خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَرَبُّكَ ٱلْغَنِيُّ ذُو ٱلرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ
١٣٣
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ
١٣٤
-الأنعام

اللباب في علوم الكتاب

لما بيَّن ثواب المطيعينَ وعقاب العاصين، وبيَّن أن لكلِّ قوْم درجة مَخْصُوصَة في الثَّواب والعقابِ، بيَّن أنه غَيْر مُحْتَاج إلى ثوابِ المطيعين، أو ينْتَقِص بِمَعْصية المذنِبِين؛ لأنه - تعالى - غنِيٌّ لذاته عن جَمِيع العَالمين، ومع كوْنه غَنِياً، فإنَّ رحمته عامَّة كَامِلَة.
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: ذُو الرَّحْمَة بأوْلِيَائه وأهل طاعته.
قوله: { وربُّك الغِنِيُّ } يجوز أن يكون الغَنِيُّ والرَّحْمَة خَبَريْن أو وصفين، و "إن يشأ" وما بَعْدَهُ خبر الأوَّل، أو يكون "الغَنِيّ" وصْفاً و "ذُو الرَّحْمَة" خبراً، والجُمْلَة الشَّرطيَّة خبر ثاني أو مُسْتَأنَف.
فصل في دحض شبهة للمعتزلة
قالت المعتزلة: هذه الآية الكريمة دالَّة على كَوْنه عادِلاً منزَّهاً عن فِعْلِ القَبِيح، وعلى كَوْنه رَحِيماً مُحْسِناً بعِبَادِه؛ لأنه - تبارك وتعالى - عَالم بقبح القَبَائِح، وعالم بكوْنه غَنِيًّا عنه, وكُلُّ من كان كذلك, فإنَّه مُتَعالٍ عن فِعْلٍ القَبيحِ, وتَقْريره من ثلاثة أوْجُه:
أحدها: أن في الحوادث ما يكُون قَبِيحاً؛ كالظُّلم والسَّفَه والكَذِب والعَبَثِ, وهذا غير مَذْكُورٍ في الآيَةِ لغَاية ظُهُوره.
وثانيها: أنه - تعالى - عالمٌ بالمعْلُومات؛ لقوله:
{ { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } [الأنعام:132].
وثالثها: أنه - تعالى - غَنِيٌّ عن الحاجاتِ؛ لقوله: { وربُّكَ الغَنِيُّ } وإذا ثَبَتَتْ هذه المقدِّمَات، ثبت أنه عَالِمٌ بُقُبْح القَبَائح وعَالِمٌ بكون غَنِيًّا عنها، وإذا ثبت هذا، امْتَنَع كوْنه فَاعِلاً لها؛ لأن المُقْدِم على فِعْل القَبيح إمَّا أن يكُون إقْدَامُه لجَهْلِهِ بكونه قِبيحاً، وإما لاحْتِيَاجِهِ،فإذا كان عَالِماً بالكُلِّ، امْتَنَعَ كَوْنه جَاهِلاً بقُبْح القَبَائِح، وذلك يَدُلُّ على أنه - تعالى - منزَه عن فِعْل القَبيح، فحينئذٍ يقْطَع بانه لا يَظْلِم أحَداً فلما كَلَّف عَبِيدَه الأفْعَال الشَّاقَّة، وجب أن يُثِيبَهُم عليها، ولما رتَّب العِقَاب على فِعْل المَعَاصي، وجب أن يَكُون عَادِلاً فيها، فحينئذٍ انتفى الظُّلْمُ عن اللَّه - تعالى -، فما الفائدة في التكليف؟.
قال ابن الخطيب: والجوابُ أن التكْلِيفَ إحْسَانٌ ورَحْمَة على ما قُرِّر في كُتُب الكلام. قوله: { إنْ يَشَأ يُذْهِبْكُم } فقيل: المراد يُهْلِككُمْ يا أهْل مكَّة، وقيل: يُمِيتُكُم، وقيل: يحتَمَلُ ألاَّ يُبْلِغَهُم مَبْلَغ التَّكْلِيف، ويَسْتَخْلِف من بعد إذْهَابِكُم؛ لأن الاسْتِخْلاف لا يَكُون إلى على طَرِيق البَدَلِ.
قوله: { مَا يَشَاءُ } يجُوز أن تكُون "مَا" واقِعَة على ما هُو من جِنْسِ الآدَميِّين، وإنَّما أتى بـ "مَا" وهي لِغَيْر العَاقِل للإبْهَام الحَاصِل، ويجُوزُ أن تكُون وَاقِعَة على غَيْر العَاقِل وأنَّه يأتي بجِنْسٍ آخر، ويجُوز أن تكُون وَاقِعَة على النَّوْع من العُقَلاء كَمَا تقدَّم.
قوله: { كَمَا أنْشَأكُمْ } فيه وجهان:
أحدهما: أنه مَصْدَر على غِيْرِ المَصْدَر؛ لقوله: "ويَسْتَخْلِفْ" لأن مَعْنَى "يَسْتَخْلِفْ": يُنْشىِءُ.
والثاني: أنها نَعْتُ مَصْدَر مَحْذُوف، تقديره: استِخْلافاً مثل ما أنْشَأكُم.
وقوله: "مِنْ ذُرِّيَّةِ" متعلق بـ "أنْشَأكُم" وفي "مَنْ" هذه أوْجُه: أحدها: انها لابتداء الغايةِ، أي: ابْتَدأ إنْشَاءَكُم من ذُرِّيَّة قَوْم.
الثاني: أنَّها تَبْعِيضيَّة، قاله ابن عطيَّة.
الثالث: بمعنى البدل، قال الطبري وتبعه مكي بن أبي طالب: هي كقولك: "أخَذْتُ من ثَوْبِي دِرْهَماً" أي: بَدَله وعوضه، وكون "مِنْ" بمعنى البدل قَلِيلٌ أو مُمْتَنِعٌ، وما ورد منه مُؤوَّل؛ كقوله - تعالى -:
{ { لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً } [الزخرف:60] أي: بَدَلَكُم.
وقوله: [الرجز]

2316- جَارِيَةٌ لَمْ تَأكُلِ المُرَقَّقَا ولَمْ تَذُقْ مِنَ البُقُولِ الفُسْتُقَا

أي: بدل البُقُول، والمعنى: من أوْلاد قوم مُتقدِّمين أصْلهم آدَمُ.
وقال الزَّمَخْشَرِي: من أولاد قَوْم آخرينِ لم يكُونُوا على مِثْلِ صِفَتِكُم، وهم أهْلُ سَفِينةَ نُوح. وقرأ أبيُّ بنُ كَعْب: "ذَرِّيَّة" بفتح الذَّالِ، وأبان بني عُثْمَان: "ذَرِيَّة" بتخفيف الرَّاء مَكْسُورة، ويروى عَنْه أيْضاً: "ذَرْيَة". بزنة ضَرْبَة، وقد تقدَّم تحقيقه، وقرأ زَيْد بن ثَابِت: "ذَِرِّيَّة" بكسر الذال، قال الكسائي هُمَا لُغَتَان.
قوله: { إنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ } "مَا" بِمَعْنَى الَّذِي وليست الكَافَّة، و "تُوعَدُون" صلتها، والعَائِد مَحْذُوف، أي: إنَّ ما تُوعدُونَهُ و "لآتٍ" خبر مؤكَّد باللاَّمِ.
قال الحسن: "ما تُوعَدُونَ" من مَجِيء السَّاعة؛ لأنهم كَانُوا يُنْكِرُون الحَشْر.
وقيل: يحتمل الوَعْد والوَعِيد, ولما ذكر الوَعْد، جزم بكَوْنه آتِياً، ولما ذكر الوَعِيد، ما زاد على قوله: { وَمَا أنْتُم بِمُعْجِزينَ } وذلك يَدُلُّ على أن جَانبَ الرَّحْمَة والإحْسَان غالب.