خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّٰهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَٰهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ
٦
-الأنعام

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { أََلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا } لمَّا منعهم من الإعراض والتَّكْذيبِ، والاسْتِهْزاءِ بالتهديد والوعيد، أتْبَعَهُ بما يجري مجرى المَوْعِظةِ، فوعظهم بالاعْتِبَار بالقُرُونِ الماضية.
و"كم" يجوز أن تكون اسْتِفْهاميَّةً وخبَريَّةً، وفي كِلاَ التقديرين فهي معلقة للرؤية عن العَمَلِ، لأنَّ الخَبَريَّةَ تجري مجرى الاسْتِفْهاميَّةِ في ذلك، ولذلك أعطيت أحكامها من وجوب التَّصْديرِ وغيره، والرُّؤيَةُ هنا عِلْميَّةٌ، ويضعف كونها بصرية، وعلى كلا التقديرين فهي معلّقة عن العمل؛ لأنَّ البصرية تجري مجراها، فإن كانت عِلْمِيَّةً فـ "كم" وما في حيِّزها سادَّة مسدَّ مفعولين، وإن كانت بَصَريَّةً فمسدّ واحد.
و"كم" يجوز أن تكون عبارة عن الأشخاص، فتكون مفعولاً بها، نَاصِبُهَا "أهْلَكْنا"، و "مِنْ قَرْنِ" على هذا تمييز لها وأنْ تكون عِبارَةً عن المصدر فتنتصب انتصابه بـ "أهْلكْنَا" أي: إهلاكاً، و"من قرنٍ" على هذا صِفَةٌ لمفعول "أهَلكْنَا" أي: أهلكنا قوماً، أو فوجاً من القُرُونِ؛ لأنَّ قرناً يُرَادُ به الجَمْعُ، و "مِنْ" تبعيضية، والأولى لابتداء الغاية.
وقال الحُوفي: "من" الثانية بَدَلٌ من "مِنْ" الأولى، وهذا لا يُعْقَلُ فهو وَهْمٌ بَيَّنٌ، ويجوز أن تكون "كم" عبارة عن الزَّمَانِ، فتنتصبُ على الظرف.
قال أبو حيان: تقديره: كم أزمنةٍ أهلكنا فيها.
وجعل أبو البقاء على هذا الوجه "مِنْ قَرْن" هو المفعول به، و"منْ" مَزيدَةٌ فيه، وجاز ذلك؛ لأن الكلام غير موجب، والمجرور نكرة، إلاَّ أنَّ أبا حيَّان مَنَعَ ذلك بأنَّهُ لا يقع إذ ذاك المفرد موقع الجمع لو قلت: "كم أزماناً ضَرَبْت رجلاً" أو كم مرة ضربت رجلاً لم يكن مدلولُ رجلٍ رجلاً، لأنَّ السؤال إنما يَقَعُ عن عدد الأزمنة أو المَرَّاتٍ التي ضربت فيها، وبأن هذا ليس مَوْضَعَ زيادة "مِنْ" لأنَّها لا تُزَادُ في الاستفهام، إلاَّ وهو استفهامٌ مَحْضٌ أو يكون بمعنى النَّفي، والاستفهام هنا لَيْسَ مَحْضاً ولا مُرَاداً به النفي انتهى.
قال شهابُ الدِّين: وجوابه لا يسلم.
و"قَرْن" الجماعة من النَّاسِ وجمعه "قرون".
وقيل: القَرْنُ مُدَّة من الزمان، يقال: ثمانون سنةً، [ويقال: ستُّون سَنَةً] ويُقال: أربعون سَنَةً، ويقال: ثلاثون سَنَةً، ويقال: مائة سنة؛ لما روي أنَّه - عليه السلامُ - قال لعبد الله بن بشر المازني: "تَعِيْشُ قَرْناً" فعاش مائة سَنَةٍ، فيكون معنى الآية على هذه الأقَاوِيلِ من أهل قرنٍ؛ لأنَّ القَرْنَ الزمان، ولا حَاجَةَ إلى ذلك إلاَّ على [اعتقاد] أنه حقيقة فيه مَجَازٌ في النَّاسِ، وسيأتي بيان أن الراجح خلافه.
وعلى القول الأوَّل: هم القوم المقترنون واشْتِقَاقُهُ من الاقْتِرَانِ، قاله الواحِدِيُّ -رحمه الله -، وسيأتي بَقِيَّةُ الكلام عليه في الصَّفْحَةِ الثانية.
قوله: "مَكَّنَّاهُمْ في الأرْضِ" في موضع جرِّ صفة لـ "قرن"، وعاد الضميرُ عليه جمعاً باعتبارِ معناه.
قاله أبُو البقاء - رضي الله عنه -، والحوفيرحمه الله . وضعَّفه أبو حيان بأن "من قرن" تمييز لـ "كم"، فـ "كم" هي المُحَدَّثُ عنها بالإهلاكِ، فهي المُحَدَّثُ عنها بالتَّمْكينِ لا ما بَعْدَهَا؛ إذ "من قرن" يجري مجرى التَّبْيينِ، ولم يُحَدَّث عنه.
وجوَّز أبو حيَّان - رحمه اللَّهُ تعالى - أنْ تكون هذه الجُمْلَةُ اسْتِئْنَافاً جواباً لسؤال مُقَدَّرِ، قال: كأنَّه قيل: ما كان من حَالِهِمْ؟ فقيل: مَكَّنَّاهم، وجعله هو الظَّاهر، وفيه نظرٌ، فإنَّ النكرة مُفْتِقَرةٌ للصِّفَةِ فَجَعْلُهَا صفة ألْيَقُ، والفَرْقُ بين قوله تبارك وتعالى: { مَّكَّنَّاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ } وقوله: { مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ } [أن "مكنة في كذا] أثبته فيها، ومنه
{ { وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ } [الأحقاف:26] وأما مكنَّا جعل له مكاناً، ومنه: { { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي ٱلأَرْضِ } [الكهف:84] { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ } [القصص:57].
ومثله "أرضٌ له" أي: جعل له أرضاً، هذا قول الزمخشري -رحمه الله تعالى - وأما أبو حيَّان - رضي الله عنه - فإنَّهُ يَظْهَرُ من كلامه التَّسْوِيَةُ بينهما، فإنَّهُ قال: وتعدِّي "مَكَّن" هنا للذَّوَات بنفسه وبحرف الجَرِّ، والأكْثَرُ تَعْدِيَتُهُ باللام [نحو]
{ { مَكَّنَّا لِيُوسُفَ } [يوسف:21] { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ } [الكهف:84]، { { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ } [القصص:57].
وقال أبُو عُبَيْدَة: "مكَّنَّاهُمْ ومكَّنَّا لهم: لغتانِ فصيحتان، نحو: نَصَحْتُه، ونَصَحْتُ له" وبهذا قال أبو علي والجرحانيُّ.
قوله: "ما لم نُمكِّنْ لكم" في "ما" هذه خمسة أوجه:
أحدها: أنْ تكون مَوْصُولةً بمعنى "الَّذي"، وهي حينئذٍ صفةٌ لموصوف محذوف، [والتقديرُ: التميكن الذين لم نُمَكِّنْ لكم، والعَائِدُ محذوف أي: ] الذي لم نُمَكِّنْهُ لَكُمْ.
الثاني: أنها نكرةٌ صفةٌ لمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تقديره: تمكيناً ما لم نُمَكِّنْهُ لكم، ذكرهما الحُوفِيُّرحمه الله تعالى.
وردَّ أبو حيَّان -رحمه الله تعالى - الأوَّلَ بأنَّ "ما" بمعنى "الذي" لا تكون صِفَةً لمعرفةٍ، وإن كان "الذي" يقع صِفَة لها، لو قلت: "ضَرَبْتُ الضَّرْبَ ما ضَرَبَ زيدٌ" تريد الضربَ الذي ضربه زَيْدٌ، لم يَجُزْ، فإن قلت: "الضَّرْبَ الذي ضربه زيد" جاز.
وَرَدَّ الثاني بأن "ما" النكرة التي تَقعُ صِفَةً لا يجوزُ حَذْفُ موصوفها، لو قلت: "قُمْتُ ما وضَربْتُ مَا" وأنت تعني: قُمْتُ قياماً ما وضربت ضرباً ما لم يَجُزْ.
الثالث: أن تكون مَفْعُولاً بها لـ "مَكَّنَ" على المعنى، لأنَّ معنى مكَّنَّاهُمْ: أعطيناهم ما لم نُعْطِكُمْ، ذكره أبُو البقاءِ -رحمه الله -.
قال أبُو حيَّان -رحمه الله -: "هذا تَضْمِينٌ، والتَّضْمِينُ لا يَنْقَاسُ".
الرابع: أن تكون "ما" مَصْدريَّةً، والزَّمَان محذوف، أي: مُدَّة ما لم نمكِّن لكم، والمعنى: مُدَّةَ انْتِفَاءِ التمكين لكم.
الخامس: أن تكون نكرةً موصُوفَةً بالجملة المنفيَّة بعدها، والعائد محذوف، أي: شيئاً لم نمكِّنه لكم، ذكرهما أيضاً أبو البقاء قال أبو حيان -رحمه الله تعالى - في الأخير: "وهذا أقْرَبُ إلى الصَّوابِ".
قال شهاب الدين -رحمه الله تعالى -: ولو قدَّره أبو البقاءِ بخاصٍّ لكان أحْسَنَ من تقديرِه بلفظ "شيء"، فكان يقول: مَكَّنَّاهُمْ تمكيناً لم نمكّنه لكم.
والضمير في "يروا" قيل: عائدٌ على المُسْتَهْزِئين، والخطابُ في "الكم" راجعٌ إليهم أيضاً، فيكون على هذا التِفَاتاً فائدتُهُ التَّعْريض بقلَّةِ تمكُّنِ هؤلاء، ونَقْصِ أحوالهم عن حَالِ أولئك، ومع تمكينهم وكثرتهم فقد حَلَّ بهم الهَلاَكُ، فكيف وأنتم أقَلُّ منهم تمكيناً وعدداً؟.
وقال ابن عطيَّة -رحمه الله تعالى -: "والمُخَاطَبَةُ في "لكم" هي للمؤمنين ولجميع المُعَاصرين لهم ولسائِرِ النَّاس كافَّةً، كأنه قيل: لم نُمَكِّن يا أهل هذا العَصْرِ لكم، ويحتمل أن يُقدَّر معنى القول لهؤلاء الكَفَرَةِ، كأنه قال: يا مُحَمَّدُ قُل لهم: "ألَمْ يَرَوا كَمْ أهْلَكْنَا" الآية، فإذا أخبرت أنك قُلْتَ - أو أمَرْتَ أن يُقال - فلك في فَصيحِ كلام العرب أن تحكي الألْفَاظَ المَقُولَةَ بعينها، فتجيءَ بلفظ المُخَاطبة، ولك أن تجيء بالمعنى في الألفاظ بالغَيْبَةِ دون الخطاب" انتهى.
ومثاله: "قُلْتُ لزيد: ما أكرمك، أو ما أكرمه".
و"القَرْنُ" يقع على مَعَانٍ كثيرة، فالقرن: الأمَّةُ من النَّاس، سُمُّوا بذلك لاقُتِرَانِهِمْ في مُدَّةٍ من الزَّمانِ، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام-:
"خَيِْرُ القُرونِ قَرْنِي"
وقال الشاعر [في ذلك المعنى:] [الطويل]

2108-أخَبِّرُ أخْبَارَ القُرُونِ التي مَضَتْ أدِبُّ كَأنِّي كُلَّمَا قُمْتُ رَاكِعُ

وقال قَسُّ بنُ سَاعِدَةَ: [مجزوء الكامل]

2109-فِي الذَّاهبينَ الأوَّلِيـ ـنَ مِنَ القُرُونِ لَنَا بَصَائِرْ

وقيل: أصله الارتفاعُ، ومنه قَرْنُ الثَّوْرِ وغيره، فَسُمُّوا بذلك لارتفاع السِّنِّ.
وقيل: لأنَّ بعضهم يُقْرَنُ ببعض، ويُجْعَلُ مجتمعاً معه، ومنه القرنُ للحَبْلِ يُجْمَعُ به بين البَعيريْنِ، ويُطلَقُ على المُدَّة من الزَّمان أيضاً.
وهل إطلاقُهُ على النَّاسِ والزَّمان بطريق الاشْتِرَاكِ، أو الحقيقة والمجاز؟ يُرَجَّعُ الثَّاني؛ لأنَّ المجَازَ خيرٌ من الاشْتِرَاكِ.
وإذا قُلنا بالراجح، فإنها الحقيقة، الظاهر أنه القَوْمُ؛ لأنَّ غالب ما يُطْلَقُ عليهم، والغَلَبَةُ مُؤذِنَةٌ بالأصَالَةِ غالباً. وقال ابنُ عطيَّة -رحمه الله تعالى:- القَرْنُ أنْ يكون وفاةُ الأشياخ وولادَةُ الأطفال، ويَظْهَرُ ذلك من قوله تعالى: { وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِين } [الأنعام:6] فجعله مَعْنًى، وليس بواضح وقيل: القَرْنُ: النَّاسُ المجتمعون كما تقدَّم، قلّت السِّنُون أو كثُرتْ، واستدلُّوا بقوله عليه الصلاة والسلام:
"خَيْرُ القُرونِ قَرْنِي" وبقوله: [مجزوء الكامل]

2110- فِي الذَّاهبين الأوَّليـ ـنَ مِنَ القُرُونِ لَنَا بَصَائِرْ

وبقول القائل في ذلك: [الطويل]

2111- إذَا ذَهَبَ القَوْمُ الَّذِي كُنْتَ فِيهِمُ وَخُلِّفْتَ فِي قَرْنٍ فَأنْتَ غَرِيبُ

فأطلقوه على النَّاسِ ليفيد الاجتماع.
ثم اختلف النَّاسُ في كميةِ القَرْنِ حالة إطلاقه على الزَّمان، فالجمهور على أنَّهُ مائة سنة، واستدلُّوا له بقوله عليه السلام:
"تَعيشُ قَرْناً" ، فعاش مائة سَنَةٍ، وقيل: مائة وعشرون سنة، قاله إيَاسُ مُعَاويَةَ، وزرارة بن أبي أوفى.
وقيل: ثمانون نقله أبو صالح عن ابن عبَّاسٍ.
وقيل: سبعون؛ قاله الفرّاء.
وقيل: ستُّون لقوله عليه السلام:
"مُعْتَرَكُ المنَايَا ما بَيْنَ السِّتِّينَ إلى السَّبعينَ"
وقيل: أربعُون، حكاه محمد بن سيرين، يرفعه إلى النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلامُ، وكذلك الزَّهراوي أيضاً يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: ثلاثون حكاهُ النَّقَّاش عن أبي عُبَيْدة، كانوا يرون أن ما بين القرنين ثلاثون سنةً.
وقيل: عشرون سنةً، وهو رأي الحَسَنِ البصري.
وقيل: ثمانية عشر عاماً.
وقيل: المقدار الوَسَطُ مثل أعمار أهل ذلك الزمان، واسْتُحْسِنَ هذا بأنَّ أهل الزَّمَنِ القديم كانوا يعيشون أربعمائة سَنَةً، وثلاثمائة سنة، وألفاً وأكثر وأقلَّ.
ومعنى الآية: أعطيناهم ما لم نُعْطِكُمْ.
وقال ابن عبَّاسٍ: أمهلناهم في العمر مثل قوم نوحٍ وعادٍ وثمود.
قوله: { وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً } يعني المَطَرَ "مِفْعَال" من الدَّرِّ و"مِدْرَاراً" حالٌ من "السماء" إنْ أُريد بها السحاب، فإن السحاب يوصف بكثرةِ التَّتَابُع أيضاً.
قال ابنُ عبَّاسٍ: مِدْرَاراً مُتَتَابِعاً في أوْقاتِ الحَاجَاتِ، وإن أُريدَ بها الماء فكذلك، ويَدُلُّ على أنه يُرَادُ به المَاءُ قوله في الحديث: "في أثر سماءٍ كَانَتْ من اللَّيلِ" ويقولون: ما زلنا نَطَأُ السماء حتى أتيناكم، ومنه: [الوافر]

2112- إذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بأرْضِِ قَوْمٍ رَعَيْنَاهُ وإنْ كَانُوا غِضَابا

أي: رَعَيْنَا ما ينشأ عنه، وإن أُريدَ بها هذه المِظَلَّةُ، فلا بُدّ من حذف مُضافٍ حينئذٍ، أي: مَطَر السماء، ويكون "مِدْرَاراً" حالاً منه.
و"مِدْرَاراً" مِفعال للمُبالغةِ كامرأة مِذْكارِ ومئناث.
قالوا: وأصله من "دَرِّ اللَّبَن" وهو كَثْرةُ ورودِه على الحالِبِ.
ومنه: "لا دَرَّ دَرُّهُ" في الدُّعَاءِ عليه بقلَّةِ الخير.
وفي المَثَلِ "سَبَقَتْ درَّتُه غِزَارَهُ" وهي مثلُ قولهم: "سَبَقَ سَيْلُهُ مَطَرَه" و"استدَّرت المِعْزَى" كناية عن طلبها الفَحْلَ.
قالوا: لأنَّها إذا طَلَبَتْهُ حَمَلَتْ فَوَلَدَتْ فَدَرَّتْ.
قوله: { وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ } إن جعلنا "جَعَلَ" تَصْييريةً كان "تجري" مفعولاً ثانياً، وإن جعلناها إيجادِيَّةً كان حالاً.
و"من تحتهم" يجوز فيه أوجه:
أن يكون متعلّقاً بـ "تجري"، وهو أظهرها، وأن يكون حالاً، إمَّا من فاعل "تجري"، أو من "الأنهار"، وأنْ يكون مفعولاً ثانياً لـ "جَعَلْنَا"، و"تجري" على هذا حالٌ من الضمير في الجَارِّ، وفيه ضَعْفٌ لتقدُّمِهَا على العامل المَعْنَوِيّ، ويجوز أن يكون "من تحتهم" حالاً من "الأنْهَار" كما تقدَّم، و"تجري حالٌ من الضمير المُسْتَكِنِّ فيه، الضَّعْفُ المتقدّمُ.
فصل
المُرَادُ من قوله: { وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ } كَثْرَةُ البَسَاتيِن، والمعنى أنهم وَجَدُوا من مَنَافع الدُّنيا أكثر مما وَجَدَهُ أهلُ "مكَّة" المشرفة، ثُمَّ مع هذه الزيادة في العِزِّ، وكثرة العدد والبَسْطَةِ في المال والجِسْمِ لمَّا كفروا فجرى عليهم ما سمعتم من إهلاكهم، وهذا يوجب الاعتبار.
فإن قيل: ليس في هذا الكلام إلاَّ أن الإهلاك غي مختصّ بهم، بل الأنبياء والمؤمنون كلهم أيضاً قد هلكوا فكيف يحسنُ إيرادُ هذا الكلام في مَعْرضِ الزَّجْرِ عن الكُفْرِ مع أنه يشترك فيه الكَافِرُ والمؤمنُ؟.
فالجوابُ: ليس المقصود منه الزَّجْر بمجرد المَوْتِ، والهلاك، بل المُرَاد منه أنهم بَاعُوا الدِّينَ بالدنيا؛ فعوقبوا بسبب الامْتِنَاعِ من الإيمان، وهذا المعنى مُشْتَرَكٍ بين الكافر والمؤمن.
فإن قيل: كيف قال: "أوْ لَمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنَا" مع أنَّ القَوْمَ ماتوا مُقِرِّين بِصِدْقِ محمد صلى الله عليه وسلم فيما يخبر به عنه، وأيضاً فهم لم يُشَاهدوا وقَائِعَ الأمم السَّالفة؟
فالجواب: أنَّ [أقَاصِيصَ المتقدمين مشهورة بين الخلق فيبعد أن يقال إنهم ما سمعوا أخبارهم، ومجرد سماعها يكفي في الاعتبار.
فإن قيل: أي فائدة في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم؟
فالجواب: أن] فائدته التَّنْبِيهُ أن‍َّه لا يَتَعَاظَمُهُ إهْلاكُهُمْ وإخْلاَءُ بلادهم منهم، فإنه قَادِرٌ على إنشاء آخرين مَكَانَهُمْ يُعمِّرُ بهم بلاده، كقوله:
{ { وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا } [الشمس:15].
و"من بعدهم" متعلِّق بـ "أنشأنا".
قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون حَالاً من "قرن"؛ لأنه ظَرفُ زمان يعني: أنه لو تأخَّر عن قرن لكان يُتَوَهَّمُ جوازُ كونه صِفَةً له، فلما قُدِّمَ عليه قد يوهم أن يكون حالاً منه؛ لكنه منع ذلك كونُهُ ظرف زمان والزَّمَانُ لا يُخْبَرُ به عن الحَدَثَ ولا يُوصَفُ، وقد تقدَّمَ أنه يصحُّ ذلك بتأويل في "البقرة" عند قوله تعالى:
{ { وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [البقرة:21] و"آخرين" صِفَةٌ لـ "قَرْن"؛ لأنه اسم جَمْع كـ"قوم" و"رهط"، فلذلك اعْتُبِر معناه، ومن قال: إنَّهُ الزَّمانُ قدَّرَ مُضَافَاً، أي: أهل قرن آخرين، وقد تقدَّمَ أنَّهُ مرْجُوحٌ، واللَّهُ أعلم.