خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَٰنُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِيۤ إِيمَٰنِهَا خَيْراً قُلِ ٱنتَظِرُوۤاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ
١٥٨
-الأنعام

اللباب في علوم الكتاب

لمّا بيّن أنَّهُ إنَّما أنْزَل الكتاب إزالةً للعُذْرِ، وإزاحَةً للعِلَّة، بيَّن أنَّهُم لا يُؤمِنُون ألْبَتَّةَ، وشرح أحْوَالاً تُوجِب اليَأسَ عن دُخُولهم في الإيمان، فقال - سبحانه وتعالى -: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } أي: بالعذاب، أو عند المَوْت لقبض أرْوَاحِهِم، ونَظِير هذه الآية في سُورة البقرة: { { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ ٱلْغَمَامِ } [البقرة:210].
و "هل" استفهام، معناه: النَّفْي، ومعنى "ينظرون": ينتظرون، والتقدير: أنَّهم لا يُؤمِنُون بِكَ، إلاَّ إذا جَاءَهُم أحَدُ هذه الأمُور الثلاثة.
قوله: "أو يَأتِي رَبُّكَ": تقدَّم أنه حَذْفِ مُضَاف.
وقرا الأخوان: "إلا أن يأتِيهُم الملائِكَةُ" بياء منقُوطة من تحت؛ لأن التأنيث مَجَازِيُّ، وهو نظير:
{ { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } [آل عمران:39].
وقرأ أبو العالية، وابن سيرين: "يَوْم تَأتِي بَعْضُ" بالتأنيث؛ كقوله تعالى:
{ { تَلْتَقِطْهُ } [يوسف:10].
فإن قيل: "أو يَأتِي ربُّكَ" هل يَدلُّ على جوازِ المجيءِ والغيبة على الله - تعالى -. فالجواب من وُجُوه:
الأول: أن هذا حكاية عن الكُفَار، واعتِقَاد الكَافِر ليس بِحُجَّة.
والثاني: أنَّ هذا مَجَازٌ، ونظيرُه قولهُ - تعالى -:
{ { فَأَتَى ٱللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ ٱلْقَوَاعِدِ } [النحل:26].
والثالث: قيام الدَّلائل القاطِعَة على أنَّ المَجيء والغيْبَة على اللَّه مُحَال، وأقْرَبُها قول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - في الرَّد على عَبدَة الكواكب:
{ { لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ } [الأنعام:76].
فإن قيل: قوله - تعالى -: { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } لا يمكن حَمْلُه على إثْبَاتِ أثر من آثار قُدْرَته؛ لأن على هذا التَّقْدِير يَصِيرُ هذا عَيْن قوله: { أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } مكرَّراً؛ فوجب حَمْلُه على أنَّ المُرادَ مِنْه: إتْيَان الرَّبِّ.
قلنا: الجوابُ المُعْتَمد: أنَّ هذا حكاية مَذْهب الكُفَّار؛ فلا يَكُون حُجَّةً.
وقيل: يأتي ربُّك بلا كَيْف؛ لِفَصْل القضاءِ يَِوْم القِيَامة؛ لقوله - سبحانه وتعالى -:
{ { وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } [الفجر:22].
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "يَأتي أمْر ربِّك فيهم بالقَتْل أو غَيْره"، وقيل: يَأتِي ربُّك بالعَذَابِ.
وقيل: هذا من المُتَشَابه الَّذِي لا يَعْلَمُ تَأوِيله إلاَّ اللَّه.
"أو يأتي بعضُ آيات ربِّك": وهو المُعْجِزَات القَاهِرة.
قوله: { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ }.
الجمهور على نصب "يَوْمَ"، وناصِبهُ [ما] بَعْد "لاَ"، وهذا على أحَدٍ الأقوال الثلاثة في "لاَ", وهي أنَّها يتقدَّم مَعْمُول ما بَعْدَها عَلَيْها مُطْلَقاً، ولا يتقدَّم مُطْلَقاً، ويُفَصَّل في الثالث: بَيْن أن يَكُون جوابَ قَسَم، فَيَمْتَنِع؛ أوْ لاَ، فيجوز.
وقرأ زُهَيْر الفَرْقَبِيُّ: "يومُ" بالرَّفع، وهو مُبْتَدأ، وخَبَرُه الجُمْلَة بعده، والعَائِد مِنْها إليه مَحْذُوف، أي: لا تَنْفَع فيه.
وقرأ الجُمْهُور "يَنْفَعُ" بالياء من تحت، وقرأ ابنُ سيرين: "تَنْفَع" بالتَّاء من فوق.
قال أبو حاتم: "ذَكَرُوا أنَّه غَلَط".
قال شهاب الدِّين: لأنَّ الفِعْل مسندٌ لِمُذَكَّر، وجوابُه: أنَّه لما اكْتَسَب بالإضافَة التَّأنيث، أجْرِي عليه حُكْمُه؛ كقوله: [الطويل]

2391- وتَشْرَقُ بالقَوْلِ الَّذِي قَد أذَعْتَهُ كما شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ

وقد تقدَّم تَحْقِيق هذا أوَّل السُّورة؛ وأنْشَد سيبويه: [الطويل]

2392- مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحُ تَسَفَّهَتْ أعِالِيَهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّواسِم

وقيل: لأن الإيمان بِمَعْنى: العَقِيدة؛ فهو كقولهم: "أتَتْهُ كِتَابي فاحْتَقَرَهَا" أي: صَحِيفَتِي، ورِسَالَتِي.
قال النَّحَّاس: "في هذا شَيْء دَقِيقٌ ذكره سيبويه: وذلك أن الإيمان، والنَّفْس كلٌّ مُشْتَمِلٌ على الآخَر، فأنَّث الإيمان، إذ هو من الن‍َّفْسِ وبها" وأنشد سيبويه: [الطويل]

2393- مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ..........................

وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: "في هذه القراءة، يكُون الإيمان مُضَافاً إلى ضَمِير المُؤنَّثِ الذي هو بَعْضُه؛ كقوله: ذَهَبَتْ بَعْضُ أصابِعِه".
قال أبو حيَّان: "وهو غَلَطٌ؛ لأن الإيمان لَيْس بَعْضاً من النَّفْس".
قال شهاب الد‍ِّين: وقد تقدَّم آنِفاً ما يَشْهَد لصحَّةِ هذه العِبَارة من كلام النَّحَّاس، في قوله عن سيبويه: "وذلك أن الإيمان والنَّفْس كُلٌّ مِنْهُما مُشْتَمِلٌ على الآخَر، فأنَّث الإيمان، إذْ هُو من النَّفْس وبها" فلا فَرْق بين هَاتِيْن العِبَارَتَيْن، أيْ: لا فَرْق بين أنْ يقول: هو منها وبها، أو هو بعْضُها، والمُرَاد في العِبَارتَيْن: المَجَاز.
فصل
أجمعُوا على أنَّ المقصُود بهذه الآية: عَلامة القيامة، عن البراء بن عَازِب رضي الله عنه قال:
"كُنَّا نَتَذَكَر السَّاعة [إذْ أشرف عَلَيْنا رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما تَتَذاكَرُون؟
قُلْنَا: نَتَذاكَرُ السَّاعة]
قال: إنها لا تقُوم حتَّى تَرَوْا قبلها عشْر آيات: الدُّخان، ودابَّة الأرْضِ، وخسْفاً بالمشْرِق، وخَسْفاً بالمَغرِب، وخسْفاً بجزيرَة العرب، والدَّجَّال، وطُلُوع الشَّمس من مَغْرِبها، ويأجُوج ومَأجُوج، ونُزول عيسى - عليه السلام -، وناراً تَخْرج من عَدَن"
.
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَقُوم السَّاعة حتى تَطْلُع الشَّمس من مَغْرِبها؛ فإذا طلعت وَرَآهَا النَّاس، آمنوا أجْمَعِين، وذلك حين لا يَنْفَع نَفْساً إيمانُها لم تَكُن آمَنَتْ من قَبْلُ أو كَسَبت في إيمانِها خَيْراً" .
وروى أبُو مُوسَى الأشْعَريُّ - رضي الله عنه - قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "يَدُ اللَّه بُسْطَانٌ لِمسيء اللَّيْل، ليتُوب بالنَّهَار، ولمُسِيء النَّهَار، ليتُوب باللَّيْل، حتى تَطْلع الشَّمْس من مَغْرِبِهاَ" .
وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "من تَابَ قَبْلَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ من مَغْرِبهَا تَابَ اللَّه علَيْه" .
وعن زِرِّ بن حبيش، قال: أتَيْتُ صفوان بن العَسَّال المراديّ؛ فذكر عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جَعَل بالمَغْرِب بَاباً مَسِيرة عَرْضِه سَبْعُون عاماً، لا يُغْلَقُ حتَّى تَطْلُع الشَّمْس من قبله، وذلك قَوْل الله - عزَّ وجلَّ -: { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِيۤ إِيمَانِهَا خَيْراً }" .
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثٌ إذا خَرَجْن لَمْ يَنفع نَفساً إيمانُهَا لم تكن آمنَتْ من قَبْل أو كَسَبت في إيمانِهَا خَيْراً: الدجَّال، والدَّابَّة، وطُلُوع الشَّمْسِ من مَغْرِبها" .
قوله: { لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ }.
في هذه الجملة ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّها في محلِّ نَصْبٍ؛ [لأنها] نَعْتٌ لـ "نَفْساً"، وفصل بالفَاعِل، وهُوَ "إيمانُها" بين الصِّفَة ومَوْصُوفها، لأنَّه لَيْس بأجْنَبِيِّ، إذ قد اشْتَرك الموصُوف الَّذِي هو المفعُول والفاعل في العامل، فعلى هذا يَجُوز: "ضَرَبَ هِنْداً غلامُهَا القُرشِيَّة"، وقوله "أوْ كَسَبَتَ" عَطْف على "لَمْ تَكُن آمَنَتْ".
وفي هذه الآية بُحُوثُ حَسَنَةٌ تتعلَّق بِعِلْم العربيَّة وعليْها تُبْنَى مَسَائل من "أصُول الدِّين"، وذلك أنَّ المُعْتَزِليَّ يقول: "مُجَرَّد الإيمان الصَّحيح لا يَكْفِي، بل لا بُدَّ من انْضِمَام عمل يَقْتَرِن به ويُصَدِّقه"، واستدلَّ بظاهِرِ هذه الآية، وذلك كما قال الزَّمَخْشَرِيُّ: "لَمْ تَكُون آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ" صفة لقوله "نَفْساً" وقوله: "أوْ كَسَبَتْ في إيمانِها خَيْراً" عُطِفَت على "آمَنَتْ" والمعنى: أنَّ أشْرَاط السَّاعَةِ إذا جاءت وهي آيات مُلْجِئَةٌ مُضْطَرَّةٌ، ذهب أوَانُ التَّكلِيف عِنْدَها؛ فلم يَنْفَعُ الإيمان حينئذٍ نَفْساً غيرَ مُقدِّمةٍ إيمانها قبل ظُهُور الآيَاتِ، أو مُقَدِّمَة إيمانها غير كَاسِبَةٍ خيراً في إيمانها؛ فلم يُفَرِّق كما ترى بين النَّفْس الكَافِرَة إذا آمنت إذا آمنت في غَيْر وقت الإيمان، وبَيْنَ النَّفْس التي آمَنَت في وقتِهِ ولم تكْسِبْ خيراً، ليعلم أن قوله:
{ { ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } } [البقرة:25] جمع بين قَرِينَتَيْن، لا ينبغي أن تَنْفَكَّ إحدَاهما عن الآخْرَى حتى يَفُوزَ صَاحِبُها ويَسْعَد، وإلاَّ فالشقوة والهلاك.
وقد أجاب بَعْضُ النَّاس هذا الظَّاهر: بأن المَعْنَى بالآية الكريمة: أنَّه إذا أتَى بَعْض الأيَات، لا يَنْفَعُ نَفْساً كَافِرة إيمانُها الَّذِي أوْقَعَتْه إذ ذَلِك، ولا يَنْفَع نَفْساً سبق إيمانها وما كَسَبَت فيه خَيْراً، فقد علَّق نَفْيَ نَفْع الإيمانِ بأحَدِ وَصْفِيْن: إمَّا نَفْيَ سَبْق الإيمان فقط، وإمَّا سَبْقُه مع نَفْي كَسْبِ الخَيْر، ومَفْهُومُه: أنَّه يَنْفَع الإيمان السَّابق وَحْدَه أو السَّابِق ومعهُ الخَيْر، ومَفْهُوم الصِفَة قَوِيٌّ. فَيُسْتدل بالآية لِمَذْهَب أهْل السُّنَّة، فقد قلبوا دَلِيلَهُم دليلاً عَلَيْهم.
وقد أجاب القَاضِي نَاصِر الدِّين بن المُنِير عن قول الزَّمخشري -رحمه الله - فقال "قال أحْمَد: هو يَرْوم الاسْتِدلال على أنَّ الكافر والعَاصِي في الخُلُود سواءٌ، حيث سَوَّى في الآية بَيْنَهُما؛ في عدم الانْتِفَاع بما يَسْتَدْرِكَانِهِ بعد ظُهُور الآيات ولا يتم ذلك، فإنَّ هذا الكلام في البلاغة يُلَقَّبُ بـ "اللَّفِّ" وأصلهُ: يَوْم يَأتِي بَعْض آيات ربِّك لا يَنْفَعُ نَفْساً إيمانُها لم تكن مُؤمِنَة قبل إيمانِها بَعْدُ، ولا نَفْساً لَمْ تَكْسِب خَيْراً قبل ما تَكْسِبُه من الخَيْر بَعْدُ، فَلَفَّ الكلامين؛ فجعلُهُمَا كلاماً واحداً إيجازاً وبلاغة، ويَظْهَرُ بذلك أنَّها لا تُخَالِفُ مذْهَب الحقِّ فلا يَنْفَعُ بَعْد ظُهُور الآياتِ اكتِسَاب الخَيْر، وإن نَفَع الإيمان المُتقدِّم من الخُلُود، فهي بالرِّد على مَذْهبه أوْلى من أنْ تَدلَّ له".
الثاني: أن هذه الجُمْلَة في مَحَلِّ نَصب على الحالِ من الضَّمير المَجْرُور، قاله أبو البقاء، يعني: من "هَا" في إيمانِها.
الثالث: أن تكُون مُسْتَأنَفة. وبهذا بَدَأ أبو البقاء، وثنَّى بالحالِ، وجعل الوَصْف ضَعِيفاً؛ كأنه استَشْعَر ما ذَكَرَهُ الزَّمَخْشري، ففرَّ من جَعْلِها نَعْتاً، وأبو حيَّان جعل الحال بَعِيداً، والاسِتئْنَاف أبْد منه.
ثم قال - تعالى - { قُلِ ٱنتَظِرُوۤاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ } وهذا وَعِيدٌ وتهديد.