزمخشريُّ: "والمعنى: أنه يوبِّخ الكافرين يومئذ بسؤال الرسُلِ عن إجابَتِهِمْ، وبتعديدِ ما أظْهَرَ على أيديهم من الآياتِ العظامِ، فكذَّبهم بعضُهم وسمَّوْهُم سحَرةً، وتجاوزَ بعضُهُمُ الحَدَّ، فجعله وأمَّهُ إلَهَيْنِ"، ولمَّا ذكَر أبو البقاء هذا الوجه، تأوَّلَ فيه "قَالَ" بـ "يَقُولُ"، وأنَّ "إذْ"، وإنْ كانت للماضي، فإنما وقعتْ هنا [على] حكاية الحال.
يقولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِه: "كَأنَّكَ بِنَا وقد دخَلْنَا بلْدة كذا، وصَنَعْنَا فيه كذا"، قال - تبارك وتعالى: { { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ } [سبأ: 51]، وقال غيْرُهُ: معناه الدَّلالة على قُرْبِ القِيَامَةِ كأنَّها قَدْ قَامَتْ، وكُلُّ ما هو آتٍ آتٍ، كما يُقالُ: الجَيْشُ قد أتَى، إذا قَرُبَ إتْيَانهم قال - تبارك وتعالى -: { { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } [النحل: 1].
الثاني: أنه منصوبٌ بـ "اذْكُرْ" مقدَّراً، قال أبو البقاء -رحمه الله تعالى -: "ويجوزُ أن يكون التقديرُ: اذْكُرْ إذْ يَقُولُ"، يعني أنه لا بد من تأويلِ الماضي بالمستقبلِ، وهذا كما تقرَّر له في الوجْهِ قبله، وكذا ابنُ عطيَّة تأوَّله بـ "يَقُولُ"؛ فإنه قال: "تقديرُه: اذْكُرْ يا محمَّد إذْ"، و"قَالَ" هنا بمعنى "يَقُولُ"؛ لأنَّ ظاهر هذا القولِ، إنما هو في يوم القيامة؛ لقوله بعده { أأنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ }.
الثالث: أنه في محلِّ رفع خبراً لمبتدأ مضمرٍ، أي: ذلك إذْ قَالَ، ذكره الواحديُّ، وهذا ضعيفٌ؛ لأن "إذْ" لا يُتَصَرَّفُ فيها، وكذلك القولُ بأنها مفعولٌ بها بإضمار "اذْكُرْ"، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك، اللهم إلا أنْ يريد الواحديُّ بكون خبراً؛ أنه ظرفٌ قائمٌ مقام خبرٍ، نحو: "زَيْدٌ عِنْدَكَ" فيجوز.
قوله: { يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } تقدَّم الكلامُ في اشتقاق هذه المفردات ومعانيها، و"ابْنَ مَرْيَمَ" صفة لـ "عِيسَى" نُصِب؛ لأنه مضاف، وهذه قاعدةٌ كلية مفيدة، وذلك أنَّ المنادى المفردَ المعرفةَ الظاهرَ الضَّمَّةِ، إذا وُصِفَ بـ "ابْن" أو "ابْنَة"، ووقع الابنُ أو الابنةُ بين علمَيْنِ أو اسمَيْنِ متفقَيْنِ في اللفظِ، ولم يُفْصَل بين الابْنِ وبيْنَ موصوفه بشيء، تثبت له أحكامٌ منها: أنه يجوزُ إتْبَاعُ المنادى المضمومِ لحركةِ نُونِ "ابْن"؛ فيُفتح؛ نحو: "يَا زَيْدَ [زَيْدُ] ابْنَ عَمْرٍو، ويَا هِنْدَ [هِنْدُ] ابْنَةَ بَكْرٍ" بفتح الدال من "زَيْد" و"هِنْد" وضمِّها، فلو كانت الضمةُ مقدَّرةً نحو ما نحن فيه، فإنَّ الضمة مقدَّرة على ألفِ "عيسَى" فهل يُقَدَّر بناؤُه على الفتْحِ إتباعاً كما في الضمَّة الظاهرة؟ فيه خلاف: الجمهورُ على عدمِ جوازه؛ إذْ لا فائدة في ذلك، فإنه إنما كان للإتباع، وهذا المعنى مفقودٌ في الضمَّة المقدرة، وأجاز الفراء ذلك؛ إجراءً للمقدَّر مُجْرَى الظاهرِ، وتبعه أبو البقاء؛ فإنه قال: "يَجُوزُ أن يكون على الألِفِ من "عيسَى" فتحةٌ؛ لأنه قد وُصِفَ بـ "ابْن" وهو بين عَلَمَيْنِ، وأن يكونَ عليها ضمَّةٌ، وهو مثلُ قولك: "يَا زَيْدَ [زَيْدُ] بْنَ عَمْرٍو" بفتح الدال وضمِّها"، وهذا الذي قالاه غيرُ بعيدِ، ويَشْهَدُ له مسألةٌ عند الجميع: وهو ما إذا كان المنادَى مبنيًّا على الكسرِ مثلاً؛ نحو: "يَا هَؤلاءِ"، فإنهم أجازوا في صفته الوجهيْن: الرفع والنصب، فيقولون: "يا هَؤلاءِ العُقلاَءِ والعُقَلاءُ" بنصب العقلاء ورفعها، قالوا: والرفعُ مراعاةً لتلك الضمة المقدَّرة على "هؤلاءِ"، فإنه مفردٌ معرفة، والنصب على محلِّه، فقد اعتبروا الضمة المقدَّرة في الإتباع، وإنْ كان ذلك فائتاً في اللفظ، وقد يُفَرَّقُ بأنَّ "هؤلاءِ" نحن مضطُّرون فيه إلى تقدير تلْكَ الحركةِ؛ لأنه مفرد معرفةٌ، فكأنها ملفوظٌ بها بخلافِ تقديرِ الفتحة هنا.
وقال الواحديُّ في "يَا عيسَى" ويجوزُ أن [يكونَ] في محلِّ النصب؛ لأنه في نية الإضافة، ثم جعل الابن توكيداً له، وكل ما كان مثل هذا؛ جَازَ فيه الوجهانِ؛ نحو: "يَا زَيْدَ [زَيْدُ] بْنَ عَمْرٍو"؛ وأنشد: [الرجز]
2083- يَا حَكَمَ بنَ المُنْذِرِ بْنِ الجَارُودْ أنْتَ الجَوادُ ابْنُ الجَوَادِ ابْنُ الْجُودْ
سُرَادِقُ المَجْدِ عَلَيْكَ مَمْدُودْ
بنصب الأول ورفعه على ما بَيَّنَّا، وقال التبريزيُّ: الأظهرُ عندي أنَّ موضع "عِيسَى" نصب؛ لأنك تجعلُ الاسم مع نعتِه إذا أضفته إلى العلمِ كالشيء الواحد المضافِ، وهذا الذي قالاه لا يُشْبِهُ كلام النحاة أصلاً، بل يقولون: الفتحةُ للإتباعِ، ولم يُعْتَدَّ بالساكنِ؛ لأنه حاجزٌ غيرُ حَصِينٍ، كذا قال أبو حيان: قال شهاب الدين: الذي قد قاله الزمخشريُّ - وكونه ليس من النحاة مُكَابَرَةٌ في الضَّرُوريَّاتِ - عند قوله: { إذْ قَالَ الحَوَارِيُّونَ: يا عِيسَى ابْنَ مَرْيم }: "عِيسَى في محل النصب على إتباع حركته حركة الابْنِ؛ كقولك: "يَا زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو"، وهي اللغة الفاشيةُ، ويجوزُ أن يكون مضموماً؛ كقولك "يَا زَيْدُ بْنَ عَمْرٍو"، والدليل عليه قوله: [المتقارب]
2084- أحَارُ بنَ عَمْرٍو كأنِّي خَمِرْ ............................
لأنَّ الترخيم لا يكونُ إلا في المضموم". انتهى، فاحتاج إلى الاعتذار عن تقديرِ الضمة، واستشهد لها بالبيتِ؛ لمخالفتِها اللغة الشهيرة.
وقولنا: "المُفْرَد" تحرُّزٌ من المُطَوَّل، وقولنا "المَعْرِفَة" تحرُّز من النكرة؛ نحو: ["يا رَجُلاً ابْنَ رَجُلٍ" إذا لم تَقْصِدْ به واحداً بعينه، وقولنا: "الظاهر الضَّمَّةِ" تحرُّزٌ من نحو:] "يَا مُوسَى بْنَ فُلانٍ"، وكالآية الكريمة، وقولنا بـ "ابْن" تحرُّزٌ من الوصف بغيره؛ نحو: "يا زَيْدُ صَاحِبَنَا"، وقولنا: "بين عَلَميْنِ أو اسمَيْن متفقين لفظاً" تحرُّزٌ من نحو: "يَا زَيْدُ [بْنَ أخِينَا"]، وقولنا: "غيرَ مَفْصُولٍ" تحرُّزٌ من نحو: "يَا زَيْدُ العَاقِلُ ابْنَ عَمْرٍو"؛ فإنه لا يجوز في جميع ذلك إلا الضَّمُّ، وقولنا ["وَصْفٌ"] تحرُّزٌ من أن يكون الابْنُ خبراً، لا صفة؛ نحو: "زَيْدٌ ابْنُ عَمْرٍو"، وهل يجوزُ إتباعُ "ابن" له فيُضمُّ نحو: "يا زيد بنُ عمرو" بضم "ابن"؟ فيه خلافٌ.
وقولنا: "أحْكَام"، وقد تقدَّم منها ما ذكرنَاه من جوازِ فتحهِ إتباعاً، ومنها: حَذْفُ ألفه خَطًّا، ومنها: حَذْفُ تنوينه في غير النداء؛ لأنَّ المنادى لا تنوينَ فيه وفي قوله: "ابْنَ مريمَ" ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أنه صفةٌ؛ كما تقدَّم، والثاني: أنه بدلٌ، والثالث: أنه بيانٌ؛ وعلى الوجهين الأخيرَيْن: لا يجوزُ تقديرُ الفتحة إتباعاً؛ إجماعاً، لأنَّ الابنَ لم يَقَعْ صفةً، وقد تقدَّم أنَّ ذلك شرطٌ.
وأرَادَ بالنِّعْمَة: الجَمْع كقوله: { { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ } [النحل: 18]، وإنَّمَا جاز ذلك؛ لأنَّهُ مضافٌ يَصْلُح للجِنْسِ.
فصل
قال القُرْطُبِي: إنما ذَكَّرَ الله - تبارك وتعالى - عيسَى - عليه الصلاة والسلام - نِعْمَته عليه وعلى وَالِدَتِهِ، وإن كان لَهُمَا ذاكراً لأمرين:
أحدهما: ليتلو على الأمَمِ بما خَصَّصَهَا به من الكرامةِ، ومَيَّزها به من عُلُوِّ المَنْزِلَة.
والثاني: ليُؤكِّد به حُجَّتَه، ويردّ به جَاحِدَهُ، وفَسَّرَ نِعْمَتَهُ عليه بأمور:
أوَّلُها: قوله تعالى: { إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } في "إذْ" أربعةُ أوجه:
أحدها: أنه منصوبٌ بـ "نِعْمَتِي"؛ كأنه قيل: اذكُرْ إذْ أنعمْتُ عليْكَ وعلى أمِّكَ في وقت تأييدي لك.
والثاني: أنه بدلٌ من "نِعْمَتِي" بدلُ اشتمال، وكأنه في المعنى يفسِّر النعمة.
والثالث: أنه حالٌ من "نِعْمَتِي"، قاله أبو البقاء.
والرابع: أن يكون مفعولاً به على السَّعَة، قاله أبو البقاء -رحمه الله تعالى - أيضاً قال شهاب الدين: هذا هو الوجهُ الثاني - أعني البدليةَ -، وقرأ الجمهور "أيَّدتُّكَ" بتشديد الياء، وغيرهم "آيدتُّكَ" وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك في سورة البقرة مُشْبَعاً، ومعنى الآية الكريمة: أي: قَوْمَك بِمَا يَجُوزُ من الأَيْدِ، وهو القُوَّة.
فصل
المرادُ بِرُوحِ القُدُسِ: جبريل - عليه الصلاة والسلام -، والقُدُس: هو اللَّهُ تعالى، كأنَّه أضافَهُ إلى نَفْسِهِ تَعْظِيماً، وقيل: إنَّ الأرْوَاحَ مُخْتَلِفَةٌ بالماهِيَّةِ: فمنها طَاهِرَةٌ نُورَانيَّةٌ، ومنها خَبِيثة ظُلْمانيَّة، ومنها: مُشْرِقَة ومنها كَدِرة، ومنها خَيِّرَةٌ ومنها نَذِلَةٌ؛ ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام -: "الأرْواح جُنُودُ مُجَنَّدةٌ" ، فاللَّهُ تعالى خصَّ عيسى - عليه الصلاة والسلام - بالرُّوح الطَّاهِرة النُّورَانِيَّة المُشْرقَة العُلويَّة الخيِّرةِ، ولقائل أن يقول: لما دلَّت هذه الآيَةُ على أنَّ تأييد عيسى إنَّما حَصَلَ من جِبْرِيل، أو بسبَبِ رُوحِهِ المُخْتَصَّةِ، وهذا يَقْدَحُ في دلالةِ المُعْجِزَات على صِدْقِ الرُّسُلِ - عليهم الصلاة والسلام -، ولم تُعْرفُ عِصْمَة الرُّسُل - عليهم السلام - قَبْلَ العِلْمِ بعصْمَةِ جبريل - عليه الصلاة والسلام - فيلزم الدَّوْر.
فالجواب: قال ابن الخطيب: ثبت من أصْلِنَا أنَّ الخَالِقَ ليْسَ إلاَّ اللَّهُ، وبه يَنْدَفِعُ السُّؤال.
قوله: { تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً } معناه: يُكَلِّمُ النَّاس في المَهْدِ صَبِيًّا، وكَهْلاً نبياً.
قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أرسلهُ اللَّهُ وهو ابنُ ثلاثينَ فَمَكَث في رسالته ثلاثين شَهْراً، ثُمَّ إنَّ الله رَفَعَهُ إلَيْهِ.
قال المُفَسِّرُون: يُكَلِّم النَّاسَ في المَهْد وكَهْلاً، في مَوْضِع الحال، والمعنى: يُكلِّمُ النَّاسَ طِفْلاً وكَهْلاً من غير أن يتفاوت كلامُهُ في هذين الوقْتَيْن، وهذه خَاصَّةٌ شَرِيفَةٌ لم تَحْصُلْ لأحدٍ من الأنْبِيَاء، وقد تقدَّم الكلام في [الآية 46] آل عمران، ما فائدة قوله: { فِي المهد وكَهْلاً }.
قوله: { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنجِيلَ } قيل: الكِتَابُ، الشَّريعةُ، وقيل: الخَطُّ، وأمَّا الكَلِمَةُ فقيل: هي العِلْمُ والفَهْمُ، وذكر التَّوْراة والإنجيلَ بعد الكِتَاب على سَبيلِ التَّشْرِيف، كقوله - تبارك وتعالى -: { { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [الأحزاب: 7]، وقوله: { { وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [البقرة: 98]، فإنَّما ذكر التَّوراة والإنجيلَ بعد ذِكْرِ الكتابِ؛ لأنَّ الاطِّلاع على أسْرَار الكُتُبِ الإلهِيَّة لا يحصلُ إلاَّ لمن كانَ ثَابِتاً في أصْنَافِ العُلُوم الشَّرْعِيَّةِ والفِعْلِيَّة.
فقوله: "التَّوْراة والإنْجِيلَ": إشارةٌ إلى الأسْرَار التي لا يطَّلِعُ عليْهَا أحدٌ إلاَّ الأكَابِرَ من الأنْبِيَاء.
قوله تعالى: { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي }.
قرأ ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: "فَتَنْفُخُهَا" بحذف حرف الجر اتساعاً وقرأ الجمهور: "فتكونُ" بالتاء منقوطةً فوقُ، وأبو جعفر منقوطةً تحتُ، أي: فيكونُ المنفوخُ فيه، والضمير في "فِيهَا" قال ابن عطيَّة -رحمه الله -: "اضطربَتْ فيه أقوال المفسِّرين"؛ قال مكيٌّ: "هو في آل عمران [الآية 49] عائدٌ على الطائِرِ، وفي المائدةِ عائدٌ على الهَيْئَة"، قال: "وَيَصِحُّ عكْسُ هذا"، وقال غيرُ مكيٍّ: "الضميرُ المذكُور عائدٌ على الطِّين"، قال ابن عطية: " ولا يَصِحُّ عودُ هذا الضَّمير على الطَّيْر، ولا على الطين، ولا على الهيئة؛ لأنَّ الطير أو الطائر الذي يَجِيء الطِّين على هيئته، لا يُنْفَخُ فيه ألبتة، وكذلك لا نفخَ في هيئته الخاصَّة به، وكذلك الطينُ إنَّما هو الطينُ العامُّ، ولا نفخَ في ذلك"، وقال الزمخشريُّرحمه الله : "ولا يرجِعُ الضميرُ إلى الهيئةِ المضافِ إليها؛ لأنها ليست من خَلْقِه، ولا مِنْ نفخه في شيء، وكذلك الضميرُ في فَتَكُون"، ثم قال ابنُ عطيَّة -رحمه الله -: "والوجهُ عودُ ضميرِ المؤنَّث على ما تقتضيه الآيةُ ضرورةً، أي: صُوَراً، أو أشكالاً، أو أجْساماً، وعودُ الضمير المذكَّر على المخلوقِ المدلولِ عليه بـ "تَخْلُقُ"، ثم قال: ولَكَ أن تعيدَهُ على ما تَدُلُّ عليه الكافُ من معنى المثل؛ لأنَّ المعنى: وإذ تَخْلُقُ من الطِّينِ مثل هيئته، ولك أن تعيده على الكاف نَفْسِهَا، فتكون اسماً في غيرِ الشِّعْر". انتهى، وهذا القولُ هو عينُ ما قبله، فإنَّ الكافَ أيضاً بمعنى مثل، وكونُها اسماً في غير الشعرِ، لم يَقُلْ به غيرُ الأخفَشِ.
واستشكل الناسُ قولَ مكيٍّ المتقدِّمَ؛ كما قدَّمْتُ حكايته عن ابن عطية رضي الله عنه. ويمكنُ أن يُجابَ عنه بأنَّ قوله "عائدٌ على الطَّائِرِ" لا يريدُ به الطائِرَ الذي أُضيفَتْ إليه الهيئةُ، بل الطائرُ المُصَوَّرُ، والتقدير: وإذ تخلُقُ من الطِّينِ طائراً صورةَ الطائرِ الحقيقيِّ، فتنفخُ فيه، فيكونُ طائراً حقيقيًّا، وأنَّ قوله "عائدٌ على الهيئة" لا يريدُ الهيئةَ المجرورةَ بالكاف، بل الموصوفة بالكاف، والتقدير: وإذ تخلُقُ من الطِّينِ هيئةً مِثْلَ هيئةِ الطَّائر، فتنفخُ فيها، أي: في الموصُوفَة بالكاف الَّتِي نُسِبَ خَلْقُهَا إلى عيسى - عليه السلام - وأمَّا كونُه كيف يعودُ ضميرٌ مذكَّر على هيئةٍ، وضميرٌ مؤنثٌ على الطائرِ [لأنَّ قوله: "ويجُوزُ عكْسُ هذا" يؤدي إلى ذلك؟ فجوابُه أنه جازَ بالتأويل؛ لأنه تُؤوَّلُ الهيئةُ بالشكْل، ويُؤوَّل الطائرُ] بالهيئةِ؛ فاستقام، وهو موضعُ تَأمُّلٍ، وقال هنا "بإذْنِي" أربعَ مراتٍ عَقِيبَ أربع جمل، وفي آل عمران "بإذْنِ الله" مرتَيْن؛ لأنَّ هناك موضعَ إخبارٍ، فناسَبَ الإيجازَ، وهنا مقامُ تذكيرٍ بالنعمةِ والامتنانِ، فناسبَ الإسهابَ؛ وقوله "بإذْنِي" حالٌ: إمَّا من الفاعلِ، أو من المفعول.
قوله: { وَتُبْرِئُ ٱلأَكْمَهَ وَٱلأَبْرَصَ بِإِذْنِي } قال الخَلِيلِيُّ: من وُلِدَ أعْمَى، ومَنْ وُلِدَ بصيراً ثُمَّ أعْمِي.
قوله تعالى: { وَإِذْ تُخْرِجُ ٱلْمَوتَىٰ }: من قُبُورِهِم أحْيَاء "بإذْنِي"، أي: بفِعْلي ذلك عند دُعائِك، أي: عند قولِكَ للميِّت: اخْرُجْ بإذْنِ اللَّهِ، وذلك الإذْنُ في هذه الأفاعِيلِ، إنَّما هُو على مَعْنَى إضافَةِ حَقيقَةِ الفِعْلِ إلى الله - تبارك وتعالى - كقوله: { { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } [آل عمران: 145] أي: إلاَّ بِخَلْقِ اللَّهِ الموْتَ فيها.
قوله تعالى: { وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ } يعني: الوَاضِحَة والمُعْجِزَات الظَّاهِرَة، وقيل: المُرادُ بالبَيِّنات الظَّاهِرَةِ هذه البَيِّناتُ التي تقدَّم ذكرُها، فيكون الألفُ واللاَّمُ لِلْمَعْهُود.
رُوِي أنَّهُ - عليه الصلاة والسلام - لمَّا أظْهَرَ هذه المُعْجِزات العَجِيبَة، قَصَدَ اليهُود قَتْلَه، فخلَّصَهُ اللَّهُ تعالى مِنْهم، حَيْثُ رفَعَهُ إلى السَّمَاء.
قوله: { فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }.
قرأ الأخوانِ هنا وفي هودٍ [الآية 7] وفي الصَّف [الآية 6] "إلاَّ سَاحِرٌ" اسم فاعل، والباقون: "إلاَّ سِحْرٌ" مصدراً في الجميع، والرسمُ يحتمل القراءتَيْنِ، فأمَّا قراءةُ الجماعةِ، فتحتملُ أن تكون الإشارةُ إلى ما جاءَ به من البيِّنات، أي: ما هذا الذي جاء به من الآيات الخوارِق إلا سِحْرٌ، ويُحْتمل أن تكون الإشارةُ إلى عيسى - عليه الصلاة والسلام - جَعَلُوه نفس السحْر مبالغةً؛ نحو: "رَجُلٌ عَدْلٌ"، أو على حذفِ مضافٍ، أي: إلاَّ ذُو سِحْرٍ، وخَصَّ مكي -رحمه الله تعالى - هذا الوجه بكون المرادِ بالمشار إليه محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: "ويجوزُ أن تكونَ إشارةً إلى النبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم على تقدير حَذْفِ مضافٍ، أي: إنْ هذا إلاَّ ذُو سِحْرٍ". قال شهاب الدين: وهذا غَيْرُ جائزٍ، والمرادُ بالمشار إليه عيسى عليه السلام، وكيف يكونُ المرادُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو لَمْ يكن في زَمَنِ عيسى - عليه الصلاة والسلام - والحواريِّين؛ حتى يشيروا إليه إلا بتأويلٍ بعيدٍ؟ وأمَّا قراءةُ الأخوَيْن، فتحتمل أن يكون "سَاحِرٌ" اسم فاعلٍ، والمشارُ إليه "عيسى"، ويُحتمل أن يكونَ المرادُ به المصدرَ؛ كقولهم: عَائِذاً بِكَ وعَائِذاً بالله مِنْ شَرِّهَا، والمشارُ إليه ما جاء به عيسَى من البيِّنات والإنجيلِ، ذكر ذلك مَكي، وتبعَهُ أبو البقاء، إلا أنَّ الواحديَّ مَنَعَ مِنْ ذلك؛ فقال - بعد أنْ حَكَى القراءتَيْنِ -: وكلاهُمَا حَسَنٌ؛ لاستواءِ كلِّ واحدٍ منهما في أنَّ ذِكْرَهُ قد تقدَّم، غير أنَّ الاختيار "سِحْر"؛ لجوازِ وقوعه على الحَدَثِ والشَّخْص، أمَّا وقُوعه على الحدث، فسهلٌ كثير، ووقُوعه على الشخْصِ يريدُ ذُو سحْرٍ؛ كقوله تعالى: { { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ } [البقرة: 177]، وقالوا: "إنما أنت سيرٌ" و"ما أنت إلا سيرٌ"، و[البسيط]
2085-................................. فَإنَّما هِيَ إقْبَالٌ وإدْبَارُ
قلتُ: وهذا يرجِّحُ ما قدَّمْتُه من أنه أطْلَقَ المصْدر على الشخص؛ مبالغةً؛ نحو: "رَجُلٌ عَدْلٌ"، ثم قال: "ولا يجوزُ أنْ يُرادَ بساحرٍ السِّحْرُ، وقد جاء فاعل يراد به المصدرُ في حروفٍ ليست بالكثير، نحو: "عَائِذاً بالله من شَرِّهِ"، أي: عِيَاذاً، ونحو "العافية" ولم تَصِرْ هذه الحروفُ من الكثرة بحيثُ يسوغُ القياس عليها".
وإن قيل: إنَّهُ - تعالى - عدَّدَ هُنَا نِعمَ اللَّه تعالى على عيسى - عليه السلام -، وقولُ الكُفَّار في حقه { إن هذا إلاَّ سِحْرٌ مبينٌ }، ليس من النِّعَمِ، فكيف ذكره هنا؟.
فالجوابُ إنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ، فَطَعْن الكُفَّار في عيسى - عليه السلام - بهذا الكلام، يَدُلُّ على أنّ نِعْمَةِ الله كانت في حقِّه عَظِيمَة، فَحَسُنَ ذِكْرُه عند تعديد النِّعم من هذا الوجه.