خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٣٨
فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣٩
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٤٠
-المائدة

اللباب في علوم الكتاب

"و" في اتِّصالها وجهان:
الأوَّل: أنه لما أوْجَبَ في الآية المتقدِّمة قَطْع الأيْدي والأرْجُل عند أخذ المالِ على سبيل [المحاربة، بيَّن في هذه الآية أن أخذ المال على سبيل] السَّرِقَة يُوجبُ قطع الأيدي، والأرجُل أيضاً.
الثاني: أنَّهُ لما ذكر تَعْظِيم أمْر القَتْلِ حيث قال: { مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ [أَو فسادٍ في الأرض] فكأنما قتل النَّاس جميعاً ومنْ أحيَاها فكأنَّما أحْيَا النَّاس جميعاً } ذكره بعد الجنايات التي تُبيحُ القَتْلَ والإيلام فذكر:
أولاً: قطع الطريق.
وثانياً: من السَّرقة.
قوله تعالى: "والسَّارقُ والسَّارقَةُ" قرأ الجمهور بالرفع.
وعيسى بن عُمَر وابن أبي عبلة بالنَّصْبِ.
ونقل عن أبيّ: "والسُّرَّق والسُّرَّقة" بضم السِّين وفتح الرَّاء مُشَدَّدَتَيْن؛ قال الخَفَّاف: "وجدته في مُصْحَفِ أبَيّ كذلك".
وممن ضبطهما بما ذكرت أبو عمرو، إلاَّ أن ابن عطيَّة جعل هذه القِراءة تَصْحيفاً [فإنَّه قال: "ويُشبهُ أنْ يكُون هذا تَصْحِيفاً] من الضابط". لأن قراءة الجماعة إذا كتبت: "والسّرق": بغير ألف وافقت في الخط هذه، قلت: ويمكن توجيه هذا القِرَاءة بأنَّ "السرق" جمع "سَارِق"، فإنَّ فُعَّلاً يَطّرد جَمْعاً لفاعِل صِفَةً، نحو ضارِب وضُرَّب.
والدَّليل على أنَّ المراد الجمع قراءة عبد الله "والسَّارقون والسَّارقَات" بصيغتي جمع السلامة، فدلَّ على أنَّ المُرَاد الجَمْع، إلا أنه يَشْكُل في أنّ "فُعَّلا" يكُون من جمع: فاعِل وفاعلة تقول: نِسَاءٌ ضُرَّب، كما تقول: رِجَالٌ ضُرَّب، ولا يُدْخِلُون عليه تاء التَّأنِيث حيث يُرادُ به الإنَاثُ، والسُّرَّقة هنا - كما رأيت - في هذه القراءة بِتَاءِ التَّأنيث، حيث أُرِيد بـ "فُعَّل" جمع فاعلة، فهو مُشْكِلٌ من هذه الجِهَة لا يقال: إن هذه التَّاء يجوز أن تكُون لِتَأكِيد الجمع؛ لأنَّ ذلك محفُوظٌ لا يُقَاس عليه نحو: "حِجَارة" وأمَّا قِرَاءَةُ الجُمْهُور فَفِيهَا وجهان:
أحدهما: هو مذهَبُ سيبَوَيْه، والمشهُور من أقوال البَصريِّين أن "السَّارِق" مبتدأ مَحْذُوف الخَبَر تقديرُهُ: { فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُم } أو فيما فَرَضَ - "السَّارِق" و"السَّارِقَة" أي: حُكم السَّارِق، وكذا قوله:
{ { ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ } [النور: 2].
ويكون قوله: "فَاقْطَعُوا" بياناً لذلك الحُكم المقدَّر، فما بعد الفاء مُرْتَبِطٌ بما قَبْلَها، ولذلك أتى بها فيه؛ لأنَّهُ هُوَ المَقْصُود.
ولو لم يَأتِ بالفَاءِ لَتوهّم أنه أجْنَبِيّ والكلامُ على هذا جُملتان: الأولى: خَبَريَّة، والثَّانية: أمْرِيَّة.
والثاني: وهو مذهب الأخْفَش، ونُقِلَ عن المُبَرِّد وجماعة كثيرة أنَّهُ مُبْتَدأ أيضاً، والخبر الجُمْلَةُ الأمْرِية من قوله: "فاقْطَعُوا"، وإنَّما دخلت الفاء في الخَبَر؛ لأنه يُشْبِهُ الشَّرْط؛ إذ الألِفُ واللاَّم فيه موصُولة، بمعنى "الَّذِي" و"الَّتِي" والصفَةُ صلتُهَا، فهي في قُوَّةِ قولك: "والذي سرق والتي سَرَقَت فاقْطَعُوا"، وهو اختيار الزَّجَّاج. وما يدلُّ على أنَّ المراد من الآيَة الشَّرْط والجزاء وُجُوه:
الأوَّل: أنه تعالى صَرَّح بذلك في قوله تعالى { جَزَاء بما كَسَبَا }. وهذا يدلُّ على أنَّ القَطْع جزاءٌ على فِعْل السَّرِقة، فوجَبَ أن يَعُمَّ الجَزَاء لعُموم الشَّرط.
والثاني: أن السَّرِقة جناية، والقطع عُقُوبة، فربط العُقُوبة بالجناية مناسب، وذكر الحُكم عَقِيب الوَصْف المُنَاسب يدلُّ على أنَّ الوصْفَ عِلَّة لذلك الحُكم.
الثالث: أنّا إذا حملنا الآيَة على هذا الوجه كانت [الآية] مُفِيدة، ولوْ حملْنَاها على سَارِقٍ مُعَيَّن صَارَت مُجْمَلة غير مفيدة، فالأوَّل أوْلى.
وأجاز الزمَخْشَري الوجهَيْن، ونسب الأوَّل لسيبَويه، ولم يَنْسِبِ الثَّانِي، بل قال: وَوَجْهٌ آخر، وهو أن يَرْتفعَا بالابْتداء، والخبر: "فَاقْطَعُوا".
وإنما اخْتَارَ سيبوَيْه أنَّ خبره مَحْذوف كما تقدَّم تقديرُه دون الجُمْلَة الطَّلَبِيَّة بعده لوجْهَيْن:
أحدهما: النَّصْب في مثله هو الوجه في كلام العرب، نحو: "زَيْداً فاضْرِبْهُ" لأجل الأمْرِ بعده.
قال سيبويه في هذه الآية: الوجْهُ في كلام العرب النَّصب، كما تقول "زَيْداً فاضْرِبْه"، ولكن أبتِ العَامَّةُ إلاَّ الرَّفع.
والثاني: دخول الفَاءِ في خَبَره، وعنده أنَّ "الفَاء" لا تدخل إلا في خبر الموصُول الصَّرِيح كـ "الذي"، و"من"، بشُرُوط أخر مذكورة في كُتُبِ النَّحْو، وذلك لأنَّ الفَاء إنَّما دَخَلَتْ لِشَبَهِ المُبْتَدأ بالشَّرْط، واشْتَرَطُوا أن تَصْلُح لأداة الشَّرْط من كَوْنِهَا جُمْلَة فعلية مستقبلة المَعْنَى، أو ما يقوم مقامَها من ظَرْفٍ وشِبْهِهِ، ولذلك إذا لم تَصْلُح لأداة الشَّرْط، لم يَجُزْ دخول الفَاء في [الخبر، وصِلَةُ "أل" لا تَصْلُح لِمُبَاشرة أدَاةِ الشَّرْط فلذلك لا تدخل الفاء في] خبرها، وأيضاً فـ "ألْ" وصلَتُها في حكم اسْمٍ واحدٍ، ولذلك تَخَطَّاهَا الإعْرَاب.
وأما قِرَاءة عِيسى بن عمر، وإبراهيم: فالنَّصْب بفعل مُضْمَرٍ يُفَسِّره العَامِل في سببيهما نحو: "زَيْداً فأكْرِمْ أخاهُ"، والتقدير: "فعاقِبُوا السَّارِق والسَّارِقَة" تقدِّره فِعْلاً من معناه، نحو "زَيْداً ضَرْبتُ غُلامه"، أي: "أهَنْتُ زَيْداً".
ويجُوز أن يقدَّر العامِل موافقاً لَفْظاً؛ لأنَّه يُسَاغ أن يُقَال: قطعت السَّارِق وهذه قراءة واضِحَة لمكان الأمر بعد الاسم المُشْتَغِل عَنْهُ.
قال الزَّمَخْشَرّيُّ: وفَضَّلها سيبوَيْه على قِرَاءَة العامَّة؛ لأجل الأمْر؛ لأن "زَيْداً فاضْرِبْه" أحْسَن من "زيدٌ فاضْرِبه".
وفي نقله تَفْضيل النَّصْب على قراءة العامَّة نظر، ويظهر ذلك بنصِّ سيبويه.
قال سيبويه: الوجْهُ في كلام العرب النَّصْب، [كما تقُول: "زيداً اضْرِبْه"؛ ولكن أبت العامَّة إلا الرَّفع، وليس في هذا ما يَقْتَضِي تَفْضِيل النَّصْب بل مَعْنى] كلامه أن هذه الآية لَيْسَتْ من الاشتِغَال في شَيْء؛ إذ لو كان من باب الاشْتِغَال لكانَ الوَجْهُ النَّصب، ولكن لم يقْرَأها الجُمْهُور إلا بالرَّفْع، فَدَلَّ على أنَّ الآيَة محمولة على كلامين كما تقدَّم، لا على كلامٍ واحد، وهذا ظَاهِرٌ.
وقد رد ابن الخَطِيب على سيبويه بِخَمْسَةِ أوْجُه، وذلك أنه فهم كما فهم الزَّمَخْشَرِيُّ من تفضيل النًّصْب، فقال: الذي ذهب إليه سيبويه ليس بِشَيْء، ويدل على فَسَادِه وُجُوه:
الأول: أنه طعنٌ في القِرَاءة المُتَوَاتِرَة المَنْقُولة عن الرَّسُول وعن أعْلام الأمَّة، وذلك بَاطِلٌ قَطْعاً، فإن قال سيبويه: لا أقُول: إنَّ القراءة بالرَّفْع غير جَائِزة، ولكنِّي أقُول: قِرَاءة النَّصْب أوْلَى، فنقول: رَدِيءٌ أيْضاً؛ لأن تَرْجِيح قِرَاءة لم يَقْرَأ بِها إلاَّ عيسَى بن عمر على قِرَاءة الرَّسُول وجميع الأمَّة في عَهْد الصَّحابة والتَّابعين أمر مُنْكَر، وكلام مَرْدُودٌ.
الثاني: لو كانت القراءة بالنَّصْب أوْلَى، لَوَجَبَ أنْ يكون في القُرَّاء من يَقْرأ: { واللّذين يَأتيَانها مِنكُمْ فآذُوهُمَا } [النساء: 16]، بالنَّصْب، ولمَّا لم يوجد في القُرَّاء من يقرأ كذلك، عَلِمْنا سقوط هذا القَوْل.
الثالث: أنَّا إذا جَعَلْنَا "السَّارِق والسَّارِقة" مُبْتَدأ، وخبره مُضمَر وهو الذي يقدِّره "فيما يُتلَى عليْكُم" بقي شيءٌ آخر يتعلَّق به الفاء في قوله: "فَاقْطَعُوا".
فإن قال: الفاء تتعلَّق بالفعل الذي دلَّ عليه قوله: { والسَّارِق والسَّارِقَةُ }، يعني: أنَّه إذا أتى بالسَّرِقة فاقْطَعُوا يَدَهُ.
فنقول: إذا احْتجت في آخِر الأمْر أنْ تَقُول: السَّارِق والسَّارِقة تقديره: "مَنْ سَرَقَ"، فاذكر هذا أوَّلاً، حتى لا تَحْتَاج إلى الإضْمَار الذي ذكرته.
الرابع: أنا إذا اخْتَرْنَا القراءة [بالنصب لم يَدُلَّ ذلك على أنَّ السَّرِقة علةٌ لوجُوب القَطْع، وإذا اخْتَرْنَا القِرَاءة بالرَّفْع] أفادتِ الآيةُ هذا المَعْنَى ثم إنَّ هذا المعنى مُتأكد بقوله تعالى: { جَزَاءً بِمَا كَسَبَا }، فثَبَت أنَّ القراءة بالرَّفْعِ أوْلَى.
الخامس: أنَّ سيبويه قال: "وَهُم يُقَدِّمُون الأهَمَّ، والذي هم بِبَيَانه أعْنَى" فالقِرَاءة بالرَّفْع تَقْتَضِي تقْديم ذكر كَوْنه سَارِقاً على ذِكْرِ وُجُوبِ القَطْع، وهذا يَقْتَضِي أن يكُون أكبر العِنَايَةِ مَصْرُوفاً إلى شَرْح ما يتعلَّق بِحَال السَّارِق مِنْ حَيْثُ إنَّه سَارِقٌ.
وأمَّا قراءة النَّصْبِ، فإنها تَقْتَضِي أنْ تكُون العِنَايَةُ بِبَيانِ القَطْع أتم من العِنايَة بكونه سَارِقاً، ومَعْلُوم أنَّه لَيْسَ كذلك، فإنَّ المَقصُود في هذه الآية تَقْبِيحُ السَّرِقَة، والمُبَالَغة في الزَّجْر عنها، فثبت أنَّ القراءة بالرَّفْع هي المُتعينَة. انتهى ما زعَم أنه رَدّ على إمَام الصِّنَاعة، والجواب عن الوجْهِ الأوَّل ما تقدَّم جواباً عمَّا قالهُ الزَّمَخْشَرِي [وقد تقدَّم]، ويُؤيِّدُه نصُّ سيبويه، فإنَّه قال: وقد يَحْسُن ويستَقِيمُ: "عَبْدُ الله فاضْرِبْه"، إذا كان مَبْنِيّاً على مُبْتدأ مُظْهر أو مُضْمَر.
فأمَّا في المُظْهَر، فقوله: "هَذَا زَيْدٌ فاضْرِبْه" وإن شِئْتَ لم تُظْهِر هذا، ويعمل كعملِهِ إذا كان مُظْهراً، [وذلك] قولُك: "الهِلال والله فانْظُرْ إليه"، فَكَأنَّك قُلْت: "هذا الهِلالُ"، ثُمَّ جِئْت بالأمْر.
ومن ذلك قول الشَّاعِر: [الطويل]

1963- وقَائِلَةٍ: خَوْلانُ فَانِكحْ فَتَاتَهُمْ وَأكْرُومةُ الحَيَّيْنِ خِلْوٌ كَمَا هِيَا

هكذا سُمِعَ من العربِ تُنْشِدُهُ، يعني بِرَفْعِ "خَوْلان"، فمع قوله: "يَحْسُن ويستقيم" كيف [يكون] طاعِناً في الرَّفْع؟.
وقوله: "وإن قَالَ سيبويه..." الخ فسِيبَويْه لا يقول ذَلِكَ، وكَيْفَ يَقُولُهُ، وقد رَجح الرَّفع بما أوْضَحْتُهُ.
وقوله: "لَمْ يَقْرأ بها إلاَّ عيسى" لَيْس كما زَعَمَ بل قَرَأ بها جماعةٌ كإبْراهيم بن أبي عَبْلَة.
وأيضاً فهؤلاء لم يَقْرءُوهَا من تِلْقَاءِ أنْفُسِهِم، بل نَقَلُوهَا إلى أنْ تَتّصل بالرَّسُول صلى الله عليه وسلم، غاية ما في البَابِ أنَّها لَيْسَت في شُهْرَةِ الأولى.
وعن الثاني: أنَّ سيبويه لم يَدَّعِ تَرْجيحَ النَّصْب حتى يُلْزَم بما قَاله، بل خَرَّج قراءة العامَّة على جُملتَيْن، لما ذكرت لَكَ فيما تقدَّم من دُخُول الفاءِ، ولذلك لمَّا مثَّل سيبويه جُمْلَة الأمْرِ والنَّهْي بعد الاسْمِ مثلهما عاريَتَيْن من الفَاء، قال: وذلِكَ قولك: "زَيْداً اضْربْه" و"عَمْراً امْرُر به".
[وعن] الثالث: ما تقدَّم من الحِكْمَة المُقْتَضِيَة للْمَجِيء بالفاء، وكونها رَابِطَةٌ للحكم بما قَبْلَه.
وعن الرابع: بالمنع أن يكون بَيْن الرَّفْع والنَّصب فَرْق، بأنَّ الرَّفع يَقْتَضِي العِلَّة، والنَّصْب لا يَقْتَضِيه، وذلك أنَّ الآيَة من باب التَّعْلِيل بالوَصْفِ المرتَّب عليه الحُكْم، ألا ترى أن قولك: "اقطع السَّارق" يفيد العِلَّة، [أي: إنَّه] جعل عِلَّة القَطْع اتِّصافه بالسَّرِقة، فهذا يُشْعِر بالعِلَّة مع التصريح بالنصب.
الخامس: أنهم يُقَدِّمون الأهَمَّ، حيث اخْتَلَفَتِ النِّسْبَةُ الإسْنَادية كالفاعل مع المفعول، ولنسرد نصّ سيبويه ليتبين ما ذكرْنَاه.
قال سيبَوَيْه: فإن قدَّمْت المَفْعُول، وأخَّرْت الفاعل جرى اللَّفظ كما جَرَى في "الأوَّل"، يعني في "ضَرَب عَبْدُ الله زَيْداً" قال: "وذلك: ضَرَبَ زيداً عبد الله لأنَّك إنَّما أردت به مُؤخَّراً ما أرَدْت به مُقَدَّماً، ولم تُرِدْ أن يَشْتَغِل الفِعْل بأوَّل منه، وإن كان مُؤخَّراً في اللَّفْظ، فمن ثَمَّ كان حَدُّ اللَّفْظِ أن يكون فيه مُقَدَّماً، وهو عربي جيد كثير، لأنهم يُقَدِّمُون الذي بَيَانُه أهَمُّ لهم، وهم ببيانهِ أعْنَى، وإن كانا جَمِيعاً يُهِمَّانِهم ويعنيانهم". والآيَةُ الكَريمَةُ لَيْسَت من ذلك.
قوله: "أيْدِيهمَا" جمع واقعٌ موقِع التَّثْنِية: لأمْن اللَّبْس، لأنَّهُ معلُوم أنَّه يقطع من كل سَارِق يَمِينه، فهو من باب
{ { صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [التحريم: 4]، ويدلُّ على ذلك قراءة عبد الله: "فاقْطَعُوا أيْمَانَهُمَا" واشْتَرَط النَّحْوِيُّون في وُقُوع الجَمْعِ موقع التَّثْنِية شُرُوطاً، من جملتها: أنْ يكون ذلك الجُزْء المُضَاف مُفْرَداً من صاحِبِه نحو: "قُلُوبكما" و"رُوس الكَبْشَيْنِ" لأمْنِ الإلْبَاس، بخلافِ العَيْنَيْنِ واليَدين والرِّجليْن، لو قلت: "فَقَأت أعينهما"، وأنت تعني عينيهما، و"كتَّفْت أيديهمَا"، وأنت تعني "يديهما" لم يَجُزْ للَّبْسِ، فلوْلاَ أنَّ الدَّلِيل دَلَّ على أنّ المُرَاد اليَدَان اليُمْنَيَان لما ساغَ ذلك، وهذا مُسْتَفِيض في لِسانِهم - أعني وُقُوع الجَمْع مَوْقِع التَّثْنِيَة بِشُرُوطه - قال تعالى: { { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [التحريم: 4]، ولنذكر المسْألة، فنقول: كُلُّ جزْأين أضيفا إلى كِليْهِما لفظاً أو تقديراً، وكانا مُفْرَدَيْن من صَاحبيْهِمَا جاز فيهما ثلاثة أوجُه:
الأحسن: الجمع، ويليه الإفْرَاد عند بَعْضِهم، ويليه التَّثْنِية، وقال بعضهم: الأحْسَنُ الجَمْع، ثم التَّثْنِية، ثم الإفْرَاد، نحو: "قَطَعْتُ رُءُوس الكَبْشَيْن، ورَأس الكَبْشَيْن ورَأسَي الكَبْشَين".
وقال سامَحَهُ اللَّهُ وعَفَا عَنْهُ: [السريع أو الرجز]

1964- ومَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْن ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْنْ

فقولنا: "جزآن" تَحَرُّز من الشَّيئين المُنْفَصِلَيْن، لو قلت: "قَبَضت دَرَاهِمكُمَا" تعني: دِرْهَمَيْكُما لم يَجُزْ لِلَّبْسِ، فلو أمِنَ جَازَ، كقوله: "اضْرِبَاه بِأسْيَافِكُمَا"إلى مَضَاجِعِكُمَا"، وقولنا: "أُضِيفَا" تحرُّز من تفرُّقِهِمَا، كقوله: { { عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ } [المائدة: 78]، وقولنا: "لَفْظاً"، تقدَّم مِثَاله، فإنَّ الإضافَة فيه لَفْظِيَّة.
وقولُنا: "أو تَقْدِيراً" نحو قوله: [الطويل]

1965- رَأيْتُ بَنِي البَكْرِيِّ فِي حَوْمَةِ الوَغَى كَفَاغِرَي الأفْوَاهِ عِنْدَ عَرينِ

فإن تقديره: كَفَاغِرين أفَواهَهُمَا.
وقولنا: "مُفَرَدَيْن" تحرُّز من العَيْنَيْن ونحوهما، وإنما اخْتِير الجَمْعُ على التَّثْنِية، وإن كان الأصْل لاسْتِثْقَال تَوَالي تَثْنِيَتَيْنِ، وكان الجَمْع أوْلَى من المُفْرَد لِمُشَارَكَة التَّثْنِيةِ في الضَّمِّ، وبعده المُفْرد لعدم الثِّقَلِ، هذا عِنْد بَعْضِهِم قال: لأنَّ التَّثْنِيَة لم ترد إلا ضرورةً، كقوله - رحمةُ الله عليه - [الطويل]

1966- هُمَا نَفَثَا فِي فِيَّ مِنْ فَمَويْهمَا عَلَى النَّابحِ العَاوِي أشَدَّ رِجَامِ

بخلاف الإفْرَاد فإنَّه ورد في فَصِيح الكلام، ومنه: "مَسَحَ أذنَيْهِ ظَاهِرَهُمَا وبَاطِنَهُمَا".
وقال بعضهم: الأحسنُ الجَمْعُ، ثم التَّثْنِيَة، ثُمَّ الإفراد كقوله: [الطويل]

1967- حَمَامَةَ بَطْنِ الوَادِيَيْنِ تَرَنَّمِي سَقاكِ مِنَ الغُرِّ الغَوَادِي مَطِيرُهَا

وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْدِيَهُمَا: يَدَيْهُمَا، ونحوُهُ: { { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [التحريم: 4] اكْتَفَى بتثنيةِ المضافِ إليه عَنْ تَثنيةِ المضافِ، وأُريد باليدين اليُمْنَيَان بدليلِ قراءةِ عبد الله: "والسَّارِقُونَ والسَّارِقَاتُ فاقْطَعُوا أيْمَانَهُمْ" وردَّ عليه أبو حيَّان بأنهما لَيْسا بِشَيْئَيْنِ، فإن النوعَ الأوَّلَ مُطّرد فيه وضْعُ الجمعِ مَوْضِعَ التَّثْنِيَةِ، بخلافِ الثاني فإنه لا يَنْقَاسُ، لأن المتبادر إلى الذِّهْنِ من قولك: "قَطَعْتُ آذانَ الزَّيْدَيْن": "أربعة الآذان" وهذا الردّ ليس بشيء؛ لأنَّ الدليل دَلَّ على أنَّ المرادَ اليمنيان.
فصل من أول من قطع في حد السرقة؟
قال القُرْطُبي: أولُ مَنْ حُكم بقطع [اليد] في الجاهليةِ ابنُ المُغِيرةِ، فأمر الله بقطعِهِ في الإسلام، فكان أول سارقٍ قطعه رسولُ الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في الإسلامِ، مِنَ الرِّجَالِ الخِيَارَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَاف ومن النساء مُرَّة بنت سُفْيَانَ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، وقطع أبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - يَدَ الْفَتَى الذي سَرَقَ العِقْد، وقطع عُمَرُ - رضي الله عنه - يدَ ابن سَمُرَة أخِي عَبْد الرَّحْمن بن سَمُرَة.
فصل لماذا بدأ الله بالسارق في الآية؟
قال القرطبيّ: بَدَأ الله بالسارقِ في هذه الآيةِ قَبْلَ السَّارقةِ، وفي الزِّنَا بدأ بالزانيةِ، والحكمةُ في ذلك أنْ يُقالَ: لما كان حُبُّ المالِ على الرجالِ أغلبُ، وشهوةُ الاستمتاعِ على النساءِ أغْلَبُ بدأ بهما في الموضعين.
قوله تعالى: "جَزَاءً" فيه أرْبعةُ أوجُهٍ:
أحدُها: أنه منصوب على المصدر بفعلٍ مُقدَّرٍ، أيْ: جازُوهما جزاء.
الثاني: أنَّهُ مصدرٌ [أيضاً] لكنه منصوبٌ على معنى نوعِ المصدرِ؛ لأنَّ قوله: "فاقْطَعُوا" في قُوَّةِ: جَازُوهما بقطع الأيْدِي جَزَاءً.
الثالث: أنَّه منصوبٌ على الحالِ، وهذه الحال يحتملُ أن تكونَ من الفاعل، أي: مجازين لهما بالقطع بسبب كسبهما، وأنْ تكون من المضافِ إليه في "أيْدِيَهُمَا"، أي: في حال كونهما مُجَازَيْن، وجاز مجيء الحال من المضاف إليه، لأنَّ المضاف جُزْؤهُ، كقوله:
{ { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً } [الحجر: 47].
الرابع: أنَّهُ [مفعولٌ] مِنْ أجْلِهِ، أيْ: لأجْلِ الجزاءِ، وشروطُ النصب موجودة.
و"نَكَالاً" منصوبٌ كما نُصِب "جَزَاءً" ولم يذكر الزمخْشريُّ فيهما غيرَ المفعولِ مِنْ أجْلِهِ.
قال أبُو حيان: "تبع في ذلك الزَّجَّاج"، ثم قال: "وليس بجيِّدٍ إلاَّ إذا كان الجزاءُ هو النَّكالَ، فيكون ذلك على طريقِ البدلِ، وأمّا إذا كانا مُتَبَاينين، فلا يجوزُ ذلك إلا بوَسَاطَةِ حَرْفِ العطفِ".
قال شهابُ الدِّين: النَّكالُ: نَوْعٌ من الجزاء فهو بدلٌ منه، على أنّ الذي يَنْبغي أن يُقَال هنا إنَّ "جَزَاءً" مفعول من أجله، العامل فيه "فاقْطَعُوا"، فالجزاءُ عِلةٌ للأمر بالقطع، و"نَكَالاً" مفعولٌ مِن أجْله أيضاً العامل فيه "جَزَاءً"، والنَّكَالُ عِلّةٌ للجزاءِ، فتكون العلةُ مُعَلَّلةً بِشَيْءٍ آخرٍ، فتكون كالحال المتداخِلَةِ، كما تقول: "ضربتُه تَأدِيباً له إحْسَاناً إلَيْه"، فالتأدِيبُ علَّة للضرب، والإحسانُ علة للتأديب، وكلامُ الزمخشريِّ والزَّجاج لا يُنَافِي ما ذكرنا فإنَّه لا منافاة بين هذا وبين قولهما: "جزاءً" مفعولٌ مِنْ أجلْه، وكذلك "نَكَالاً" فتأمّله، فإنه وجه حسنٌ، فطاح الاعتراض على الزمخشري والزَّجَّاج، والتفصيلُ المذكورُ في قوله: "إلا إذا كان الجزاءُ هو النَّكَالَ"، ثم ظفرتُ بعد ذلك بأنه يجوز في المفعول له أن ينْصِبَ مَفْعُولاً آخر يكون علَّةً فيه، وذلك أنَ المعربين أجازوا في قوله تعالى:
{ { أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أَنَزَلَ ٱللَّهُ بَغْياً } [البقرة: 90] أن يكون "بَغْياً" مفعولاً له، ثم ذكروا في قوله: { أن يُنزِّل الله } أنه مفعولٌ له ناصبُه "بَغْياً"، فهو علةٌ له، صَرَّحُوا بذلك فَظَهَرَ ما قلت ولله الحمد.
و"بما" متعلق بـ "جَزَاءً"، و"ما" يجوزُ أنْ تكونَ مصدرية، أي: بكسبهما، وأنْ تكونَ بمعنى "الذي"، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ أي: بالذي كسباه، والباءُ سَبَبِيَّةٌ.
فصل
قال بعضُ الأصُوليِّين: هذه الآيةُ مُجْمَلَةٌ مِنْ وُجُوهٍ:
أحدها: أنَّ الحكمَ مُعلّق على السرقةِ، ومطلقُ السرقَةِ غيرُ مُوجِب القطع، بَلْ لا بد أنْ تكونَ هذه السرقةُ سرقَةً لمقدارٍ مَخْصُوصٍ من المالِ، وذلك القَدْرُ مذكورٌ في الآية، فكانت الآيةُ مُجْملةً.
وثانيها: أنَّهُ تعالى أوْجب قطع الأيمانِ والشمائِلِ وبالإجماع لا يجبُ قطعُهما معاً فكانت الآيةُ مجملةً.
وثالثها: أن اليدَ اسمٌ يتناولُ الأصابعَ وحدها، ويقعُ على الأصابع مع الكفِّ، والسَّاعِدِ إلى المِرْفَقَيْنِ، ويقعُ على كل ذلك إلى المنْكِبينِ، وإذا كانَ لَفْظُ اليدِ مُحْتَمِلاً لِكُلِّ هذه الأقسامِ والتعيينُ غَيْر مذكورٍ في هذهِ الآيةِ فكانتْ مُجْمَلةً.
ورابعها: أن قوله: "فاقْطَعُوا" خطابٌ مع قومٍ، فيحتملُ أنْ يكونَ هذا التكليفُ واقِعاً على مَجْموعِ الأمَّةِ، وأنْ يكونَ واقعاً على طائِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ منهم، وأنْ يكونَ على شَخْصٍ مُعَين منهم، وهو إمامُ الزمانِ كما ذهب إلَيْه الأكثرُون، ولمّا لم يكن التعيينُ مَذْكوراً في الآية كانتْ مُجْملةً، فثبتَ بهذه الوجُوهِ أنَّ هذه الآية مُجملةٌ على الإطلاقِ.
وقال قومٌ من المُحَقِّقِين: إنَّ الآية ليستْ مُجْمَلةً ألْبَتَة، وذلك لأنَّا بَيَّنَّا أنَّ الألفَ واللامَ في قوله تعالى "والسارقُ والسارقةُ" قائمانِ مقام "الذي" والفاءُ في قوله "فاقْطَعُوا" للجزاءِ، وكما أنَّ التقدير: الذي سَرَقَ فاقْطَعُوا يَدَهُ، ثُمَّ تأكّدَ هذا بقوله تعالى: { جَزاءً بما كَسَبَا } وذلك أنَّ الكَسْبَ لا بُدَّ وأنْ يكونَ المرادُ به ما تقدم ذِكرُهُ، وهو السَّرِقَةُ، فصار هذا الدليلُ على مَنَاطِ الحُكم [ومتعلقه] هو ماهية السرقة، ومقتضاهُ أنْ يَعُمَّ الجزاءُ أينما حصل الشرطُ. اللهَّم إلاَ إذا قام دليلٌ مُنْفصِلٌ يَقْتَضِي تخصيصَ هذا العامِّ، وأمّا قوله: "الأيْدِي" عامَّة، فنقول: مُقْتضاه قطعُ الأيدي، لكنَّه لما انعقَدَ الإجماعُ على أنه لا يجبُ قطعهُما معاً، ولا الابتداءُ [باليد] اليُسْرى، أخرجناه مِنَ الْعُمُومِ.
وأمَّا قوله: "لفظُ اليَدِ دَائرٌ بَيْنَ أشياء".
فنقولُ: لا نُسَلِّمُ، بل اليَدُ اسمٌ لهذا العُضْو إلى المنْكِبِ ولهذا السَّبَبِ قال تعالى:
{ { فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ } [المائدة: 6] ولولا دخولُ العَضُديْنِ في هذا الاسم، وإلاَّ لما احتيج إلى التَّقييدِ بقوله "إلى المرَافِقِ". فظاهرُ الآيةِ: يُوجِبُ قَطْعَ اليديْنِ من المنكِبَيْنِ كما هو قولُ الخوارج: إلاَّ أنَّا تركنا ذلكِ لدليلٍ مُنْفصل وأما قوله "رَابِعاً" يَحْتَمِلُ أن يكُونَ الخطابُ مع واحدٍ مُعَيَّنٍ.
قُلْنا: ظاهِرُه أنَّهُ خطابٌ مع [كُل أحدٍ]، تُرِكَ العملُ بِهِ، فلما صار مَخْصُوصاً بدليلٍ مُنْفَصِل فَيَبْقَى مَعمولاً به في الْبَاقِي فالحاصلُ أنَّا نقُولُ: الآيةُ عامةٌ صارت مَخْصُوصَةً بدلائِلَ مُنْفَصِلَة في بعضِ الصُّوَرِ، فيبقى حُجَّةً فيما عداهَا، وهذا القولُ أوْلَى من القول بأنها مُجْملة لا تُفِيدُ فائدَةً أصْلاً.
فصل لماذا لم يحد الزاني بقطع ذكره؟
قال القُرطبي: جعل الله حدَّ السرقةِ قطعَ اليدِ لتناوُلها المالَ، ولم يجعلْ حدَّ الزِّنَا قطعَ الذَّكرِ مع مُوافقَةِ الفاحشة به لأمورٍ:
أحدها: أن للسارقِ مثلَ يدِهِ التي قُطِعت، فإن انْزَجَرَ بِها اعتاضَ بالباقية، وليس للزَّانِي مثلُ ذكره، إذا قُطِعَ ولم يعتض بغيره لو انْزَجَرَ بقطعِهِ.
الثاني: أنَّ الحدَّ زجرٌ للمحدودِ ولغيره، وقطعُ يدِ السَّارقِ ظاهرٌ، وقطعُ الذكرِ في الزنا باطنٌ.
الثالث: أنَّ قطع الذكرِ إبطال للنَّسْلِ وليس في قطع اليد إبطالٌ للنسلِ.
فصل
قال جمهورُ الفقهاءِ: لا يجبُ القطعُ إلا بشرطيْن: قدرُ النصابِ، وأنْ تكونَ السرقةُ من حِرْزٍ.
قال ابن عباسٍ وابنُ الزُّبيْرِ والحسنُ البصريُّ - رضي الله عنهم - القدرُ غيرُ مُعْتبرٍ، والقطعُ واجبٌ في القليلِ والكثيرِ، والحرزُ أيضاً غَيْرُ مُعْتبرٍ، وهذا قولُ داود الأصْفهاني وقولُ الخوارجِ، وتمسكوا بعمومِ الآيةِ، فإنَّه لم يُذْكَرْ فيها النصابُ ولا الحرزُ، وتَخْصِيصُ عُمُومِ القرآنِ بخبرِ الواحدِ، وبالقياسِ غيرُ جائزٍ، واحتج الجمهورُ بأنه لا حاجة إلى القول بالتخصيصِ، بل نقولُ إنَّ لفظ السرقةِ لفظٌ عربيٌّ، ونحنُ بالضرورة، نعلمُ أنَّ أهْلَ اللغَةِ لا يقُولُونَ لِمَنْ أخذَ حَبَّةً مِنْ حِنْطَة الغَيْرِ أو تبنةً واحدةً أو كِسْرةً صغيرةً أنَّهُ سرق مالهُ، فعلمنا أنَّ أخذ مالِ الغيْرِ كيفما كان لا يُسَمَّى سرقَةً، وأيْضاً فالسرقةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ مُسارقَةِ عيْنِ المالِكِ [وإنَّما يُحْتَاجُ إلى مُسارقةِ عيْنِ المالِكِ] لَوْ كان المسروقُ أمْراً يتعلقُ به الرغبةُ في مَحَلّ الشُّحِّ والضِّنَّةِ حتَّى يَرْغَب السارقُ في أخذِهِ ويتضَايَقُ المسروقُ مِنْه فِي دَفْعِهِ إلى الغَيْرِ، ولهذا الطريق اعتبرنا في وُجوبِ القطعِ أخْذ المالِ مِنْ حِرْزِ المثل، لأنَّ مَا لا يكُونُ موضُوعاً في الْحِرْزِ لا يُحْتَاجُ في أخْذِهِ إلى مُسَارقَة الأعْيُنِ، فلا يُسَمَّى أخْذُه سَرِقَةً.
قال داودُ: نحن لا نُوجِبُ القطعَ في سرقة الجبَّةِ الواحدةِ، بل في أقَلِّ شَيْءٍ يُسَمَّى مالاً، وفي أقَلِّ شَيْءٍ يجري فيه الشُّحُّ والضِّنَّةُ، وذلك لأن مقاديرَ القِلَّةِ والكثْرة غيرُ مَضْبُوطَةٍ، فربَّما اسْتَحْقَر الملكُ الكبيرُ آلافاً مُؤلَّفَةً، وربما اسْتَعْظَمَ الفقيرُ طسُّوجاً، ولهذا قال الشافِعِيُّ - رضي الله عنه -: لو قال: لِفُلانٍ عليَّ مالٌ عَظِيمٌ، ثم فسره بالحبةِ، يقبل قوله فيه لاحتمالِ أنَّه كان عظيماً في نظره، أو كان عظيماً عنده لغاية فَقرِهِ وشدةِ احتياجِهِ إليه، ولما كانت مقاديرُ القِلَّةِ والكَثْرةِ غيْرَ مَضْبُوطةٍ، وَجَبَ بِنَاءُ الحكمِ على أقل ما يُسَمَّى مالاً.
وليس لقائلٍ أنْ يَسْتَبْعِدَ ويقُولَ: كيف يجوزُ [القطعُ في سرقةِ] الطسوجة الواحدةِ، فإنَّ الملحد قد جعلَ هذا طَعْناً في الشريعةِ فقال: اليدُ لما كانت قيمَتُها خَمسمائَةِ دينارٍ من الذَّهَبِ، فكيف تُقْطَعُ لأجل القليلِ من المالِ؟ ثُم إنْ أجَبْنَا عن هذا الطعنِ، بأنَّ الشرعَ إنما قطعَ يدهُ بسبب أنه تَحمَّل الدناءَةَ والخساسَةَ في سرقَةِ ذلك القدرِ القليلِ، فلا يَبْعُدُ أنْ يعاقبه الشرعُ بسبب تلك الدناءَةِ بهذه العُقُوبةِ العظيمةِ، وإذاً كَانَ هذا الجوابُ مَقْبُولاً مِنَّا في إيجابِ القطْعِ في القليلِ والكثيرِ، قال: ومِمَّا يدلُ على أنَّهُ لا يجوزُ تخصيصُ عمومِ القرآنِ هَاهُنَا بخبرِ الواحدِ، وذلك لأن القائلينَ بتخصيصِ هذا العمومِ اختلفُوا على وجوهٍ:
قال الشافعيُّ: يجبُ القطعُ في رُبْعِ دينارٍ، وروى فيه قوله عليه الصلاة والسلام
"لا قَطْعَ إلاَّ في رُبْعِ دينارٍ" وقال أبُو حنيفَةَ: لا يجبُ إلاَّ في عشرةِ دراهم مضرُوبة، وروى قوله عليه الصلاة والسلام "لا قطع إلا في ثَمنِ المجَنِّ" قال: والظاهر أنَّ ثمن المجَنّ لا يكون أقلَّ من عشرة دراهم.
وقال مالكٌ وأحْمدُ وإسحاقُ: يُقدر بثلاثةِ دراهم أو رُبْعِ دينار وقال ابنُ أبِي لَيْلَى: مُقَدَّرٌ بخمسةِ دراهمَ، وكلُّ واحدٍ من هؤلاءِ المجتهدين يطعنُ في الخبرِ الذي يرويه الآخرُ، فعلى هذا التقدير: فهذهِ المُخَصصَاتُ صارتْ متعارِضةً، فوجب ألاَّ يُلْتَفَتَ إلى شَيْءٍ مِنْها: ويُرْجع في معرفةِ حُكْمِ الله تعالى إلى ظاهرِ القرآنِ.
قال: وليس لأحدٍ أنْ يقول: إن الصحابة أجْمَعُوا على أنَّه لا يجبُ القطعُ إلاّ في مقدار مُعَيَّنٍ، قال: لأنَّ الحسنَ البصريَّ كان يُوجِبُ القطعَ بمجردِ السَّرِقَةِ، وكان يقولُ: احذر من قطع درهم، ولو كان الإجماعُ مُنْعَقِداً لما خالف الحسنُ البصري فيه مع قربه من زمنِ الصحابةِ - رضي الله عنهم -، وشدةِ احتياطِهِ فيما يتعلقُ بالدينِ، فهذا تقريرُ مذهَبِ الحسنِ البصْرِيِّ ومذهبِ داوُدَ الأصْفَهانِي، وأمَّا الفقهاءُ فقالوا: لا بُدَّ فِي وجوبِ القطعِ مِنَ الْقَدْرِ.
فقال الشافعيُّ: القطعُ في رُبْعِ دينارٍ فَصَاعِداً وهو نِصابُ السرقةِ، وسائِرُ الأشياءِ تُقَوَّمُ بِهِ، وقال أبُو حَنِيفَةَ والثَّوْرِيُّ لاَ يَجِبُ القطعُ في أقَل مِنْ عَشَرةِ دراهم مَضْرُوبة. ويُقَوَّم غيرُها به، وقال مالكٌ وأحمدُ: رُبْعُ دينارٍ [أو] ثلاثةُ دَرَاهِمَ، وقال ابنُ أبِي لَيْلَى: خَمْسةُ دراهِم، وحجةُ الشافعي - رضي الله عنه - ما رُوِي عن عائشةَ - رضي الله عنها - أن رسولَ الله صلى الله عليه وعلى وآله وسلم قال:
"القَطْعُ فِي رُبْعِ دينارٍ فَصَاعِداً" .
وحُجَّةُ مالكٍ - رضي الله عنه - ما رُوِيَ عَنْ نافعٍ عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قَطَعَ سارِقاً في مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثلاثةُ دَرَاهِمَ.
ورُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رضي الله عنه - أنَّهُ قطعَ السارقَ في أتْرُجَّةٍ قُوِّمَتْ بثلاثةِ دراهِمَ من صرف اثني عشر دينار، واحْتَجّ أبو حَنيفَةَ - رضي الله عنه - بأنَّه قول ابن مسعُودٍ - رضي الله عنه -، وبأن المجَنّ قيمتُهُ عَشَرةُ دراهِمَ، واحتج ابنُ أبِي لَيْلَى -رحمه الله - بِما روى أبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال:
"لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، ويَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدهُ" .
قال الأعْمَشُ: كانوا يَرَوْنَ أنَّهُ بيضُ الحديد والحبلُ، يرون أنه منها تُساوِي ثلاثةَ دراهم، ويحتج بهذا مَنْ يرى القطع في الشيء القليلِ، وعند الأكثرينَ محمولٌ على ما قاله الأعْمَشُ لحديثِ عائشةَ - رضي الله تعالى عنها -.
فإنْ قيل: إذا سرَقَ المالَ مِنَ السَّارِقِ، فقال الشافِعيُّ: لا يُقْطَعُ لأنَّهُ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ مالكٍ ومِنْ غَيْرِ حِرْزٍ.
وقال أصحابُ مالكٍ: حُرْمةُ المالِكِ عليه لم تَنْقَطِعْ عنه، وَيَدُ السارقِ كلا يد كالغاصب إذا سُرِقَ منه المالُ المغصُوب قُطع، فإنْ قيل: حِرْزُهُ كَلاَ حِرْزٍ. فالجوابُ: الحرْزُ قائمٌ والمالِكُ قائمٌ، ولم يَبْطُلِ الملك فيه.
فصل المذاهب فيما إذا كرر السارق السرقة
قال الشافعي: الرجل إذا سرق أولاً قطعت يده اليمنى، وفي الثانية رجله اليسرى وإذا سرق في الثالثة تقطع يده اليسرى، وفي الرابعة: رِجْلُهُ اليُمْنَى؛ لأنَّ السرقةَ عِلّةُ القطعِ وقد وُجدت وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - وأحْمَدُ والثَّوْرِيُّ - رضي الله عنهم -: لا يُقْطَع في الثالثةِ والرابعةِ، بلْ يُحْبَسُ.
فصل
قال أبُو حَنِيفَة والثَّوْرِيُّ: لا يُجْمَعُ بَيْنَ القَطْعِ والغُرْمِ، فإن غُرّم فلا قَطْعَ، وإن قُطِعَ سَقَطَ الغُرْمُ، وقال الشافعي وأحمد - رضي الله عنهما - يُغرّم إنْ تلف المسروقُ، وإنْ كان بَاقِياً رَدَّهُ.
وقال مَالِكٌ: يُقْطَعُ بِكُلِّ حالٍ، ويُغرّم إنْ كان غَنِياً، ولا يَلْزَمُه إن كان فقيراً، واستدل الشافعي بقوله عليه الصلاة والسلام
"على الْيَدِ مَا أخَذَتْ حَتَّى تُؤدِّيَهُ" ، ولأنَّ المسروقَ لَوْ كان بَاقِياً وَجَبَ رَدُّهُ بالإجْماعِ، ولأنَّ حق الله لا يَمْنَعُ حَقَّ العبادِ، بِدليلِ اجتماع الجزاءِ والقِيمةِ في الصَّيْدِ المَمْلُوكِ، ولأنَّه بَاقٍ على مُلْكِ مالِكِه إلى وقْتِ القطع.
فإنْ قيل: الحِرْزُ عادة ما نُصِبَ لِحفْظِ الأموالِ، وهو يَخْتَلِفُ في كُلِّ شَيْءٍ بحسبِ عَادَتِهِ.
قال ابنُ المُنْذرِ: لَيْسَ فِيهِ خَبَرٌ ثَابتٌ.
فالجوابُ: وإنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ لا قَطْعَ لقولِهِ عليه الصلاةُ والسلامُ:
"لا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ وَلاَ فِي حريسة جَبَلٍ، وإذَا آواها المراحُ والحرزُ فالقطعُ فيما بلغ ثمنَ المجَنّ" وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: "ليسَ على خائنٍ ولا مُنْتَهبٍ ولا مُخْتلِس قطعٌ" .
وإذا سَرَقَ من مالٍ فيه شُبْهَةٌ، كالعبدِ المسروقِ في مالِ سَيِّده، والولدِ من مال والدِهِ، والوالدِ من مالِ ولدِهِ، وأحدِ الشريكيْنِ من مالِ المشتركِ لا قَطْعَ عليه.
فصل فيما إذا اشترك جماعة في سرقة
إذا اشترك جماعةٌ في سرقَة نصابٍ مِنْ حِرْزٍ، فلا يَخْلُو: إمَّا أنَّ بعضهم يَقْدِرُ على إخراجه أوْ لا يَقْدِرُ إلا بمعاونِتِهم، فإنْ كان الأول فَقِيل: يُقْطَعُ، وقيل: لا يُقطعُ، وهو قولُ أبِي حَنيفَةَ والشافعي، فإذا نَقَبَ واحدٌ الحِرْزَ وأخَذَ الآخرُ، فإنْ كانَ انفردَ كل واحدٍ بِفعلِهِ دُونَ اتفاقٍ منهما، فلا قطْع على واحدٍ منهما، وإنْ تفاوتَا في النَّقْبِ وانفردَ أحدهما بالإخراجِ خاصةً، فإنْ دخل أحدُهما وأخرجَ المتاعَ إلى باب الحرْزِ فأدخل الآخرُ يدَهُ فأخذه، فعليه القطعُ ويُعاقبُ الأولُ، وقيل: يُقْطعانِ وإنْ وضعه خارج الحِرْز فعليه القطعُ لا على الآخذِ.
فصل في حكم النبّاش
والقبرُ والمسجدُ حِرْزٌ فَيُقْطَعُ النَّباشُ عند الجمهور، وقال أبُو حنيفةَ: لا يقطعُ؛ لأنَّه سرق مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ مالاً مُعَرَّضاً لِلتَّلفِ لا مالِكَ لَهُ؛ لأنَّ الميِّتَ لا يملِكُ.
فصل
قال الشافعي: - رضي الله عنه - لِلْمَوْلى إقَامةُ الحدِّ على ممَالِيكِه، وقال أبُو حنيفة - رضي الله عنه -: لا يَمْلِكُ ذلكَ.
فصل في وجوب نصب إمام
احْتَجُّوا بهذه الآيةِ على أنَّهُ يجبُ على الأمَّة أن يُنَصِّبوا لأنفسهم إماماً مُعَيَّناً، لأنَّهُ تعالى أوْجبَ بهذه الآيَة إقامَةَ الحدِّ على السُّرَّاق والزُّنَاةِ فلا بُدَّ مِنْ شَخْصٍ يكُونُ مُخَاطَباً بهذا الخطابِ، وأجْمعتِ الأمةُ على أنَّه ليسَ لآحادِ الرعيَّةِ إقامةُ الحدودِ على الأحْرارِ الجُنَاةِ إلاَّ الإمامَ، فلمَّا كان هذا تَكْلِيفاً جازِماً، ولا يمكنُ الخروجُ مِنْ عُهْدَتِه، إلا بِوُجودِ الإمام وجبَ نَصْبُهُ؛ لأنَّ ما لا يَأتي الواجبُ إلا به، وكانَ مقدوراً للمُكلَّفِ فهو واجبٌ.
فصل
قالتِ المعتزلةُ: قوله تعالى: { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا } يَدُلُّ على تَعْلِيلِ أحْكامِ الله تعالى؛ لأنَّه صَريحٌ في أنَّ القطعَ إنَّما وجبَ مُعَلَّلاً بالسرقَةِ.
وجوابُهُ ما تقدمَ في قوله { مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا }.
قوله تعالى { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } والمعنى: عَزيزٌ في انْتِقامِهِ، حكِيمٌ في شرائِعهِ وتكالِيفِه، قال الأصْمَعِيُّ: كنتُ أقرأُ سورةَ المائدة ومعي أعرابيٌّ. فقرأتُ هذه الآيَةَ فقلْتُ: واللَّه غفورٌ رحيمٌ، سَهْواً فقال الأعرابيُّ: كلامُ من هذا، فقلتُ: كلامُ الله، فقال: أعِدْ، فأعَدْتُ: والله غفور رحيمٌ ثُمَّ تَنَبَّهْتُ فقلتُ: "والله عزيزٌ حكيمٌ" فقال: الآنَ أصَبْتَ.
قُلْتُ: كيف عرفتَ؟ فقال: يا هذا، عَزَّ فحكم فأمر بالقطْعِ، فلَوْ غَفر ورحِمَ لما أمر بالقَطْعِ.
قوله تعالى: { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ } الجارُّ [والمجرور في قوله: { مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ }] متعلِّقُ بـ "تاب" و"ظُلْم" مصدرٌ مضافٌ إلى فاعله، أيْ: مِنْ بعد أنْ ظلمَ غَيْرَهُ بأخْذِ ماله.
وأجاز بعضُهم أنْ يكونَ مُضافاً للمفعولِ، أيْ: مِنْ بعد أنْ ظلم نَفْسَهُ، وفي جوازِ هذا نَظَرٌ؛ إذْ يصيرُ التقديرُ: مِنْ بَعْد أنْ ظلمه، ولو صرَّحَ بهذا الأصل لم يجز؛ لأنَّهُ يؤدِّي إلى تَعَدِّي فعل المضمرِ إلى ضَمِيره المتصلِ، وذلك لا يجوزُ إلا في بابِ: "ظَنّ وفَقَدَ وعدِمَ"، كذلك قاله أبُو حيان.
وفي نظرِه نَظَرٌ؛ لأنَّا إذا حللنا المصدر لحرفٍ مَصْدرِيٍّ وفِعْلٍ، فإنَّما يأتِي بعد الفعلِ بما يَصِحُّ تقديرُه، وهو لفظُ النَّفْسِ، أيْ: مِنْ بَعْد أنْ ظَلَمَ نَفْسه. انتهى.
فصل في معنى الآية
المعنى: { فَمَن تَابَ منْ بَعْد } سرقته "وَأصْلَحَ" العملَ، "فإنَّ اللَّهَ" تعالى { يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } هذا فيما بينَهُ وبَيْنَ الله تعالى، فأمَّا القطعُ فلا يَسْقُطُ بالتَّوْبةِ عند الأكْثرينَ.
قال مُجاهِدٌ: السارقُ لا توبة له، فإذا قُطِعَ حصلتِ التوبةُ، والصحيحُ: أن القطعَ جزاءٌ على الجِنايةِ لقوله تعالى: { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ } فلا بُدَّ مِنَ التَّوْبَةِ بَعْدُ، وتوبَتُه الندمُ على ما مضَى والعزمُ على تركِهِ في المستقبلِ، وهذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ مَنْ تاب من بعد ظلمه وأصْلح، فإنَّ الله تعالى يقبلُ توبَتَهُ.
فإن قيل: قوله "وأصْلَحَ" يدلُّ على أنَّ مجردَ التوبةِ غيرُ مقبولٍ. فالجوابُ: المرادُ وأصلح التوبة بنيةٍ صادقةٍ وعزيمةٍ صحيحةٍ خاليةٍ عن سائرِ الأغْرَاضِ.
فصل في أن قبول التوبة غير واجب على الله تعالى
دَلَّتِ الآيةُ على أنَّ قبولَ التوبة غيرُ واجبٍ على الله تعالى، لأنَّهُ يُمْدحُ بقبول التوبةِ، والتمدُّحُ إنما يكونُ بفعل التَّفَضُّلِ والإحْسَانِ لا بأدَاءِ الوَاجِباتِ.
قوله تعالى: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } الآية.
لما ذكر عقابَ السَّارِقِ، ثُمَّ ذَكرَ أنَّهُ يقبلُ توبتَهُ إنْ تاب أرْدَفَهُ ببيان أنه يفعلُ ما يشاء ويَحْكُم ما يريدُ فيُعَذبُ من يشاءُ، ويغفرُ لِمَنْ يشاءُ وإنَّما قدم التعذيبَ على المغفرةِ، لأنَّهُ في مقابلةِ السرقةِ، والسرقةُ مقدمةٌ على التوبةِ.
قال السديُّ والكَلْبِيُّ: يعذبُ مَنْ يشاءُ ممَّنْ ماتَ على كُفْرِهِ، وقال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما -: يعذبُ مَنْ يشاءُ على الصَّغيرةِ، ويغفرُ لِمَنْ يشاءُ الكبيرةَ والله غفورٌ رحيمٌ.
قال القُرْطُبِيُّ: هذه الآيةُ خطابٌ للنبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أيْ: لا قرابة لأحدٍ بينه وبين الله تُوجِبُ المحاباةَ حتى يقول قائلٌ:
{ { نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [المائدة: 18]، والحدودُ تقامُ على كُلِّ مَنْ قارف حدًّا.