خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ
٨٤
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ
٨٥
وَإِسْمَاعِيلَ وَٱلْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى ٱلْعَالَمِينَ
٨٦
وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَٱجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٨٧
ذٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٨٨
-الأنعام

اللباب في علوم الكتاب

في "وهبنا" وجهان:
أصحهما: أنها مَعْطُوفةٌ على الجملة الاسمية من قوله: "وتِلْكَ حُجَّتُنَا" وعطف الاسْمِيَّة على الفعلية وعكسه جائز.
والثاني: أجازه ابن عطيَّة، وهو أن يكون نَسَقاً علت "آتَيْنَاهَا" ورَدَّهُ أبُو حيَّان بأن "آتَيْنَاهَا" لها مَحَلٌّ من الإعراب، إمَّا الخبر وإمَّا الحال، وهذه لا مَحَلَّ لها؛ لأنها لو كانت مَعْطُوفَةً على الخَبَر أو الحال لاشترط فيها رابط، و"كُلاً" مَنْصُوبٌ بـ "هَدَيْنَا" بعده. والتقدير: وكلّ واحدٍ من هؤلاء المذكورين.
فصل في المراد بالهداية
اختلفوا في المُرادِ بهذه الهداية، وكذا في قوله: { وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ } وقوله في آخر الآيات { ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ } قال بعض المُحَقَّقين: المُرَادُ بهذه الهداية الثَّوابُ العظيم، وهو الهداية إلى طريق الجنَّةِ؛ لقوله بعده { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } وجزاء المحسنين هو الثواب، وأمَّا الإرشاد إلى الدين، فلا يكون جَزَاءً على عَمَلِهِ.
وقيل: لا يَبْعُدُ أن يكون المُرَادُ الهدايةَ إلى الدِّينِ، وإنما كان جَزاءً على الإحسان الصادر منهم؛ لأنهم اجْتَهَدُوا في طَلَبِ الحقِّ، فاللَّهُ - تعالى - جَازَاهُمْ على حُسْنِ طلبهم بإيصالهم إلى الحقِّ، كقوله
{ { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت:69].
وقيل: المُرَادُ بهذه الهداية الإرْشَادُ إلى النُّبُوَّةِ والرسالة؛ لأن الهداية المَخْصُوصَةَ بالأنبياء ليست إلاَّ ذلك.
فإن قيل: لو كان كذلك لكان قوله: { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } يقتضي أن يكون الرِّسَالةُ جزاءً على عملٍ، وذلك باطلٌ.
فالجوابُ أنَّ قوله: { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } يحمل على الجزاءِ الذي هو الثَّوابُ، فيزول الإشْكَالُ.
واعلم أنَّهُ - تعالى - لمَّا حَكى عن إبراهيم أنه أظْهَرَ حُجَّةَ اللَّهِ في التوحيد، وذَبَّ عنها عدَّدَ وجوه نعمِهِ وإحْسانِهِ إلَيْهِ.
فأوّلها: قوله:
{ { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ } } [الأنعام:83] أي: نحن آتَيْنَاهُ تلك الحُجَّةَ، وهديناه إليها، وأفَقْنَا عَقْلَهُ على حقيقتها، وذكر نَفْسَهُ باللفظ الدَّالِّ على العظمةِ [وذلك يوجب] أن تكون تلك النعمة عظيمة.
وثانيها: أنه - تعالى - خَصَّهُ بالرِّفْعَةِ إلى الدَّرجاتِ العالية، وهو قوله:
{ { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ } [الأنعام:83].
وثالثها: أنه - تعالى - جَعَلهُ عَزيزاً في الدُّنْيَا؛ لأنه جُعِلَ للأنبياء والداً، والرُّسُلُ من نَسْلِهِ ومن ذُرَّيَّتِهِ، وأبقى هذه الكَرَامَةَ في نَسْلِه إلى يوم القيامةِ فقال: { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ } لِصُلْبِهِ و "يَعْقُوبَ" بعده من إسحاق.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يذكر إسماعيل - عليه الصَّلاة والسَّلام - مع إسحاق، بل أخَّرَ ذِكْرَهُ [عنه] بدرَجَاتٍ؟
فالجوابُ: أن المقصود بالذِّكْرِ هاهنا أنبياء بني إٍسرائيل، وهم بِأسْرِهِمْ أولاد إسحاق.
وأمَّا إسماعيلُ فإنه لم يخرج من صُلْبِهِ نَبِيُّ إلاَّ محمدٌ عليه الصَّلاة والسَّلام، [ولا يجوز ذكر محمد - عليه الصلاة والسلام - في هذا المقام؛ لأنه تعالى أمر محمداً] أن يحتجَّ على العربِ في نفي الشِّرْكِ باللَّهِ بأنَّ إبراهيم لمَّا تركَ الشرك وأصَرَّ على التَّوحيدِ رَزَقَهُ اللَّهُ النِّعَمَ العظيمة في الدنيا بأن آتاه أوْلاداً كانوا أنبياء ومُلُوكاً، فإذا كان المحتج بهذه الحُجَّةِ هو محمد - عليه الصَّلاة والسَّلامُ - امتنع أن يذكر في هذا المعرض.
فلهذا السبب لم يذكر إسماعيل مع إسحاق.
قوله: { وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ } فالمُرَادُ أنَّهُ - تعالى - جعل إبراهيم في أشْرَفِ الأنْسَابِ؛ لأنه رَزَقَهُ أوْلاداً مثل إسحاق ويعقوب، وجعل أنبياء بني إسرائيل من نَسْلِهِمَا، وأخرجه من أصْلابِ آباءِ طَاهِرينَ مثل "نوح" و "شيث" و "إدريس"، والمقصود بيانُ كرامَةِ إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بحسب الأولاد والآباء.
قوله: "من ذُرِّيتِهِ"الهاء" فيها وجهان:
أحدهما: أنها تعود على نُوح؛ لأنه أقْرَبُ مذكورٍ, ولأنَّ إبراهيم ومن بعده من الأنبياء كلهم مَنْسُوبُون إليه، [ولأنه ذّكر من جملتهم لُوطاً، وهو كان ابن أخي إبراهيم أو أخته، ذكره مَكِّي وغيره، وما كان من ذُرِّيَّتِهِ، بل كان من ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عليه السلام، وكان رسولاً في زمن إبراهيم.
وأيضاً: يونس - عليه الصَّلاة والسَّلام - ما كان من ذُرِّيَّةِ إبراهيم.
وأيضاً قيل: إنَّ ولد الإنسان لا يُقالُ: إنَّهُ ذُرِّيَّةٌ، فعلى هذا إسماعيل - عليه الصلاة والسلام - ما كان من ذُرِّيَّةِ إبراهيم].
الوجه الثاني: أنها تعود على إبراهيم؛ لأنه المحدث عنه والقِصَّةٌ مَسُوقَةٌ إلى ذكره وخبره، وإنما ذكر نوحاً، لأن إبراهيم كونه من أولاده أحد موجبات رَفْعِهِ إبراهيم.
ولكن رُد‍َّ هذا القَوْلُ بما تقدَّم من كون لوط ليس من ذُرِّيَّتِهِ إنما هو ابن أخيه أو أخته ذكر ذلك مكي وغيره.
وقد أجيب عن ذلك, فقال ابن عباس: هؤلاء الأنبياء كلهم مُضَافُونَ إلى ذُرِّيَّةِ إبراهيم، وإن كان فيهم من لم يلحقه بولادةٍ من قبلِ أمٍّ ولا أبٍ؛ لأن لُوطاً ابن أخي إبراهيم، والعربُ تجعلُ العَمَّ أباً، كما أخبر اللَّهُ - تعالى - عن ولدِ "يعقوب" أنهم قالوا:
{ { نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [البقرة:133]
وقال أبو سليمان الدِّمَشْقِيُّ: "ووهَبْنَا لَهُ لُوطاً" في المُعَاضَدَةِ والمُناصَرَةِ، فعلى هذا يكون "لوطاً" منصوباً بـ "وَهْبَنَأ" من غير قَيْدٍ؛ لكونه من ذُرِّيَّتِهِ.
وقوله: "داود" وما عطف عليه مَنْصُوبٌ إما بفعل الهِبَةِ، وإما بفعل الهداية.
و"مِنْ ذُرِّيَّتِهِ" يجوز فيها وجهان:
أحدهما: أنه متعلّق بذلك الفعل المحذوف، وتكون "مِنْ" لابتداء الغاية.
والثاني: أنها حال أي: حال كون هؤلاء الأنبياء مَنْسُوبِينَ إليه.
قوله: "وكذَلِكَ نَجْزِي" الكاف في مَحَلِّ نَصْبٍ نعتاً لمصدر محذوف، أي: نجزيهم جَزَاءً مِثْلَ ذلك الجَزَاء، ويجوز أن يكون في مَحَلِّ رفع، أي الأمر كذلك، وقد تقدَّم ذلك في قوله: "وكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ".
ومعنى "كذلك" أي: كما جزينا إبراهيم على تَوْحِيدِهِ بأن رفعنا درجته، ووهبنا له أولاداً أنبياء أتْقِيَاءَ، كذلك نجزي المحسنين على إحسانهم.
فصل في بيان نسب بعض الأنبياء
"داود" ابن إيشا.
و "سليمان" هو ابنه.
و "أيوب" ابن موص بن رازح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم.
و "يوسف" إبن يَعْقُوبَ بن إسحاق بن إبراهيم.
و "موسى" ابن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب.
و"هارون" أخو موسى أكبر منه بِسَنَةٍ، وليس ذكرهم على ترتيب أزمانهم.
واعلم أنه - تعالى - ذكر أوَّلاً أربعة من الأنبياء، وهم: "نوح" و "إبراهيم" و "إسحاق" و "يعقوب"، ثم ذكر من ذُرِّيَّتِهِمْ أربعة عشر من الأنبياء: "داود" و "سليمان" و "أيُّوب"، و "يوسف"، و "موسى"، و "هارون" و "زكريا"، و "يحيى"، و "عيسى"، و "إلياس"، و "إسماعيل"، و "إليسع"، و "يونس"، و "لوطاً".
فإن قيل: رعاية التَّرْتِيبِ وَاجِبَةٌ، والترتيب إمّا أن يعتبر بحسب الفَضْلِ والدرجة، وإما أن يعتبر بحسبِ الزمان، والترتيب بحسب هذين النوعين غير معتبر هنا فما السَّبَبُ فيه؟
فالجوابُ أن "الواو" لا توجب التَّرْتِيبَ، وهذه الآية أحَدُ الدلائل على صِحَّةِ هذا المطلوب.
قوله: "وزكريا" وهو ابن إدّ وبرخيَّا و "يحيى" هو ابنه و "عيسى" هو ابن مريم ابنة عمران.
واسْتُدِلَّ بهذه الآية على أن الحسنَ والحُسيْنَ من ذُرِّيَّةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن الله - تعالى - جعل عيسى من ذُرِّيَّة إبراهيم، وهو لا ينسب إلى إبراهيم إلاَّ بالأمِّ، فكذلك الحَسَنُ والحُسيْنُ ويقال: إن أبا جعفر البَاقِرَ اسْتَدلَّ بهذه الآية عند الحَجَّاجِ بن يوسف الثقفي.
فصل فيما يستفاد من الآية
قال أبو حنيفة والشافعي: من وقف على ولده وولد ولده دخل فيه أولاد بَنَاتِهِ أيضاً ما تَنَاسَلُوا، وكذلك في الوَصيَّةِ للقَرَاباتِ يدخل فيه ولد البنات، والقرابةُ عند أبي حنيفةَ كلُّ ذي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، ويسقط عنده ابن العَمِّ وابن العمة وابن الخال وابن الخالة؛ لأنهم ليسوا بمِحْرَمِينَ.
وقال الشافعيرحمه الله تعالى: القَرَابَةُ كُلُّ ذي رَحمٍ مَحْرَمٍ وغيره، فلم يسقط عنده ابن العم وقال مالك: لا يدخل في ذلك ولدُ البنات.
وإذا قال: لقرابتي وعقبي فهو كقوله: لولدي وولد ولدي.
قوله: "وإلياس" قال ابن مسعود: هو إدريس وله اسمان مثل "يعقوب" و "إسرائيل"، والصحيح أنه غيره؛ لأن - تعالى - ذكرهُ في ولد نوح، وإدريس جد أبي نوح، وهذا إلياس بن يسي بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران "كُلُّ مِنَ الصَّالحينَ".
وقوله: "وإسماعيل" هو ابن إبراهيم.
و"إليسع" [وهو ابن أخطوب بن العجوز].
قرأ الجمهور "اليَسَعَ" بلام واحدة وفتح الياء بعدها.
وقرأ الأخوان: اللَّيْسَع بلام مشددة وياء ساكنة بعدها، فقراءة الجمهور فيها تأويلان:
أحدهما: أنه منقُولٌ من فعل مضارع، والأصل: "يَوْسَع" كـ "يَوْعِد"، فَوقَعَتِ الواو بين ياء وكسرة تقديرية؛ لأن الفَتْحَةَ جيء بها لأجْلِ حرف الحَلْقِ، فحُذِفَتْ لحذفها في "يضع" و "يدع" و "يهب" وبابه، ثم سمي به مُجَرَّداً عن ضمير، وزيدت فيه الألف واللام على حَدِّ زيادتها في قوله: [الطويل]

2228- رأيْتُ الوَلِيدَ بْنَ اليَزِيدِ مُبَارَكاً شَدِيداً بِأعْبَاءِ الخِلافَةِ كَاهِلُهْ

وكقوله: [الرجز]

2229- بَاعَدَ أمَّ العَمْرِ مِنْ أسِيرِهَا حُرَّاسُ أبْوابٍ عَلَى قُصُورِهَا

وقيل الألف واللام فيه للتعريف كأنّه قدَّر تنكيره.
والثاني: أنه اسم أعْجَمِيٌّ لا اشتقاق له؛ لأن "اليسع" يقال: إنه يوشع بن نون فَتَى موسى، فالألف واللام فيه زائدتان، أو معرفتان كما تقدم.
وهل "أل" لازمة له على تقدير زيادتها؟
فقال الفَارِسيُّ: إنها لازِمَةٌ شُذُوذاً، كلزومها في "الآن".
وقال ابن مالك: "ما قَارَنتِ الأدَاةُ نَقْلَهُ كالنَّضْرِ والنُّعْمَانِ، أو ارتِجَالَهُ كاليسع والسموءل، فإنَّ الأغْلَبَ ثُبُوتُ أل فيه وقد تحذف".
وأما قراءة الأخوين، فأصله لَيْسَع، كـ "ضَيْغَم وصَيْرَف" وهو اسم أعْجَمِيُّ، ودخول الألف واللام فيه على الوَجْهَيْنِ المتقدمين.
واختار أبو عبيدة قراءة التخفيف، فقال: "سمعنا هذا الشيء في جميع الأحاديث: اليسع ولم يُسَمِّهِ أحدٌ منهم اللَّيْسع"، وهذا لا حُجَّةَ فيه؛ لأنه روى اللفظ بأحد لُغَتَيْه، وإنما آثَرَ الرُّواةُ هذه اللفظة لِخِفَّتِهَا لا لعدم صِحَّةِ الأخرى.
وقال الفراء في قراءة التشديد: "هي أشبهُ بأسماء العجمِ".
قوله "يونس": هو يونس بن متى، وقد تقدم أن فيه ثلاث لغات [النساء:163] وكذلك في سين "يُوسف" وقوله: "ولوطاً" وهو لوط بن هارون ابن أخي إبراهيم.
قوله: "وكلاَّ فَضَّلْنَا" كقوله: "كُلاًّ هَدَيْنَا".
قوله: "عَلَى العَالَمِينَ" اسْتَدَلُّوا بهذه الآية على أن الأنبياء أفضل من الملائكة؛ لأن "العالم" اسم لكل موجود سوى الله - تعالى - فيدخل فيه الملائكة. وقال بعضهم: معناه فَضَّلْنَاهُمْ على عالمي زمانهم.
قوله: "ومِنْ آبائِهِمْ"آبائهم": فيه وجهان:
أحدهما: أنه مُتعلِّقٌ بذلك الفعل المقدر، أي: وهدينا من آبائهم، أو فضَّلنا من آبائهم، و"مِنْ" تَبْعِيضيَّةٌ قال ابن عطية: "وهَدَيْنَا مِنْ آبَائِهِمْ وذرِّيَّاتهم وإخوانهم جماعات"، فـ "مِنْ" للتبعيض، والمفعول محذوف.
الثاني: أنه معطوف على "كُلاًّ"، أي: وفضَّلنا بعض آبائهم.
وقدَّر أبو البقاء هذا الوجه بقوله: "وفضلنا كلاًّ من آبائهم، وهدينا كُلاًّ من آبائهم". وإذا كانت للتَّبْعِيضِ دلَّت على أن آباء بعضهم كانوا مشركين.
وقوله: "وذُرِّيَّاتهم"، أي: وذرِّيَّة بعضهم، لأن "عيسى" و "يحيى" لم يكن لهما وَلَدٌ، وكان في ذرية بعضهم من كان كَافِراً.
وقوله: "وإخوانهم"واجْتَبَيْنَاهُمْ" يجوز أن يعطف على "فضَّلنا"، ويجوز أن يكون مُسْتأنفاً وكرر لفظ الهداية توكيداً، ولأن الهِدايةَ أصْلُ كل خير، والمعنى: اصْطَفَيْنَاهُمْ، وأرشدناهم إلى صراط مستقيم.
قوله: { ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ } المشار إليه هو المَصْدَرُ المفهوم من الفعل قبله؛ إما الاجْتِبَاءُ، وإما الهداية؛ أي: ذلك الاجتباء هو هُدَى، أو ذلك الهدى إلى الطريق المستقيم هدى الله، ويجوز أن يكون "هدى الله" خبراً، وأن يكون بدلاً من "ذلك" والخبر "يهدي به"، وعلى الأول يكون "يهدي" حالاً، والعامل فيه اسم الإشارة ويجوز أن يكون خبراً ثانياً، و"مِنْ عِبَادِهِ" تَبْيِينٌ أو حال؛ إما مِنْ "مَنْ" وإما من عَائِدِهِ المحذوف.
فصل في تحرير معنى الهداية
يجوز أن يكون المراد من هذه الهداية معرفة الله - تعالى - وتَنْزِيههُ عن الشرك؛ لقوله تعالى بعده: { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وإذا ثبت ذلك ثَبَتَ أن الإيمان لا يَحْصُلُ إلاَّ بِخَلْقِ الله تعالى.