خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٤٥
وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ وَٱلْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ ٱلْحَوَايَآ أَوْ مَا ٱخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذٰلِكَ جَزَيْنَٰهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَٰدِقُونَ
١٤٦
فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ
١٤٧
-الأنعام

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً } الآيات.
لمَّا بيَّن فساد طريقة أهْل الجاهليَّة فيما يُحَلُّ ويُحَرَّم من المطعُومَات - أتْبَعهُ بالبيان الصَّحِيح.
رُوِي أنهم قالوا: فما المُحَرَّمُ إذن؟ فنزل: قل يا محمد: { لا أجِدُ في ما أوحِي إليَّ } شيئاً { مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُه } أي: آكِل يَأكُلُه.
قوله: "مُحَرَّماً" منصوب بقوله: "لا أجِدُ" وهو صِفَة لمَوْصُوف محذوف؛ حذف لدلال قوله: "على طَاعِم يَطْعَمُهُ"، والتقدير: لا أجد طعاماً مُحَرَّماً، و "عَلَى طَاعِمٍ" متعلِّق بـ "مُحَرَّماً"، و "يَطْعَمُهُ" في محل جرِّ صِفَة لـ "طَاعِم".
وقرأ الباقر ونقلها مكيِّ عن أبي جَعْفَر -: "يَطَّعِمُهُ" بتشديد الطَّاءِ، وأصلها "يتطعمه" افتعال من الطعم، فأبدلت التاء طاءً لوقوعها بعد طاء للتقارب، فوجب الإدغام.
وقرأت عائشة، ومحمَّد بن الحَنَفِيَّة، وأصحاب عَبْد اللَّه بن مَسْعُود رضي الله عنهم: "تَطَعَّمه" بالتاء من فَوْق وتشديد العَيْن فعلاً مَاضِياً.
قوله: { إِلاَّ أنْ يَكُونَ } مَنْصُوب على الاسْتِثْنَاء، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه مُتَّصِل. قال أبو البقاء: "استثناء من الجنْس، وموضعُه نَصْب، أي: لا أجد مُحَرَّماً إلا المَيْتَة".
والثاني: أنه مُنْقَطِع، قال مكِّي: "وأن يكُون في مَوْضِع نَصْب على الاستِثْناء المُنْقَطع".
وقال أبو حيان: و { إلاَّ أنْ يَكُونَ } استثناء مُنْقَطِع؛ دلائله كَوْن، وما قَبْلَه عين، ويَجُوز أنْ يكُون مَوْضِعُه نَصْباً بدلاً على لُغَة تَمِيم، ونَصْباً على الاستثناء على لُغَة الحِجَاز، يعني أن الآستِثْنَاء المُنْقَطِع في لُغَتان:
إحداهما: لغة الحِجَاز، وهو وُجُوب النَّصْبِ مطلقاً.
وثانيتهما: لغة التَّمِيمِيِّين - يجعلونه كالمُتَّصِل، فإن كان في الكلامِ نَفْيٌ أو شبْهُه، رُجِّح البدل، وهُنَا الكلام نَفْيٌ فيترَجَّحُ نَصْبُه عند التَّمِيميِّين على البدل، دُون النَّصْب على الاستِثْنَاء؛ فنصْبه من وَجْهَيْن، وأمَّا الحِجَاز: فنصبه عِنْدَهم من وجْهٍ وَاحِد، وظاهِر كلام أبي القَاسِم الزَّمَخْشَريِّ أنه مُتَّصِل؛ فإنه قال: "مُحَرَّماً" أي: طعَاماً مُحَرَّماً من المطاعِم التي حَرَّمْتُمُوهَا إلاَّ أن يكُون مَيْتَة، أي: إلاَّ أن يكون الشَّيء المُحَرَّم مَيْتة.
وقرأ ابن عامر في روايةٍ: "أوحَى" بفتح الهمزة والحَاءِ مبنيا للفَاعِل؛ وقوله تعالى: { قُل ءَآلذَّكَرَيْنِ } وقوله: "نَبِّئُونِي"، وقوله أيضاً: "آلذّ‍كَرَيْن" ثانياً، وقوله: { أمْ كُنْتُم شُهْدَاءَ } جمل اعْتِرَاض بين المَعْدُودَات الَّتِي وَقَعت تَفْصِيلاً لِثَمانِيَة أزْواج.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: "فإن قُلْت: كيف فَصَل بين المَعْدُود وبين بَعْضِه ولم يُوَالِ بَيْنَه؟.
قلت: قد وقع الفَاصِل بَيْنَهُما اعْتِرَاضاً غير أجْنَبيِّ من المَعْدُود؛ وذلك أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - مَنَّ على عِبَاده بإنْشَاء الأنْعام لمَنَافِعِهم وبإياحتها لَهُم، فاعترض بالاحْتِجَاج على مَنْ حَرَّمها، والاحْتِجَاجُ على مَنْ حَرَّمَها تأكيدٌ وتَشديدٌ للتَّحْلِيل, والاعْتِراضَات في الكلامِ لا تُسَاقُ إلا للتَّوْكِيد".
وقرأ ابن عامر: "إلاَّ أنْ تكُون مَيْتَةٌ" بالتَّأنيث ورفع "مَيْتَةٌ" يعني: إلا أن يوجَد مَيْتَةٌ، فتكون تَامَّة عِنْدَه، ويَجُوز أن تكون النَّاقِصَة والخبرُ محذوف، تقديرهُ: إلا أنْ يَكُون هُنَاك مَيْتَة، وقد تقدَّم أن هذا مَنْقُولٌ عن الأخْفَشِ في قوله قبل ذلك
{ { وَإِن يَكُن مَّيْتَةً } [الأنعام:139].
وقال أبو البقاء: "ويقرأ برفع "مَيْتَةٌ" على أن تكون تامَّة، وهو ضعيف؛ لأن المَعْطُوف مَنْصُوب".
قال شهاب الدِّين: كيف يُضَعَّف قراءة مُتواتِرة؟ وأما قوله: "لأن المَعْطُوف مَنْصُوب" فذلك غير لازمٍ؛ لأن النَّصْب على قِرَاءة مَنْ رَفَع "مَيْتَة" يكون نَسَقاً على مَحَلِّ "أنْ تَكُون" الواقِعَة مسْتَثْنَاة، تقديره: إلاَّ أن يَكُون مَيْتَة، وإلا دماً مَسْفُوحاً، وإلاَّ لَحْم خِنْزِير.
وقال مكِّي: وقرأ أبو جعفر: "إلاَّ أنْ تكُون" بالتَّاء، "مَيْتَةٌ" بالرفع ثم قال: وكان يَلْزَم أبَا جَعْفَر أن يَقْرَأ "أوْ دَمٌ" بالرفع، وكذلك ما بَعْدَه.
قال شهاب الدين: هذه قِراءة ابن عامر، نَسَبَها لأبي جَعْفَر يزيد بن القَعْقاع المَدَنِي شَيْخُ نَافِع؛ وهو مُحْتَمل، وقوله: "كان يَلْزَمُه" إلى آخره هو مَعْنى ما ضَعَّفَ به أبُو البقاءِ هذه القراءة، وتقدَّم جواب ذلك، واتَّفَق أنَّ ابن عامرٍ يقرأ: "وَإِن تَكُنْ مَيْتَةٌ" بالتَّأنيث والرَّفْع وهنا كذلك.
وقرأ ابن كثير وحمزة: "تَكُون" بالتَّأنيث، "مَيْتَة" بالنَّصْب على أن اسْم "تكُونَ" مُضْمَر عَائِدٌ على مُؤنَّث أي: إلا أن يكُون المَأكُولُ أو النَّفْسُ أو الجُثَّةُ مَيْتَة، ويجوز أن يَعُود الضَّمِير من "تكُون" على "مُحَرَّماً" وإنَّما أنَّث الفعل لتأنيث الخبر؛ كقوله:
{ { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن } [الأنعام:23] بنصب "فِتْنَتِهم" وتأنيث "تَكُنْ".
وقرأ الباقون: "يَكُونَ" بالتَّذْكير، "مَيْتَةً" نصباً، واسم "يَكُون" يعود على قوله: "مُحَرَّماً" أي: إلاَّ أنْ يَكُون ذلك المُحَرَّم، وقدّره أبُو البقاء ومَكِّي وغيرُهما: "إلاَّ أنْ يكُون المَأكولُ"، أو "ذَلِك مَيْتَةً".
قوله: { أوْ دَماً مَسْفُوحاً } "دماً" على قرءاة العامَّة: معطوفُ على خبر "يَكُون" وهو "مَيْتَة" وعلى قراءة ابن عامرٍ وأبي جعفر: معطوف على المُسْتَثْنَى، وهو "أنْ يَكُون" وقد تقدَّم تحرير ذلك.
و"مَسْفُوحاً" صفة لـ "دَماً" والسَّفْحُ: الصبُّ، وقيل: "السَّيَلان"، وهو قريبٌ من الأول، و "سَفَحَ" يستعمل قاصِراً ومتعدِّياً؛ يقال: سَفَحَ زيدٌ دَمْعَه ودَمَهُ، أي: أهْرَاقَه، وسَفَح هُو، إلاَّ أن الفَرْق بينهما وَقَع باخْتِلاف المَصْدر، ففي المُتعدِّي يقال: سَفْح وفي اللاَّزِم يقال: سُفُوح، ومن التّعَدِّي قوله تعالى: { أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً }؛ فإن اسْم المفعُول التَّامَ لا يُبْنَى إلا مِنْ مُتَعَدِّ، ومن اللُّزُوم ما أنْشَده أبو عبيدة لِكُثَيِّرَة عَزَّة: [الطويل]

2369 - أقُولُ وَدَمْعِي وَاكِفٌ عِنْدَ رَسْمِهَا عَلَيْك سلامُ اللَّهِ والدَّمْعُ يَسْفَحُ

فصل فيما كان محرماً بمكة
قال القرطبي: "هذه الآية الكَرِيمة مَكِّيَّة، ولم يَكُن في الشَّريعة في ذلك الوَقْت مُحَرَّم غير هذه الأشْيَاء، ثم نزلت سُورة "المائدة" بـ "المدينة" وزيد في المُحَرَّمات؛ كالمُنْخَنِقَة، والموْقُوذَة والمُتَرَدِّية، والنَّطِيحَة، والخَمْر، وغير ذلك، وحرَّم رسُول الله صلى الله عليه وسلم بالمَدِينَة أكْلَ كلِّ ذي نَابٍ من السِّبَاع، ومِخْلَب من الطِّيْر".
فصل في معنى الدم المسفوح
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: يريد بالدَّم المَسْفُوح: ما خَرَج من الحيوان وهي أحْيَاء، وما يَخْرُج من الأوْدَاج عن الذَّبْح، ولا يَدْخُل فيه الكَبد والطُّحال؛ لأنهما جَامِدَات وقد جاء الشَّرْع بإباحَتِهما، وما اخْتلط باللَّحم من الدَّم؛ لأنه غير سَائل.
قال عِمْرَان بن حُدير: "سألْت أبا مجلز عمَّا يَخْتَلِطُ باللَّحْم من الدَّمِ، وعن القِدْر يُرَى فيها حُمْرة الدِّمِ، فقال: لا بَأسَ به، إنما نُهِي عن الدَّمِ المَسْفُوح".
قال إبْرَاهيم: "لا بأسَ بالدَّم في عِرْق أوْ مُخَّ، إلاَّ المَسْفُوح الذي يتعمد ذلك".
قال عكرمة: "لوْلا هَذِه الآية لاتَّبع المُسْلِمُون من العُرُوق ما تَتبع اليَهُود".
وقوله: { أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } أي: حَرَامٌ، والهاء" في "فإنَّه" الظاهر عَوْدُها على "لَحْمَ" المضاف لـ "خَنْزير".
وقال ابن حزم: إنها تعُود على خنزير؛ لأنه أقَرْب مَذْكُور.
ورُجِّحَ الأوَّل: بأنَّ اللَّحم هو المُحَدَّث عنه، والخِنْزير جاء بعَرْضِيَّة الإضافة إليه، ألآ ترى أنَّك إذا قُلْت: "رأيت غُلام زَيْد فأكْرَمْتُه" أنَّ الهاء تعُود على الغُلام؛ لأنه المُحَدَّث عنه المَقْصُود بالإخْبار عنه، لا على زَيْد؛ لأنه غير مَقْصُود.
ورُجِّح الثاني: بأن التَّحْريم المُضَاف إلى الخِنْزِير ليس مُخْتَصاً بلحمه، بل شَحْمه وشَعْره وعَظْمِه وظلفه كذلك، فإذا أعَدْنَا الضَّمِير على خنزير، كان وافياً بهذا المَقْصُود، وإذا أعدْنَاهُ على لحم، لم يكن في الايةِ الكريمة تَعَرُّضٌ لتَحْرِيم ما عَدَا اللَّحم ممَّا ذكر.
وأُجيب: بأنَّه إنما ذكر اللَّحْم دون غيره، - وإن كان غيره مَقْصُوداً بالتحريم -؛ لأنَّه أهَمُّ ما فيه، وأكثر ما يُقْصَد منه اللَّحم كَغَيره من الحَيَوانات, وعلى هذا فلا مَفْهُوم لتَخْصِيص اللَّحْم بالذِّكْرِ، ولو سَلَّمَه، فإنه يكون من باب مَفْهُوم اللَّقَب؛ وهو ضَعِيف جداً.
وقوله: "فإنَّهُ رِجْسٌ" إمَّا على المُبَالغَة بأن جُعِلَ نَفْسَ الرِّجْس، أو على حَذْف مضافٍ، وله نَظَائر.
قوله: "أوْ فِسْقاً" فيه ثلاثة أوجُه:
أحدها: انه عَطْف على خَبَر "يَكُون" أيضاً، أي: إلا أن يكُون فِسْقاً. و "أهلَّ" في محل نصب؛ لأنه صِفَة له؛ كأنه قيل: أو فِسْقاً مُهَلاً به لِغَيْر اللَّه، جعل العَيْن المُحُرَّمَة نَفْس الفِسْق؛ مُبَالغَة، أو على حَذْف مُضَافٍ، ويُفَسِّره ما تقدَّم من قوله:
{ { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } [الأنعام:121]
الثاني: أنه مَنْصُوب عَطْفا على محلِّ المسْتَثْنَى، أي: إلا أنْ يكون مَيْتَة أو إلاَّ فِسْقاً، وقوله: "فإنَّه رِجْسٌ" اعْتِرَاض بين المُتعاطِفَيْن.
والثالث: أن يكون مَفْعُولاً من أجْلِه، والعَامِل فيه قوله: "أهِلَّ" مقدَّمٌ عليه، ويكون قد فَصَل بين حَرْف العَطْفِ وهو "أوْ" وبَيْن المَعْطُوف وهو الجملة من قوله: "أهِلَّ" بهذا المَفْعُول من أجْلِه؛ ونظيره في تَقْدِيم المَفْعُول له على عَامِلهِ قوله: [ الطويل]

2370- طَرِبْتُ وَمَا شَوْقاً إلى البيضِ أطْربُ وَلاَ لِعِباً مِنِّي وذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ

و"أهِلَّ" على هذا الإعْرَاب عَطْفٌ على "يكون" والضَّمِير في "به" عائدٌ على ما عَادَ عليه الضَّمِيرُ المُسْتَتِر في "يَكُون"، وقد تقدم تَحْقِيقه، قاله الزمخشري.
إلاَّ أن أبا حيَّان تعقَّب عليه ذلك؛ فقال: "وهذا إعْرَاب متكَلَّفٌ جداً، وترْكِيبُه على هذا الإعراب خارج عن الفَصَاحةِ، وغير جَائزٍ على قراءة من قرأ "إلا أنْ يكُون مَيْتَةٌ" بالر‍َّفْع، فيبقى الضَّمير في "بِهِ" لَيْس له ما يَعُود عليه، ولا يجوز أن يُتكَلَّف مَحْذُوف حتى يَعُود الضَّمير علي، فيكون التَّقْدير: أو شَيءٌ أهِلَّ لِغَيْر الله به، لأن مِثْل هذا لا يَجُوز إلاَّ في ضَرُورة الشِّعْر".
قال شهاب الدِّين: يَعْنِي بذلك: أنَّه لا يُحْذَف الموصُوف والصِّفَة جُمْلَةً، إلا إذا كان في الكلام "مِنْ" التَّبْعِيضيَّة؛ كقولهم: "مِنَّا ظَعَنَ ومنَّا أقَام" أي: منا فَريقٌ ظعن، ومنَّا فَرِيقٌ أقَامَ فإن لم يكن فيه "مِنْ" كان ضَرورة؛ كقوله: [الرجز]

2371- تَرْمِي بِكَفِّيْ كانَ مِنْ أرْمَى البَشَرْ

أي: بكفَّي رَجُلِ؛ وهذا رأي بَعَضهم، وأما غَيْرَه فَيَقُول: متى دلَّ على المَوْصُوف، حُذَِف مُطْلقاً، فقد يجُوز أن يَرَى الزَّمَخْشَري هذا الرَّأي.
فصل في هل التحريم مَقْصُور على هذه الأشياء؟
ذهب بَعْض أهل العِلْم إلى أن التَّحْريم مَقْصُور على هذه الأشياء؛ يُرْوَى ذلك عن عَائِشة وابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قالوا: ويَدْخل في المَيْتَة المُنْخَنِقَة والموْقُوذة وما ذكر [في أوَّل سُورة المائدة، وأكْثَر العُلماء على أنَّ التَّحْرِيم لا يختصُّ بهذه الأشياء مما ذكر، فالمحرم بنص الكتاب ما ذكر] ههنا، وقد حرمت السُّنة أشْيَاء:
منها: ما روى ابْن عبَّاس - رضي الله عنهما -؛ قال: "نَهى رسُول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ من السِّباع، وكُلِّ ذي مِخْلَب من الطِّيْر".
ومنها: ما أمر بِقَتْلِه بقوله: "خَمْس فواسِق تُقْتَل في الحِلِّ والحَرَمِ".
ومنها: ما نَهَى عن قَتْلِه؛ كنَهْيه عن قَتْل النَّحْلَة والنَّمْلة؛ فهو حَرَامٌ، وما سوى ذلك فَيُرْجع إلى الأغْلَب فيه من عَادَات العرب، فما يأكله الأغْلَب مِنْهُم، فهو حلالٌ، وما لا يَأكُلُه الأغْلَب منهم، فهو حَرَام؛ لأن الله - تبارك وتعالى - خاطَبَهم بقوله:
{ { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ } [المائدة:4] فما اسْتَطَابُواه فهو حلال.
وقوله: { فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
أباح هذه المُحَرَّمَاتِ عند الاضْطِرار في غير العُدوان، وتقدم الكلام على نَظِيرها في البقرة.
قوله: { وَعَلى الَّذين هَادُوا } متعلَّق بـ "حَرّ‍َمْنَا" وقد يُفيد الاخْتِصاص عند بعضهم؛ كالزَّمْخَشَري والرَّازي، وقد صرّح به الرَّازي هنا، أعني: تَقْدِيم المَعْمُول على عَامِلهِ.
وفي "ظفُر" خمس لغات:
أعلاها: "ظُفُر" بضم الظَّاءِ والفَاءِ، وهي قراءة العامَّة.
و"ظُفْر" بسكون العين، وهي تَخْفِيف لمَضْمُومِها، وبها قرأ الحسن في رواية وأبيُّ بن كَعْب والأعْرَج.
و"ظِفِر" بكسر الظَّاء والفاء، ونسبها الوَاحِدي قراءة لأبي السَّمال.
و"ظِفْر" بكسر الظَّاء وسكون الفَاء، وهي تَخْفيفٌ لمكْسُورِها، ونسبها النَّاس للحسن أيضاً قراءة.
واللغة الخامسة: "أظْفُور" ولم يُقْرأ بها فيما عَلِمْنَا؛ وأنشدوا على ذلك قول الشاعر: [البسيط]

2372- مَا بَيْنَ لُقْمَتِهَا الأولَى إذَا انْحَدَرَتْ وبَيْنَ أُخْرَى تَلِيها قِيدُ أظْفُورِ

وجمع الثُّلاثي: أظْفَار، وجمع أظْفُور: أظافِير وهو القياس وأظافِر من غير مَدِّ، وليس بِقِياس؛ وهذا كقوله: [الرجز]

2373- الـعَيْـنَــيْــــنِ والــعَــــوَاوِر

وقد تقدَّم تَحْقِيق ذلك في قوله: { { مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ } [الأنعام:59].
فصل في معنى "ذي ظُفُر"
قال الواحديُّ اختلفوا في ذِي الظُّفُر: فروى عطاء عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: أنه الإبل فقط، ورُوي عنه أيضاً: أنَّه الإبل والنَّعَامة؛ وهو قول مُجَاهد.
وقال عَبْد اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ: "إنَّه كلُّ ذي مِخْلَبٍ من الطَّيْر، وكلُّ ذي حَفِرٍ من الدَّوَابِّ".
وقيل: هو كلُّ ما لم يَكُن مَشْقُوق الأصَابع من البَهَائِم والطَّيْر مثل البَعِير والنَّعامة والإوَزّ والبَط؛ ثم قال: كذلِك قال المفسِّرُون.
وقال ابن الخطيب: "وَسُمِّي الحافر ظفراً على الاسْتِعَارِة" قال ابْنُ الخطيب: أمَّا حمل الظُّفُرِ على الحَافِر فَبَعِيدٌ من وَجْهَيْن:
الأول: أن الحَافِر لا يُسَمَّى ظُفُراً.
والثاني: لو كان الأمْر كذلك، لوجب أن يُقَال: إنه - تبارك وتعالى - حَرَّم عليهم كُلَّ حَيَوان له حَافِر، وذلك بَاطِلٌ؛ لأن الآية تدلُّ على أنَّ الغَنَم والبَقَر مُبَاحَان لَهُم مع حُصُول الحافِر لَهُم.
وإذا ثَبَتَ هذا، فَنَقُول: وجب حَمْل الظُّفُر على المَخَالِبِ والبَرْاثِنِ؛ لأن المَخالِب آلات الجَوَارِح في الاصْطِيَاد: والبرارثِن آلات السِّبَاع في الاصْطِيَاد، وعلى هذا التقدير يدخل أنواع الكِلاب والسِّباع والسَّنَانِير، ويدخل فيه الطُّيُور التي تُصْطَاد؛ لأن هذه الصِّفَة تَعْمُّهُم.
وإذا ثبت هذا؛ فنقول: قوله - تعالى -: { وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } تخصيصُ هذه الحُرْمَةِ بهم من وجهين:
الأول: أن قوله: { وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا } كذا وكذا يفيد الحَصْر في اللُّغَة.
والثاني: أنه لَوْ كانت هذه الحُرْمَة ثابتَة في حَقِّ الكُلِّ، لم يَبْق لِقَوْله: { وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا } فائدة؛ فثبت أنَّ تَحْرِيم السِّبَاع، وذَوِي المخلَب من الطَّير مختفص باليَّهُود، فوجب ألا تكُون مُحَرَّمة على المُسْلِمِين، وعند هذا نَقُول: مَا رُوي أنه - عليه الصلاة والسلام - حرَّم كل ذِي ناب من السِّبَاع، وكل ذِي مِخْلَب من الطَّيْر ضعيفٌ؛ لأنه خبر واحدٌ على خلاف كتابِ اللَّه، فلا يكون مَقْبُولاً، وهذا يُقَوِّي قول مالِك في هذه المَسْألة.
قوله: "وَمَنَ البَقَرِ" فيه وجهان:
أحدهما: أنه مَعْطُوف على "كُلِّ ذي" فتتعلَّق "مِنْ" بـ "حَرَّمْنَا" الأولى لا الثانية، وإنَّما جيء بالجُمْلَة الثانية مُفسِّرة لما أبْهم في "مِنْ" التَّبْعيضيَّة من المُحَرَّم؛ فقال: { حَرَّمْنَا عَلَيْهِم شُحُومَهُمَا }.
والثاني: أن يتعلَّق بـ "حَرَّمْنَا" المُتَأخِّرة، والتقدير: وحرَّمْنا على الذين هَادُوا من البَقَر والغَنَم وشُحُومَهُمَا، فلا يَجِب هنا تَقْديم المجرُور بها على الفِعْل؛ فيقال: حَرَّمْنا عليهم شُحُوَمُهما من البَقَر والغَنَمِ؛ لئلا يَعُود الضَّمِير على متأخِّر لفظاً ورُتْبَة.
وقال أبو البقاء: "ولا يجوز أن يكُون "مِنْ البَقَرِ" متعلِّقاً بـ "حَرَّمْنَا" الثانية".
قال أبو حيَّان: "وكأنه قد توهَّم أن عَوْد الضَّمِير مانِعٌ من التعَلُّق؛ إذ رُتْبَة المجرُور بـ "مِن" التَّأخِير، لكن عن ماذا؟ أما عن الفعل فَمُسَلَّم، وأما عن المَفْعُول فغير مُسَلَّم" يعني: أنه إن أراد أنَّ رُتْبَة قوله: "مِنَ البَقَر" التأخير عن شُحُومَهُمَا, فيصير التقدير: حرمنا عليهم شُحُومَهُما من البقر؛ فغيرمُسَلَّم، ثم قال أبو حيَّان: "وإن سَلَّمْنا أن رُتْبَته التَّأخير عن الفِعْل والمفعُول، فليس بِمَمْنُوع، بل يَجُوز ذلك كما جَازَ: "ضربَ غُلامَ المْرأةِ أبُوهَا" و "غُلامَ المرأةِ ضَرَبَ أبوها"، وإن كانت رُتْبَة المفْعُول التَّأخير، لكنه وَجَبَ هنا تَقْدِيمُه؛ لعود الضَّمِير الذي في الفاعل الذي رُتْبَتُه التَّقْديم عليه، فكيف بالمَفْعُول الذي هُو والمَجْرُور في رُتْبَةٍ واحِدَةٍ؟ أعني في كَوْنَها فَضْلَة، فلا يبالى فيهما بتَقْدِيم أيِّهما شِئْت على الآخَر؛ قال الشاعر: [الطويل]

2374-.................... وَقَدْ رَكَدَتْ وَسَطَ السَّمَاءِ نُجُومُهَا

فقدَّم الظَّرْف وجوباً؛ لعود الضَّمِير الذي اتَّصَل بالفَاعِل على المجْرُور بالظَّرْف".
قال شهاب الدِّين: "لقائل أن يقُول: لا نُسَلِّم أن أبَا البقاء إنما مَنَع لما ذكرت، حتى يُلْزَم بما ألْزَمْتَه، بل قَدْ يَكُون منعه لأمر مَعْنَوِيِّ".
والإضافة في قوله: "شُحُومَهُما" تُفِيد الدَّلالة على تأكيد التَّخْصيص والرَّبْط، إذ لو أتى في الكلام: "مِن البَقَر والغنم حرَّمْنَا عليْهم الشُّحُوم" لكان في الدَّلالة على أنَّه لا يراد إلاَّ شُحُومُ البَقَر والغَنَم؛ هذا كلام أبي حيَّان وهو بَسْط ما قاله الزَّمَخْشَري؛ فإنه قال: "ومن البَقَر والغَنَم حَرَّمْنا عليهم شُحُومَهُمَا"؛ كقولك: "مِنْ زَيْد أخَذْت مَالَهُ" تريد بالإضافة زيَادة الرَّبْط.
قوله: { إلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } "ما" مَوْصُولة في محل نَصْب على الاستِثْنَاء المُتَّصِل من الشُّحُوم، أي: إن لم يُحَرِّم الشَّحْم المَحْمُول على الظَّهْر، ثم إن شِئت جعَلْت هذا المَوْصُول نعتاً لِمَحْذُوف، أي: إلا الشَّحْم الذي حَمَلَتْهُ ظهورُهُمَا؛ كذا قدَّره أبو حيان، وفيه نظر، لأنه قد نصَّ على أنَّه لا يوصَفُ بـ "مَا" الوصُولة وإن كان يُوصَف بالذي، وقد ردّ هُو على غَيْرِه بذلك في مِثْل هذا التقدير: وإن شِئْت جعلْتَهُ موصُوفاً بشَيْءٍ محذوف، أي: إلاَّ الذي حملَتْه ظُهُورُهُما من الشَّحْم، وهذا الجَارُّ هو وَصْفٌ معنوي لا صناعي، فإنَّه لو أظْهَر كذا، لكان إعرابُه حالاً.
وقوله: "ظُهُورهما" يحتمل أن يكُون من باب قوله:
{ { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [التحريم:4]، بالنسبة إلى ضَمِير [البَقَر] والغَنَم من غير نَظِر إلى جَمْعِيَّتهما في المَعْنى، ويحتمل أن يَكُون جَمَع "الظُّهُور" لأنَّ المُضَافَ إليه جَمْعٌ في المَعْنَى؛ فهو مثل: "قَطَعْتُ رُؤُوس الخرفان" فالتِّثْنِيةَ في مثل هذا مُمْتَنِعَة.
فصل في تفسير الشحم
قال ابن عبَّاس: "إلا ما عَلِق بالظَّهْرِ من الشحم، فإنِّي لم أحرمهُ" وقال قتادة: "إلا ما عَلَق بالظَّهْرِ والجَنْبِ من دَاخِل بُطُونِها".
قال ابن الخطيب: "وأقول: لَيْس على الظَّهْر شَحْمٌ إلا اللحم الأبْيَض السَّمين المُلْتَصِق باللًّحْم الأحْمَر، وعلى هذا التقدير فذلك اللحم السَّمين الملتَصِق يكوم مُسَمًّى بالشَّحم وبهذا التقدير لو حَلَف ألاَّ يأكُل الشَّحْم، وجَبَ أن يَحْنَث إذا أكل ذلك اللَّحْم السَّمين".
قوله: "أو الحَوَايَا" في موضعها من الإعْراب ثلاثة أوجُه:
أحدها - وهو قول الكسائي -:أنَّها في مَوْضع رفْع عَطْفاً على "ظُهُورُهما" أي: وإلاَّ الَّذي حملَتْه الحَوَايَا من الشَّحْم، فإنه أيضاً غير مُحَرَّم، وهذا هو الظَّاهِر.
الثاني: أنَّها في محل نَصْبٍ نَسَقاً على "شُحُومَهُمَا" أي: حَرَّمْنا عليهم الحَوَايَا أيضاً، أو ما اخْتَلَط بعَظْم، فتكون الحوايا والمُخْتَلط مُحَرَّمين، وإلى هذا ذَهَب جماعةٌ قِليلَةٌ، وتكون "أوْ" فيه كَالتِي في قوله - تعالى -:
{ { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } [الإنسان:24] يُراد بها: نَفْي ما يدخُل عليه بطريق الانفِرَاد؛ كما تقول: "هؤلاءِ أهْلٌ أن يُعْصَوْا فاعْصِ هذا أو هذا" فالمعنى: حرم عليهم هذا وهذا.
وقال الزَّمَخْشَرِي: "أو بمنزلتها في قولهم: جَالِس الحسن أو ابن سيرين".
قال أبو حيَّان: "وقال النَّحْويُّون: "أو" في هذا المثال للإباحَةِ، فيجوز له أن يُجَالِسَهُمَا وأن يُجَالِس أحدهُمَا، والأحْسَن في الآية إذا قُلْنَا: إن "الحوايا" معطوفٌ على "شُحُومَهُمَا"، وأن تكون "أوْ" فيه للتفصيل؛ فصَّل بها ما حرَّم عليهم من البقر والغنم".
قال شهاب الدِّين: هذه العِبارة التي ذكرها الزَّمَخْشَري سبقه إليها الزَّجَّاج فإنه قال: وقال قوم: حُرِّمَت عليهم الثُّرُوب، وأحِلَّ لهم ما حَمَلَت الظُّهُور، وصارت الحوايا أو ما اخْتَلَط بعَظْمٍ نَسَقاً على ما حَرَّم لا على الاستثناء، والمَعْنَى على هذا القول: حُرِّمت عليهم شُحُومَهُمَا أو الحوايا أو ما اختلط بعَظْمٍ، إلا ما حملت الظُّهُور فإن غير محرَّم، وأدخلت "أو" على سَبِيل الإبَاحَة؛ كما قال تعالى:
{ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } [الإنسان:24] والمعنى: كل هؤلاء أهْلٌ أن يُعْصَى فاعْصِ هذا أو اعْصِ هذا و"أو" بَلِيغة في هذا المَعْنَى؛ لأنَّك إذا قُلْتَ: "لا تُطِعْ زَيْداً وعَمْراً" فجائز أن تكُون نَهَيْتَنِي عن طَاعَتهما معاً في حالةٍ، فإذا أطعْتُ زيداً على حِدَته، لم أكُن عَاصِياً، وإذا قلت: لا تُطِع زَيْداً أو عمراً أو خالداً، فالمعنى: أن كُلَّ هؤلاءِ أهْلٌ ألاَّ يُطَاع، فلا تُطِع واحداً منهم، ولا تُطِع الجماعة؛ ومثله: جَالِس الحَسَنَ أو ابْنَ سِيرين أو الشَّعْبي، فليس المَعنى: أني آمُرُكَ بمجَالَسَة واحدٍ منهم، فإن جَالَسْتَ واحِداً منهم فأنْتَ مُصِيبٌ، وإن جَالَسْتَ الجماعة فأنت مُصِيبٌ.
وأمَّا قوله: "فالأحْسَنُ أن تكُون "أو" فيه للتَّفْصِيل" فقد سبقه إلى ذلك أبو البقاء فإنه قال: و "أوْ" هنا بِمَعْنة الواو، لتفصِيل مذاهبهم أو لاخْتِلاف أماكنها، وقد ذَكرَناَه في قوله:
{ { كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ } [البقرة:135].
وقال ابن عطيَّة ردّاً على هذا القول - أعني كون "الحَوَايَا" نَسَقاً على شُحُومهما -: "وعلى هذا تَدْخُل "الحَوَايَا" في التَّحْريم، وهذا قَوْلٌ لا يعضدُه لا اللَّفْظ ولا المَعْنَى بل يَدْفَعَانه" ولم يبيِّن وجْه الدَّفْع فيها.
الثالث: أن "الحَوَايَا" في محلِّ نَصْبٍ عطفاً على المسْتَثْنَى وهو "ما ملت ظُهُورهُمَا" كأنه قيل: إلا ما حَمَلَتِ الظُّهُور أو الحَوَايا أو إلا ما اختَلَط، نقله مكِّي، وأبو البقاء بدأ به ثم قال: "وقيل هو مَعْطُوف على الشُّحُوم".
ونقل الواحدي عن الفراء؛ أنَّه قال: يَجُوز أن يكُون في موضع نَصْب بتقدير حذف المضاف على أن يُريد: أو شُحُوم الحَوَايَا فَيَحْذِف الشُّحُوم ويكتفي بالحوايا؛ كما قال - تعالى -:
{ { وَسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [يوسف:82] يريد أهلها، وحكى ابن الأنْبارِي عن أبي عبيد، أنه قال: قلت للفرَّاء: هو بمنزلة قول الشَّاعِر:

2375- لا يَسْمَعُ المَرْءُ فِيهَا مَا يُؤنِّسُه باللَّيْلِ إلاَّ نَئِيمَ البُوم والضُّوَعاَ

فقال لي: نَعَم، يذهب إلى أن "الضُّوَع" عَطْف على "النَّئِيم" ولم يُعْطَف على "البُوم" كما عُطِفت الحَوَايَا على "مَا" ولم تُعْطَفْ على الظُهُور.
قال شهاب الدِّين: فمقتضى ما حكاه ابن الأنْبَارِيِّ: أن تكون "الحَوَايَا" عَطْفاً على "مَا" المسْتَثْنَاه, وفي مَعْنَى ذلك قلقٌ بيِّنٌ.
و"الحَوَايَا" قيل: هي المَبَاعِر، وقيل: المصَارين والأمْعَاء، وقيل: كل ما تَحْويه البَطْن فاجْتَمع واسْتَدَار، وقيل: هي الدَّوَّارة الَّتِي في بَطْن الشَّاةِ.
واختلف في مُفْرد "الَحَوايَا" فقيل: حَاوِيَة كـ "ضَارِبة"، وقيل: حَوِيَّة كـ "طَريفَة"، وقيل: حَاويَاء كـ "قَاصِعَاء".
وجوَّز الفَارِسيُّ أن يكون جَمْعاً لكلِّ واحدٍ من الثلاثة، يعني: أنه صَالِحٌ لذلك، وقال ابن الأعْرَابِيِّ: هي الحَويَّة والحَاوِيَة" ولم يَذْكر الحَاويَاء. وذكر ابن السَّكِّيت الثلاثة فقال: "يقال: "حَاويَة" و "حَوَايَا" مثل "زَاوِيَة" و "زَوَايَا" و "رَاوِيَة" و "رَوَايَا" ومنهم من يَقُول: "حَويَّة" و "حَوَايَا"؛ مثل الحَوية التي تُوضَع على البَعِير ويُرْكَبُ فَوْفَها، ومنهم من يَقُول لواحِدَتها: "حَاوِيَاء" وأنشد قول جَرَير: [البسيط]

2376- تَضْغُو الخَنَانِيصُ والغُولُ الَّتِي أكَلَتْ فِي حَاويَاء رَدُومِ اللَّيل مِجْعَار

وأنشد ابن الأنْبَاري: [الطويل]

2377- كَأنَّ نَقِيقَ الحَبِّ فِي حَاوِيَائِهِ فَحِيحُ الأفَاعِي أوْ نَقيقُ العَقَارِبِ

فإن كان مُفْرَدُها حَاوِيَة، فوزنها فواعِلٌ؛ كَضَاربة وضَوارب ونظيرها في المُعْتَلِّ: "زاوية" و "زَوَايَا", و "رَاوِيَة" و "رَوَايَا", والأصل: حَوَاوِي كَضَوارب, فقُلِبت الواوُ التي هي عَيْن الكَلِمة هَمْزَة؛ لأنها ثاني حَرْفِيْ لينٍ، اكتنفا مَدّة مفَاعِل، فاستُثْقِلت هَمْزَة مكْسُورة فَقُلِبت يَاءً، فاستُثْقِلت الكَسْرة على اليَاءِ فجُعِلَتْ فَتْحَة، فَتَحرَّك حَرْف العِلَّة وهو اليَاءُ الَّتِي هي لامُ الكلمة بعد فَتْحَةٍ، فقُلِبت ألِفاً [فصارت "حَوَايَا"، وإن شِئْتَ قلت: قُلِبَت الواوُ هَمْزَة مَفْتُوحة، فتحركت اليَاءُ وانفتح ما قَبْلَها فقُلِبَت ألِفاً], فصارت هَمْزَة مَفْتُوحة بين ألِفين يُشْبِهَانِها فقلبت الهَمْزَة ياءً، وقد تقدَّم تَحْقِيق هذا في قوله: { { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } [البقرة:58] واخْتِلاَف أهل التَّصْريف في ذَلِك.
وكذلك إذا قُلْنا: مُفْرَدها "حَاوِيَاء", كان وَزْنُها فَوَاعِل أيضاً؛ كقاصِعَاء وقَوَاصِع, ورَاهِطَاء ورَوَاهِط, والأصل: حَوَاوِي أيضاً, فَفُعِل به ما فُعِل في الذي قَبْلَه.
وإن قلنا: إن مُفْرَدها "حَويَة" فوزنها فعائل كَطَرائف، والأصل: حَوَائِي فقُلبت الهَمْزَة ياءً مَفْتُوحة، وقلبت اليَاءُ التي هِيَ لامٌ ألِفاً، فصار اللَّفْظُ "حَوَايَا" أيضاً، فاللَّفْظُ مُتَّحِد والعَمَل مُخْتَلِف.
قوله: "أوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ" فيه ما تقدّم في "حَوَايَا" ورأيُ الفرَّاء فيه: أنَّه مَنْصوب نَسَقاً على "ما" المسْتَثْنَاة في قوله: { إلاَّ ما حَمَلتْ ظُهُورُهُما } المُرَاد به الألْيَة.
وقيل: هو كلُّ شَحْمٍ في الجَنْب والعَيْن والأذُن والقَوَائِم، والمحرَّم الثَّرْبُ وشَحْم الكُلْيَة.
فصل
قال القرطبي: أخْبَر الله - تعالى - أنه كَتَب تَحْريم هذا عليهم في التَّوْرَاة رداً لِكَذِبهم، ونَصُّهُ فيها: "حرّمتُ عَلَيْكم المَيْتَةَ والدَّمَ ولَحْمَ الخِنْزِير وكُلَّ دابَّةٍ ليست مَشْقُوقة الحَافِر، وكل حوتٍ ليس فيه سَفَاسِقٌ" أي: بياضٌ، ثم نسخ الله ذلك كُلَّهُ بشريعة محمّد صلى الله عليه وسلم وأباح لهم ما كان مُحَرَّماً عليهم مِنَ الحيوان، وأزال الحرج بمحمَّد - عليه السلام - وألزم الخليقة دين الإسلام، بحلِّه وحرمه وأمره ونهيه، فلو ذَبَحُوا أنعامهم فأكَلُوا ما أحَلَّ لَهُم في التَّوْرَاة وترَكُوا ما حرَّم عليهم فهل يحلُّ لنا؟
قال مَالِكٌ في كِتَاب محمَّد: هي مُحُرَّمة وقال في سماع "المبسوط": هي محلَّلة؛ وبه قال ابن نافع.
وقال ابن القاسم: "أكرَهُه" والصَّحيح حِلُّه؛ لحديث جواب الشَّحْم الذي رَوَاهُ عبد الله بن مغفل.
قوله: "ذَلَك جَزَيْنَاهُمْ" فيه أربعة أوْجُه:
أحدها: أنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أي: الأمْر ذلك، قاله الحُوفِيُّ؛ ومكِّي وأبو البقاء.
الثاني: أنه مُبْتَدأ، والخبر ما بعده، والعَائِد مَحْذُوفٌ، أي: ذلك جَزَيْنَاهُمُوه، قاله أبو البقاء - رضي الله عنه - وفيه ضَعْف؛ من حيث إنه حَذَف العَائِد المنْصُوب، وقد تقدّم ما فيه في المَائدةَ في قوله - تعالى -:
{ { أَفَحُكْمَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } [المائدة:50], وأيضاً فقدَّر العَائِد مُتَّصِلاً، ويَنْبَغِي ألا يُقدَّر إلا مُنْفَصِلاً ولكنه يَشْكُل حذفه، وقد تقدَّم تحقيقُهُ في أوّل البقرة.
وقال ابن عطيَّة: "ذلك في مَوْضِع رَفْعٍ" ولم يُبَيْنْ على أيِّ الوَجْهيْن المتقدِّمَيْن، ويَنْبَغي أن يُحَمَل على الأوَّل؛ لضعف الثَّاني.
الثالث: أنه مَنْصُوب على المَصْدَرِ، وهو ظاهرِ كلام الزَّمْخَشَرِي؛ فإنه قال: "ذلك الجَزَاء جزيْنَاهُم وهو تَحْريمُ الطَّيِّبَات"، وإلا أن هذا قَدْ يَنْخَدِشُ بما نقله ابن مالك، وهو أنَّ المَصْدَر إذا أشِير إليه، وجب أنْ يُتْبَع بذلك المَصْدَرُ؛ فيقال: "ضَرَبْتُ ذلِك الض‍َّرْبَ" و "قُمْتُ هذا القِيَامَ" ولو قُلْت: "ضَرَبْت زَيْداً ذَلِك" و "قُمْت هذا" لم يَجُزْ، ذكر ذلك في الرَّدِّ على من أجَابَ عن قَوْل المُتَنَبِّي: [الكامل]

2378- هَذِي، بَرَزْتِ لَنَا فَهِجْتِ رَسِيسَا ثُمَّ انْصَرَفْتِ وَمَا شَفَيْتِ نَسِيسَا

فإنهم لَحَّنوا المُتَنَبِِّي، من حيث إنه حَذَف حَرْف النِّدَاء من اسْم الإشَارة، إذ الأصْل: يَا هَذِي.
فأجابوا عنه: بأنَّا لا نُسَلِّم أن "هَذِي" مُنَادى، بل [اسْم] إشارة إلى المَصْدَر، كأنَّه قال: بَرَزْتِ هَذِي البَرْزَة.
فردّ ابن مالك هذا الجواب: بأنَّه لا يَنْتَصب اسْمُ الإشَارَة مُشَاراً به إلى المَصْدَر إلا وهو متبوعٌ بالمَصْدَر.
وإذا سُلِّم هذا فيكُون ظاهر قَوْل الزَّمَخْشَري: "إنه مَنْصُوب على المَصْدَر" مردوداً بما رُدَّ به الجوابُ عن بَيْت أبي الطَّيِّب، إلا أن ردّ أبن مالكٍ ليس بِصَحيح؛ لورود اسْم الإشارة مشاراً به إلى المَصْدَرِ غير مَتْبُوع به؛ قال الشاعر: [الطويل]

2379- يَا عمْرُو إنَّكَ قَدْ مَلِلْت صَحَابَتِي وصَحَابَتيكَ إخَالُ ذَاكَ قَلِيلُ

قال النَّحْوِيُّون: "ذاك" إشَارَةٌ إلى مَصْدَر "خال" المؤكِّد له، وقد أنْشَده هُوَ عَلَى ذلك.
الرابع: أنه مَنْصُوبٌ على أنه مَفْعُول ثانٍ قُدِّم على عَامِله؛ لأن "جَزَى" يتعدَّى لاثْنَيْن، والتَّقْدير: جَزَيْنَاهم ذلك التَّحْريم، وقال أبُو البقاء ومكِّي: إنَّه في مَوْضِع نَصْب بـ "جَزَيْنَاهُم" ولم يُبَيِّنَا على أيِّ وَجْهٍ انتَصَب: هل على المَفْعُول الثَّانِي أو المصدر؟
فصل في معنى قوله "جزيناهم ببغيهم"
والمعنى: إنما خَصَصْنَاهم بهذا التَّحْريم جزاءً على بَغْيِهم، وهو قتلهم الأنْبَياء، وأخْذِهم الرِّبَا، وأكْلِهم أمْوال الناس بالبَاطِل، ونظيره قوله - تعالى -:
{ { فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [النساء:160].
قوله: "وإنَّا لَصَادِقُونَ" مَعْمُوله مَحْذُوف، أي: لصادِقُون في إتمام جَزَائِهِم في الآخِرَة؛ إذا هو تَعْرِيضٌ بكَذبِهم حَيْث قالُوا: نحن مُقْتَدُون في تَحْريم هذه الأشْيَاءِ بإسْرَائيل، والمعنى: الصَّادقون في إخْبَارنا عنهم ذلك، ولا يُقَدَّر له مَعْمُول، أي: من شأنِنَا الصِّدْق.
قوله: "فإنْ كَذَّبُوكَ" [الضَّمِير في "كَذَّبُوك"] الظاهر عودُه على اليَهود؛ لأنَّهم أقرب مذكور.
وقيل: يعود على المُشْركين، لتقدُّم الكلام معهم في قوله:
{ { نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ } } [الأنعام:143], و { { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ } [الأنعام:144] والمعنى: فإن كذَّبُوك في ادِّعَاء النُّبُوة والرِّسَالة { فَقُلْ ربُّكُم ذُو رَحْمَةٍ وَٰسِعَةٍ } فلذك لا يُعَجِّل عليكم بالعُقوبة، ثم أخبرهم بما أعَدَّ لهم، من العذاب في الآخرة، و"لا يردُّ بأسه" أي عذابه إذَا جَاء الوَقْت.
وقوله: "ذُو رَحْمةٍ" جيء بِهَذه الجُمْلَة اسمِيَّة، وبقوله "ولا يُرَدُّ بأسُهُ" فِعْليَّة [تَنْبِيهاً على مُبَالَغة سعَة الرَّحْمة؛ لأن الاسْمِيَّة أدلُّ على الثُّبُوت والتَّوْكيد من الفِعْليَّة.
قوله: { عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ } يحتمل أن يكُون من وَضْع الظَّاهِر موضع المُضْمَر] تنبيهاً على التَّسْجِيل عليهم بذلك، والأصل: ولا يُرَد بَأسُه عنكم.
وقال أبُو البقاء: "فإن كَذَّبُوك" شُرْطٌ، جوابه: { فَقُلْ ربُّكُم ذُو رَحْمَةٍ وَٰسِعَةٍ } والتقديرُ: "فقل يَصْفَح عَنْكُم بِتَأخير العُقُوبَة" وهذا تفسير معنى لا إعراب.