خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ
١٢٤
-الأنعام

اللباب في علوم الكتاب

قال المفسِّرُونَ: إنَّ الوليدَ بن المغيرةِ قال: والله لو كانت النُّبُوة حقاً لكنتُ أوْلَى بها مِنْك؛ لأني أكبرُ مِنْك سِنَّا، وأكثرُ مِنْك مَالاً، وولداً؛ فنزلت الآيةُ الكريمةُ.
وقال الضحاكُ: أرَادَ كُلُّ واحدٍ منهم أنْ يخصَّ بالوْحِي، والرسالةِ؛ كما أخبر تعالى عنهم:
{ { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } [المدثر:52] فظاهر هذه الآية الكريمة التي نحن في تَفْسِيرها يدُلُّ على ذلك أيضاً، وهذا يدلُّ على أنَّ جماعةً منهم كانوا يَقُولُونَ هذا الكلام.
وقال مُقَاتِلٌ: نزلَتْ في أبِي جَهْلٍ؛ وذلك أنَّه قال: زَاحَمَنَا بنُو عَبْدِ منافٍ في الشرف؛ حَتَّى إذَا صِرْنًا كَفَرسَيْ رهانٍ، قالوا مِنَّا نَبِيٌّ يُوحَى إليه، والله لَنْ نُؤمِنَ به، ولن نَتِّبعَهُ أبَداً؛ إلاَّ أنْ يَأتِينَا وحي، كما يَأتيه؛ فأنْزَل اللَّهُ - تبارك وتعالى - الآية.
وقوله: { لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ }.
فيه قولان:
أشهرهما: أن القومَ أرادُوا أنْ تحصُلَ لهم النبوةُ، والرِّسَالَةُ، كما حَصَلَتْ لمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وأنْ يكُونُوا مَتْبُوعِينَ لا تَابِعِينَ.
والوقول الثاني: نُقِل عن الحسن، وابن عبَّاس أن المعنى: وإذا جاءتُهْم آيةٌ من القرآنِ تأمُرهم باتباع النبي صلى الله عليه وسلم قالوا:
{ { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً } [الإسراء:90] إلى قوله: { { حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ } [الإسراء:93] مِنَ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - إلى أبي جَهْلٍ، وإلى فلانٍ وفُلانٍ، كتاباً على حدَةٍ؛ وعلى هذا فالتقديرُ ما طلبوا النبوة وإنَّما طلَبُوا أنْ يَأتِيهُمْ بآياتٍ قَاهِرَةٍ مثل مُعْجزاتِ الأنْبياءِ المتقدمين؛ كي تدل على صِحًّة نبوّة محمدٍ - عليه الصَّلاة والسَّلام -.
قال المحقِّقُون: والأوَّلُ أقْوَى لأنَّ قولهُ تبارك وتعالى: { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } لا يَلِيقُ إلاَّ بالقولِ الأوَّلِ.
وقوله: { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } فيه تنبيهٌ على أنَّ أقلَّ ما لا بُدَّ مِنْهُ في حُصُولِ النُّبُوةِ، والرسالةِ؛ البراءةُ عن المكْر، والخَدِيعَةِ، والغَدْر، والغِلِّ، والحَسَدِ وقولهم { لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ } عينُ المكرِ، والغل والحسد؛ فكيف تحصلُ النبوةُ، والرسالةُ مع هذه الصفات الذَّمِيمة؟.
قوله تعالى: { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ }.
في "حَيْثُ" هذه وجهان:
أحدهما: أنَّها خرجتْ عن الظرفيَّة، وصارَتْ مَفْعُولاً بها على السَّعَةِ، وليس العامِلُ "أعْلَمُ" هذه؛ لما تقدَّم مِنْ أنَّ أفْعَلَ لا تنصبُ المفعول به.
قال أبُو عَلِيّ: "لا يجوزُ أنْ يكُونَ العامِلُ في "حَيْثُ": "أعْلَمُ" هذه الظاهرة, ولا يجوزُ أن تكُون "خَيْثُ ظرفاً؛ لأنه يصيرُ التقديرُ: "اللهُ أعْلَمُ في هذا الموضع" ولا يوصفُ اللَّهُ تعالى بأنه أعْلَمُ في مواضعَ, وأوْقَاتٍ؛ لأن علمه لا يختلفُ باختلافِ الأمْكِنَةِ, والأزْمِنَةِ, وإذا كان كذلك, كان العامِلُ في "حَيْثُ" يدُلُّ عليه "أعْلَمُ" و "حَيْثُ" لا يكونُ ظَرْفاً، بل يكونُ اسْماً، وانتصابُه على المفعول به على الاتِّساعِ, ومثلُ ذلك في انتصابِ "حَيْثُ" على المفعولِ به اتساعاً قولُ الشَّمَّاخِ: [الطويل]

2304- وحَلأهَا عَنْ ذِي الأرَاكَةِ عَامِرٌ أخُو الخُضْرِ يَرْمِي حَيْثُ تُكْوَى النَّوَاجِزُ

فـ "حَيْثُ" مفعولةٌ، لأنه ليس يُريدُ أنه يَرْمِي شَيْئاً حيث تكون النواجِز، إنما يريدُ أنه يرمي ذلك الموضع". وتبع الناسُ الفَارسيَّ على هذا القول.
فقال الحوفِيُّ: "لَيْسَتْ ظَرْفاً؛ لأنه تعالى لا يكُون فِي مكانٍ أعْلمَ منه في مكانِ آخر، وإذَا لم تكن ظَرْفاً، كان مَفْعُولاً بها؛ على السَّعَةِ، وإذا كانت مَفْعُولاً، لم يعملْ فيها "أعْلَمُ"؛ لأن "أعْلَمُ" لا يعملُ في المفعولِ بهِ فيقدّرُ لها فِعْلٌ" وعبارةُ ابْنِ عطيَّة، وأبِي البَقَاءِ نحو مِنْ هذا.
وأخذ التبرِيزيُّ كلام الفارسيِّ [فنقله]، وأنْشدَ البيتَ المتقدِّمَ.
والثاني: أنَّها باقيةٌ على ظَرْفِيَّتِهَا بطريق المجاز، وهذا القولُ لَيْسَ بشيءٍ، ولكنْ أجَازَهُ أبُو حيَّان مختاراً له على ما تقدم.
فقال: "وما أجازُوه مِنْ أنَّهُ مفعولٌ به على السعة أو مفعولٌ به على غيْرِ السعة - تَأبَاهُ قواعِدُ النَّحْو؛ لأن النحويِّينَ نَصُّوا على أنَّ "حَيْثُ" مِنَ الظرُوفِ التي لا تتصرفُ، وشذَّ إضافةُ "لَدى" إليها، وجرِّها "بالياء"، وبـ "في"، ونصُّوا على أن الظرف المتوسَّعَ فيه لا يكونُ إلاَّ مُتَصرِّفاً، وإذا كان كذلك، امتنع نصبُ "حَيْثُ" على المفعُولِ به، لا على السَّعَة، ولا على غَيْرها.
والذي يَظْهَرُ لِي إقْرارُ "حَيْثُ"على الظَّرفيةِ المجازيَّةِ، على أنْ يُضَمَّنَ "أعْلَمُ" مَعْنَى ما يتعدِّى إلى الظرفِ، فيكون التقديرُ: "اللَّهُ أنْفَذُ عِلْماً حَيْثُ يجعلُ رِسَالاته" أي: "هو نافِذُ العلم في الموضع الذي يجعل فيه رسالاته، والظرف هنا مجازٌ كما قلنا".
قال شهابُ الدِّين: قد ترك ما قاله الجمهورُ، وتتابعوا عليه، وتأوَّل شَيْئاً هو أعْظَم مما فَرَّ مِنْه الجمهورُ، وذلك أنه يلزمه على ما قدَّر أنَّ عِلْمَ الله في نَفْسِه يتفاوت بالنسْبَة إلى الأمْكِنَةِ، فيكونُ في مكانٍ أبْعَدَ مِنْه في مكانٍ، ودعواه مجازُ الظرفيَّةِ لا ينفعهُ؛ فيما ذكرته من الإشْكَال، وكيف يُقَالُ مِثْلُ هذا؟ وقوله: "نَصَّ النحاةُ على عدم تصرُّفها" هذا معارضٌ - أيضاً - بأنهم نصُّا على أنها قد تتصرَّفُ بغير ما ذكر هو مِنْ كونها مجرورةً بـ "لَدَى" أو "إلى" أو "فِي" فمنه: أنها جاءت اسماً لـ "إنَّ" في قوله الشاعر: [الخفيف]

2305- إنَّ حَيْثُ اسْتَقَرَّ مَنْ أنْتَ رَاجيـ ـهِ حِمًى فِيه عِزَّةٌ وأمَان

فـ "حيثُ" اسمُ "إن"، و"حِمًى" خبرُها، أيْ: إنَّ مكاناً استقرَّ من أنت راعية مكانٌ يحمى فيه العزُّ والأمانْ ومِنْ مَجِيئها مجرورةً بـ "إلى" قول القائل في ذلك: [الطويل]

2306- فَشَدَّ وَلَمْ يُنْظِرْ بُيُوتاً كَثِيرةً إلَى حَيْثُ ألْقَتْ رَحْلَهَا أمُّ قَشْعَمِ

وقد يجابُ عن الإشْكال الذي أوْرَدْتُه عليه، بأنه لم يُرِدْ بقوله "أنْفَذُ عِلْماً" التفضيل، وإنْ كان هو الظاهِرُ بل يُريد مُجَردَ الوصْفِ؛ ويدلُّ على ذلك قوله: أي هُوَ نَافِذُ العلم في الموضع الذي يَجْعَلُ فيه رِسَالاته، ولكن كان يَنْبَغِي أنْ يصرِّحَ بذلك، فيقول: ولَيس المراد التفضيل.
وروي "حَيْثَ يَجْعَلُ" بفتح الثاء، وفيها احتمالان:
أحدهما: أنها فتحةُ بناءٍ؛ طَرْداً للباب.
والثاني: أنها فتحةُ إعرابٍ؛ لأنها معربةٌ في لغةِ بَنِي فَقْعس، حكاها الكسَائِيُ.
[وفي "حَيْثُ" سِتُّ لُغَاتِ: حَيْثُ: بالياء بتَثْلِيث الثاءِ، وحَوْثُ: بالواو، مع تَثْلِيث الثاء].
وقرأ ابنُ كثير، وحَفْصٌ عن عَاصم "رسالَتَه" بالإفراد، والباقون: "رِسَالاتِهِ" بالجمع، وقد تقدَّم توجيهُ ذلك في المائدة؛ إلا أن بَعْضَ مَنْ قرأ هُناك بالجمْع - وهوحَفْصٌ - قرأ هنا بالإفْرادِ، وبعضُ مَنْ قرأ هناك بالإفْرَادِ - وهو أبو عَمْرو، والأخوانِ، وأبُو بَكْرٍ، عَنْ عاصم - قرأ هنا بالجمع، ومعنى الكلام: "اللهُ أعْلَمُ بمَنْ هُوَ أحَقُّ بالرِّسالةِ".
قوله: { سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ } قِيلَ: المرادُ بالصِّغَارِ ذل وهوان يحصلُ لهم في الآخرة.
وقيل: الصغارُ في الدنيا، وعذابٌ شَدِيدٌ في الآخرة.
قوله: "عِنْدَ اللًّهِ" يجوزُ أنْ يَنْتَصِبَ بـ "يُصِيب" ويجوز أن ينتصبَ بـ "صَغَار"؛ لأنه مصدرٌ، وأجازُوا أن يكون صِفَةً لـ "صغار"؛ فيتعلق بمحذوفٍ، وقدَّره الزجاجُ فقال: "ثَابِتٌ عن الله تعالى".
والصَّغارُ: الذلُّ والهوان، يقالُ منه: صَغُر يَصْغُر صُغْراً وصَغْراً وصَغاراً, فهو صَاغِرٌ.
وأمَّا ضِدُّ الكِبَرِ فيقلُ منه: صَغَر يَصْغَر صِغْراً فهو صغِيرٌ، هذا قولُ اللَّيْثِ، فوقع الفرقُ بين المعْنَيَيْنِ بالمصدرِ، والفعلِ.
وقال غيره: إنه يُقالُ: صَغُر، وصغَر من الذل.
والعِنْديَّةُ هنا: مجازٌ عن حَشْرِهم يوم القيامةِ، أو عَنْ حُكمه وقضائه بذلك؛ كقولك: ثَبَتَ عند فلانٍ القاضِي، أيْ: في حكمه، ولذلك قدَّم الصَّغار على العذاب؛ لأنه يُصيبهُمْ في الدنيا.
و "بما كانوا" الباء للسببيّة أي: إنما يُصيبهم ذلك بسبب مَكْرِهم، وكَيْدِهم، وحَسَدِهم و "مَا" مصدرية، ويجوز أن تكون بمعنى الذي.