خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي هَـٰذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ
٧٨
-الأنعام

اللباب في علوم الكتاب

إنما ذكر اسم الإشارة مذكراً والمشار إليه مؤنث لأحد وجوه:
إما ذهاباً بها مذهب الكواكب، وإما ذهاباً بها مذهب الضوء والنور، وإما بتأويل الطَّالع أو الشخص؛ كما قال الأعشى: [السريع]

2218- قَامَتْ تُبَكِّيهِ عَلَى قَبْرِهِ مَنْ لِيَ بَعْدكَ يَا عَامِرُ
تَرَكْتَنِي فِي الدَّارِ ذَا غُرْبَةٍ قَدْ ذَلَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ نَاصِرُ

أو الشيء، أو لأنه لما أخبر عنها بمذكَّرٍ أعْطِيَتْ حُكْمَه؛ تقول: هند ذاك الإنسان وتيك الإنسان؛ قال: [البسيط]

2219- تَبِيتُ نُعْمَى عَلَى الهِجْرَانِ غَائِبَةً سَقْياً ورعْياً لِذاكَ الغَائِبِ الزَّاري

فأشار إلى "نعمى" وهي مؤنث إشارةَ المُذكرِ لوصفها بوصف الذكور, أو لأن فيها لُغَتَيْنِ: التذكير والتأنيث، وإن كان الأكثر التأنيث، فقد جمع بينهما في الآية الكريمة فأنَّث في قوله: "بازغة"، وذكَّرَ في قوله: "هذا".
وقال الزمخشري: "جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارةً عن شيء واحد؛ كقولهم: ما جاءت حاجتك، ومن كانت أمك، و
{ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا } [الأنعام:23] وكان اختيار هذه الطريقة واجباً لصيانة الرَّبِّ عن شُبْهَةِ التأنيث، إلا تَرَاهُمْ قالوا في صفة الله: علاَّم، ولم يقولوا: عَلاَّمة، وإن كان أبْلَغَ، احترازاً من علامة التأنيث".
قلت: وهذا قريبٌ مِمَّا تقدَّم في أن المؤنث إذا أخبر عنه بمذكَّرِ عومل معاملة المُذكَّرِ، نحو: "هند ذاك الإنسان".
وقيل: لأنها بمعنى: هذا النَّيِّر، أو المرئي.
قال أبو حيَّان: "ويمكن أن يقال: إن أكثر لغة الأعاجم لا يفرقون في الضمائر، ولا في الإشارة بين المُذَكَّرِ والمؤنث سواء، فلذلك أشار إلى المؤنَّثِ عندنا حين حكى كلام إبراهيم بما يشار به إلى المذكر، بل لو كان المؤنث بِفَرْجٍ لم يكن له علامة تَدُلُّ عليه في كلامهم، وحين أخبر - تعالى - عنها بقوله: "بَازِغَةً" و "أفَلَتْ" أتت على مقتضى العربية، إذ ليس ذلك بحكاية" انتهى.
وهذا إنما يظهر أن لو حكى كلامهم بِعَيْنِهِ في لغتهم، أما شيء يعبر عنه بلغة العرب، ويعطى حكمه في لغة العَجَمِ، فهو مَحَلُّ نَظَرٍ.
فصل في بيان سبب تسمية العبرية والسريانية.
قال الطبري: إن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - إنما نطق بالعبرانية حين عَبَرَ النَّهْرَ فاراً من النَّمْرُودِ حيث قال للذين أرسلهم في طلبه: إذا وجدتم من يتكلم بالسريانية فأتُونِي به، فلما أدْرَكُوُ اسْتَنْطَقُوهُ، فَحوَّلَ الله نُطْقَهُ لساناً عبرانياً، وذلك حين عبر النَّهْرَ، فسميت العبرانية لذلك.
وأما السُّرْيَانِيَّةُ فذكر ابن سلام أنها سميت بذلك؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - حين علم آدم الأسماءَ علَّمهُ سِرَّا من الملائكة، وأنطقه بها حينئذ، فَسُمِّيتِ السريانية لذلك، والله أعلم.
قوله: "هَذَا أكْبَرُ" أي: أكبر الكواكب جِرْماً، وأقواها قوة، فكان أوْلَى بالإلهية، قوله: { إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } "ما" مصدرية، أي: بريء من إشراككم، أو موصولة أي: من الذين يشركونه مع الله في عبادته، فحذف العائد, ويجوز أن تكون الموصوفة والعائد محذوف أيضاً, إلا أنَّ حَذْفَ عائد الصِّفَةِ أقل من حَذْفِ عائد الصِّلة، فالجملة بعدها لا محلًّ لها على القولين الأوَّليْنِ، ومحلها الجر على الثالث، ومعنى الكلام أنه لما ثبت بالدليل أن هذه الكواكب لا تصلح للرُّبُوبيَّةِ والإلهية، لا جَرَمَ تبَرَّأ من الشِّرْكِ.
فإن قيل: هَبْ أن الدليل دَلَّ على أن الكواكب لا تصلح للربوبية، لكن لا يلزم من هذا نَفْيُ الشرك مطلقاً؟
فالجواب: أن القوم كانوا مُسَاعدين على نَفْي سائر الشُّركاءِ، وإنما نازعوا في هذه الصورة المعينة، فلما ثبت بالدليل أن هذه الأشْياءَ ليست أرْبَاباً، وثبت بالاتفاق نَفْيُ غيرها، لا جرم حصل الجَزْمُ بنفي الشركاء.