خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ
٩٤
-الأنعام

اللباب في علوم الكتاب

"فُرَادَى" منصوب على الحال من فاعل "جِئْتُمُونَا"، و "جئتمُونَا" فيه وجهان:
أحدهما: أنه بمعنى المستقبل، أي: تجيئوننا، وإنما أبرزه في صورة الماضي لِتَحَقُّقِهِ كقوله تعالى:
{ { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } [النحل:1] { { وَنَادَىۤ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ } [الأعراف:44].
والثاني: أنه ماضٍ، والمراد به حكاية الحال بين يدي الله - تعالى - يوم يُقال لهم ذلك، فذلك اليوم يكون مجيئهم ماضياً بالنسبة إلى ذلك اليَوْمِ.
واختلفوا في قول هذا القَائِل، فقيل: هو قول الملائكة المُوَكَّلِينَ بعقابهم.
وقيل: هو قول الله تعالى، ومنشأ هذا الخلاف أن الله - تبارك وتعالى - هل يَتَكَلَّمُ مع الكُفَّارِ أم لا؟ فقوله تبارك وتعالى في صفة الكفار: "وَلاَيُكَلِّمُهُم" يوجب ألاَّ يتكلم معهم، فلهذا السبب وقع الاخْتِلافُ، والأول أقوى؛ لأن هذه الآية الكريمة معطوفة على ما قبلها، والعطف يوجب التَّشْرِيكَ.
واختلفوا في "فُرَادَى" هل هو جمع أم لا، والقائلون بأنه جَمْعٌ اختلفوا في مُفْرَدِهِ: فقال الفراء: "فُرَادى" جمع "فَرْد وفَرِيد وفَرَد وفَرْدَان" فجوز أن يكون جَمْعاً لهذه الأشياء.
وقال ابن قُتَيْبَةَ: هو جمع "فَرْدانَ" كسَكْرَانَ وسُكَارَى وعَجْلان وعُجالى.
وقال قوم: هو جمع فَرِيد كَرَدِيف ورُدَافى، وأسِير وأسَارى، قاله الراغب، وقال: هو جمع "فَرَد" بفتح الراء، وقيل بسكونها، وعلى هذا فألفها للتأنيث كألف "سُكَارى" و "أسارى" فيمن لم يتصرف.
وقيل: هو اسم جمع؛ لأن "فرد" لا يجمع على فُرَداى فرد أفراد، فإذا قلت: جاء القوم فُرَادى فمعناه واحداً واحداً.
قال الشاعر: [الطويل]

2239- تَرَى النُّعَراتِ الزُّرْقَ تَحْتَ لِبَانِهِ فُرَادَى وَمَثْنَى أثْقَلَتْهَا صَوَاهِلُهْ

ويقال: فَرِدَ يَفْرُدُ فُرُوداً فهو فَارِدٌ، وأفردته أنا، ورجل أفْرَدُ، وامرأة فَرْدَاءُ كأحمر وحمراء، والجمع على هذا فُرْدٌ كحُمْر، ويقال في فُرَادى: "فَرَاد" على زِنَةِ "فعَال"، فينصرف، وهي لغة "تميم" وبها قرأ عيسى بن عمر، وأبو حيوة: "وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فَرَاداً" وقال أبو البقاء: وقرئ بالشاذ بالتنوين على أنه اسم صحيح، فقال في الرفع فُرَادٌ مثل: "تُؤام ودخال وهو جمع قليل". انتهى.
ويقال أيضاً" جاء القوم فُرَادَ غير منصرف، فهو كَأحاد ورُبَاع في كونه معدولاً صفة، وهو قرءاة شاذّة هنا.
وروى خارجة عن نافع، وأبي عمرو كليهما أنهما قرأ "فُرَادَى" مثل سُكَارَى" اعتباراً بتأنيث الجماعة، كقوله تبارك وتعالى:
{ { وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ } [الحج:2] فهذه أربع قراءات مشهورة، وثلاث في الشواذ فراد الرجال, فراداً كأحاد، فَرْدَى كَسَكْرَى.
قوله: "كَمَا خَلَقْناكُمْ" في هذه أوجه:
أحدها: أنها مَنْصُوبَةُ المحل على الحال من فاعل "جئتمونا" فمن أجاز تَعَدُّدَ الحال أجاز من غير تأويل، ومن منع ذلك جعل "الكاف" بدلاً من "فُرَادَى".
الثاني: أنها في مَحَلِّ نصب نَعْتاً لمصدر محذوف، أي: مجيئاً مثل مجيئكم يوم خلقناكم، وقدره مكي: منفردين انفراداً مثل حالكم أول مرة، والأوّل أحسن؛ لأن دلالة الفعل على المَصْدَرِ أقوى من دلالة الوَصْفِ عليه.
الثالث: أن "الكاف" في مَحَلِّ نصب على الحال من الضمير المُسْتكنِّ في "فُرَادى"، أي: مشبهين ابتداء خلقكم، وكذا قَدَّرهُ أبو البقاء، وفيه نظر؛ لأنهم لم يشبهوا بابتداء خلقهم، وصوابه أن يقدر مُضَافاً أي: مشبهة حالكم حال ابتداء خلقكم.
قوله: "أوَّلَ مَرَّة" مَنْصُوبٌ على ظرف الزمان، والعامل فيه "خلقناكم"، و "مرة" في الأصل مصدر لـ "مَرَّ يَمُرُّ مَرَّةً" ثم اتُّسِعَ فيها، فصارت زماناً.
قال أبو البقاءرحمه الله : "وهذا يَدُلُّ على قوة شبه الزمان بالفعل".
وقال أبو حيان: "وانتصب "أوَّل مرة" على الظرف، أي: أول زمان ولا يتقدَّر أوّل خلق؛ لأن أول خلق يستدعي خَلْقاً ثانياً، إنما ذلك إعادة لا خَلْقٌ".
يعني: أنه لا يجوز أن يكون المرَّة على بابها من المَصْدَريَّةِ، ويقدر أوّل مرة من الخَلْقِ لما ذكر.
قوله: "وتَرَكْتُمْ" فيها وجهان:
أحدهما: إنها في محلِّ نصب على الحال من فاعل "جئتمونا"، و "قد" مضمرة على رأي الكوفيين أي: وقد تركتم.
والثاني: أنها لا مَحَلَّ لها لاستئنافها، و"ما" مفعولة بـ "ترك"، وهي موصولة اسمية، ويضعف جعلها نَكِرَةً موصوفة، والعائد محذوف، أي: ما خَولناكُمُوهُ، و"ترك" متعدية لواحد؛ لأنها بمعنى التخلية ولو ضمنت معنى "صيَّر" تعدَّت لاثنين، و "خوَّل" يتعدَّى لاثنين؛ لأنه بمعنى "أعطى وملك"، والخول ما أعطاه الله من النِّعم.
قال أبو النجم: [الرجز]

2240- كُومِ الذُّرَى مِنْ خَوَلِ المُخَوَّل

فمعنى: خولته كمن أملكته الخول فيه كقولهم: خوَّلته، أي: ملكته المال.
وقال الرَّاغب: التَّخْوِيلُ في الأصل إعطاء الخول.
وقيل: إعطاء ما يصير له خولاً وقيل: إعطاء ما يحتاج أن يتعهَّدَهُ من قولهم: "فلان خال مال وخايل مال أي حسن القيام عليه".
وقوله: "وَراءَ ظُهُورِكُمْ" متعلّق بـ "تركتم" ويجوز أن يضمن "ترك" هنا معنى "صيَّر"، فيتعدى لاثنين: أولهما الموصول، والثاني هذا الظرف متعلّق بمحذوف، أي: وصيّرتم بالتَّرْكِ الذي خَوَّلناكموه كائناً وراء ظهوركم.
قوله تعالى: "وَمَا نَرَى" الظَّاهر أنها المُتعدِّية لواحد، فهي بصرية، فعلى هذا يكون "معكم" متعلّق بـ "نرى"، ويجوز أن يكون بمعنى "علم"، فيتعدى لاثنين، ثانيهما هو الظرف، فيتعلّق بمحذوف، أي: ما نراهم كائنين معكم، أي مصاحبتكم.
إلاَّ ان أبا البقاء اسْتَضْعَفَ هذا الوجه، وهو كما قال؛ إذ يصير المعنى: وما يعلم شُفَعَاءكم معكم، وليس المعنى عليه قطعاً.
وقال أبو البقاء - رحمه لله -: "ولا يجوز أن يكون أي معكم حالاً من "الشفعاء"؛ إذ المعنى يصير أن شفعاءهم معهم ولا تراهم". وفيما قاله نظرٌ لا يخفى، وذلك أن النفي إذا دخل على ذاتٍ بِقَيْدٍ، ففيه وجهان:
أحدهما: نفي تلك الذّات بقيدها.
والثاني: نفي القَيْد فقط دون نَفْي الذَّات.
فإن قلت "ما رأيت زيداً ضاحكاً"، فيجوز أنك لم تَرَ زَيْداً ألبَتَّة، ويجوز أنك رأيته من غير ضِحْكٍ، فكذا هاهنا، إذ التقدير: وما نرى معكم شفعاءكم مصاحبيكم، يجوز أن لم يروا الشفعاء ألْبَتَّة، ويجوز أن يَرَوْهُمْ دون مُصَاحبتهم لهم، فمن أين يلزم انهم يكونون معهم، ولا يرونهم من هذا التركيب، وقد تقدم تَحْقِيقُ هذه القاعدة في أوائل سورة "البقرة" في قوله:
{ { لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً } [البقرة:273].
و"أنهم" سد مَسَدَّ المفعولين لـ "زعم" و "فيكم" متعلق بنفس شركاء، والمعنى: الذين زعمتم أنهم شركاء الله فيكم، أي في عبادتكم، أو في خلقكم، لأنكم أشركتموهم مع الله - تعالى - في عبادتكم وخلقكم.
وقيل "في" بمعنى "عند"، ولا حاجة إليه.
وقيل: المعنى أنهم يتحملون عنكم نَصِيباً من العذاب، أي: شركاء في عذابكم إن كنت تعتقدون فيهم أنكم إذا أصابتكم نَائِيَةٌ شاركوكم فيها.
فصل في معنى الآية
معنى الآية الكريمة: { جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ }: حُفَاةً عُرَاةً، وخلَّفتم ما أعطيناكم من الأموال والأولاد والخَدَم خلف ظهوركم في الدنيا، وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شُرَكَاءُ، وذلك أن المشركين زعموا أنه يعبدون الأصْنَامَ؛ لأنهم شركاء الله, وشفعاؤهم عنده، والمراد من الآية التَّقْريع والتوبيخ، وذلك لأنهم صرفوا جدَّهم وجهدهم إلى تحصيل المال والجاهِ، وعبدوا الأصنام لاعتقادهم أنها شفعاؤهم عند الله تبارك وتعالى، ثم أنهم لما وردوا مَحْفَلَ القيامة لم يَبْقَ لهم من تلك الأموال شيء، ولم يجدوا من تلك الأصنام شَفَاعَةً فبقوا فرادى على كل ما حَصَّلُوهُ في الدنيا، وعَوَّلُوا عليه، بخلاف أهل الإيمان، فإنهم صرفوا هَمَّهُمْ إلى الأعمال الصالحة، فَبَقِيَتْ معهم في قبورهم، وحضرت معهم في مَحْفَل القيامة، فهم في الحقيقة ما حضروا فرادى.
قوله "لقد تقطَّع بَيْنَكُم" قرأ نافع، والكسائي، وعاصم في رواية حفْص عنه "بَيْنَكُمْ" نَصْباً، والباقون "بَيْنُكُمْ" رفعاً.
فأما القراءة الأولى ففيها سبعة أوجه:
أحدها، وهي أحسنها: أن الفاعل مضمر يعود على الاتِّصالِ، والاتصال وإن لم يكن مذكوراً حتى يعود عليه ضمير، لكنه تقدم ما يَدُلُّ عليه، وهو لفظ "شركاء"، فإن الشركة تشعر بالاتِّصَالِ، والمعنى: لقد تقطع بينكم الاتصال على الظرفية.
الثاني: أن الفاعل هو "بينكم"، وإنما بقي على حالِهِ منصوباً حَملاً له على أغلب أحواله، وهو مذهب الأخفش، وجعلوا من ذلك أيضاً قوله:
{ { يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ } [الحج:17] فيمن بناه إلى المفعول، وكذا قوله تعالى: { { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } [الجن:11] [قال الواحدي: كما جرى في كلامهم] منصوباً ظرفاً، تركوه على ما يكون عليه في أكثر الكلام ثم قال في قوله: { { وَمِنَّا دُونَ ذَلِك } [الجن:11] فـ "دُونَ" في موضع رفع عندهم، وإن كان منصوب اللفظ، ألا ترى أنك تقول: منا الصالحون، ومنا الظالمون، إلا أن الناس لما حَكَوْا هذا المَذْهَبَ لم يتعرَّضُوا على هذا الظرف، بل صرحوا بأنه مُعْرَبٌ، وهو مرفوع المحل قالوا: أو إنما بقي على انْتِصَابِه اعتباراً بأغلب أحواله في كلام أبي حيان، لما حكى مذهب الأخفش ما يصرح بأنه مَبْنِيٌّ، فإنه قال: وخرجه الأخفشُ على أنه فاعل، ولكنه مبني حَمْلاً على أكثر أحوال هذا الظَّرْفِ، وفيه نظر؛ لأن الذي لا يَصْلُحُ أن يكون عِلَّة البناء، وعِلَل البناء مَحْصُورةٌ ليس هذا منها.
ثم قال أبو حيان: "وقد يُقَالُ لاضافته إلى مبني كقوله
{ { وَمِنَّا دُونَ ذَلِك } [الجن: 11] وهذا ظاهرٌ في أنه جعل حَمْلهُ على أكثر أحواله عِلَّةً لبنائه كما تقدم".
الثالث: أن الفاعلَ محذوفٌ و "بينكم" صِفَةٌ له قامت مُقامَهُ، تقديره: لقد تقطع وصْلُ بينكم، قاله أبو البقاء، وردَّه أبو حيان بأن الفاعل لا يُحْذَفُ، وهذا غير ردِّ عليه، فإنه يعني بالحذف عدمَ ذكره لفظاً وأن شيئاً قام مقامه، فكأنه لم يحذف.
وقال ابن عطيَّة: "ويكون الفعل مُسْنداً إلى شيء محذوف، أي: لقد تقطَّع الاتِّصالُ بينكم والارتباط ونحو هذا".
وهذا وجه وَاضِحٌ، وعليه فَسَّر الناس، وردَّه أبو حيان لما تقدم، ويجاب عنه بأنه عبر بالحذف عن الإضمارِ، لأن كلاً منهما غير مَوْجُودٍ لفظاً.
الرابع: أن "بينكم" هو الفاعل، وإنما بني لإضافته إلى غير مُتَمكنٍ، كقوله تعالى:
{ { إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُون } [الذاريات:23] بفتح "مِثْلَ"، وهو تابع لـ "حق" المرفوع، ولكنه بني لإضافته إلى غير متمكِّن، وسيأتي في مكانه، ومثله قول الآخر في ذلك: [الرمل]

2241- تَتدَاعَى مَنْخِرَاهُ بِدَمٍ مِثْلَ مَا أثْمَرَ حُمَّاضُ الجَبَلْ

بفتح "مثل" مع أنها تَابِعَةٌ لـ "دم"، ومثله قول الآخر: [البسيط]

2242- لَمْ يَمْذَعِ الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أنْ نَطَقَتْ حَمَامَةٌ فِي غُصُونٍ ذاتِ أوْقَالِ

بفتح "غير"، وهي فاعل "يمنع"، ومثله قول النابغة: [الطويل]

2243- أتَانِي أبَيْتَ اللَّعْنَ أنَّكَ لُمْتَنِي وتِلْكَ الَّتِي تَسْتَكُّ مِنْهَا المَسَامِعُ
مَقَالَةَ أَنْ قَدْ قُلْتَ: سَوْفَ أَنَالُهُ وَذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ مِثْلِكَ رَائِعُ

فـ "مقالة" بدل من "أنَّك لُمْتَنِي"، وهو فاعل، والرواية بفتح تاء "مَقَالة" لإضافتها إلى "أن" وما في حيِّزهَا.
الخامس: أن المَسْألةَ من باب الإعْمَالِ، وذلك أن "تَقَطَّع" و "ضَلَّ" كلاهما يَتَوجَّهان على { مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } كل منهما يطلبه فاعلاً، فيجوز أن تكون المَسْألَةُ من باب إعمال الثاني، وأن تكون من إعمال الأوَّل، لأنه ليس هنا قرينة تُعَيِّنُ ذلك، إلا أنه تقدم في "البقرة" أن مذهب البصريين اخْتِيَارُ إعمال الثاني، ومذهب الكوفيين بالعكس، فعلى اختيار البصريين يكون "ضَلَّ" هو الرافع لـ { ما كُنْتُمْ تَزْعُمُون } واحتاج الأول لفاعل فأعطيناه ضميره فاسْتَتَر فيه، وعلى اختيار الكوفيين يكون "تقطَّع" هو الرافع لـ { مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ }، وفي "ضلَّ" ضمير فاعل به، وعلى كلا القولين فـ "بينكم" منصوب على الظَّرْف، وناصبه "تَقطَّع" هو الرافع. السادس: أن الظرف صِلَةٌ لموصول محذوف تقديره: تقطَّع ما بينكم، فحذف الموصول وهو "ما" وقد تقدَّم أن ذلك رأى الكوفيين، وتقدم ما استشهدوا به عليه من القرآن، وأبيات العرب، واستتدلَّ القائل بذلك بقول الشاعر حيث قال في ذلك: [الطويل]

2244- يُدِيرُونَنِي عَنْ سَالِمٍ وأديرُهُمْ وجِلْدَةُ بَيْنَ الأنْفِ والعَيْنِ سَالِمُ

وقول الآخر في ذلك: [البسيط]

2245- مَا بَيْنَ عَوْفٍ وإبْرَاهِيمَ مِنْ نَسَبٍ إلاَّ قَرَابَةُ بَيْنَ الزَّنْجِ والرُّومِ

تقديره: وَجِلْدةُ ما بين، وإلاَّ قرابة ما بَيْن، ويدل على ذلك قراءة عبد الله، ومجاهد، والأعمش: "لقد تَقطَّع ما بينكم".
السابع: قال الزمخشري: "لَقَدْ تقطَّعَ بينكم": لقد وقع التَّقَطُّع بينكم، كما تقول: جمع بين الشَّيْئْينِ، تريد أوقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل قول حَسَنٌ، وذلك لأن لو أضمر في "تقطَّع" ضمير المصدر المفهوم منه لصار التقدير: تقطع التَّقطُّع بينكم، وإذا تقطَّع التقطع بينهم حصل الوَصْلُ، وهذا ضدُّ المقصود، فاحتاج أن قال: إن الفعل أسند إلى مصدره بالتأويل المذكور، إلا أن أبا حيَّان اعترضه، فقال: "فظاهره أنه ليس بِجيِّدٍ، وتحريره أنه أسند الفِعْلَ إلى ضمير مصدره فأضمره فيه؛ لأنه إن أسْنَدَهُ إلى صريح المصدر، فهو محذوف، ولا يجوز حذف الفاعل، ومع هذا التقدير فليس بِصَحيح؛ لأن شَرْطَ الإسناد مفقود فيه، وهو تغاير الحكم والمحكوم عليه؛ يعني: أنه لا يجوز أن يتَّحدَ الفعل والفاعل في لَفْظٍ واحد من غير فائدة، لا تقول: قام القائم، ولا قعد القاعد, فتقول: إذا أسند الفعل إلى مَصْدَرِهِ, فإما إلى مَصْدَرِهِ الصريح من غير إضمار, فيلزم حذف الفاعل, وإما على ضميره, فيبقى تقطَّع التَّقطُّع, وهو مثل قام القائم, وذلك لا يجوز، مع أنه يلزم عليه أيضاً فَسَادُ المعنى كما تقدم منه أنه يَلْزَمُ أن يحصل لهم الوَصْلُ".
قال شهاب الدِّين: وهذا الذي أورده الشَّيْخُ لا يرد لما تقدَّم من قوله الزمخشري على إسناد الفعل إلى مصدرِهِ بهذا التأويل، وقد تقدَّم ذلك التأويل.
وأما القراءة الثانية ففيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه اتُّسِعَ في هذا الظرف، فأسْنِدَ الفعل إليه، فصار اسماً كسائر الأسماء المتصرف فيها، ويدُلُّ على ذلك قوله تعالى:
{ { وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [فصلت:5] فاسْتعمَلَهُ مجرواً بـ "مِنْ" وقوله تعالى: { { فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } [الكهف:78] { { مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } [الكهف:61] { { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } [المائدة:106] وحكى سيبويه: "هُوَ أحْمَرُ بَيْنِ العَيْنينِ" وقال عنترة: [الكامل]

2246- وَكَأنَّمَا أقِصُ الإكَامَ عَشِيَّةً بِقَريبِ بَيْنِ المَنْسِمَيْنِ مُصَلَّمِ

وقال مهلهل: [الوافر]

2247- كَأنَّ رَِمَاحَنَا أشْطَانُ بِئْرٍ بَعِيدَةِ بَيْنِ جَالَيْهَا جَرُورِ

فقد استعمل في هذه المواضع كلها مُضَافاً إليه متصرّفاً فيه، فكذا هنا، ومثله قوله:
[الطويل]

2248- ..................... وَجِلْدَةُ بَيْنِ الأنْفِ والعَيْنِ سَالِمُ

وقوله في ذلك: [البسيط]

2249- ....................... إلاَّ قَرَابَةُ بَيْنِ الزَّنْجِ والرُّومِ

وقول القائل في ذلك: [الطويل]

2250- وَلَمْ يَتْرُكِ النَّبْلُ المُخَالِفُ بَيْنُهَا أخاً لاَحَ [قَدْ] يُرْجَى وَمَا ثَوْرَةُ الهِنْدِ

يروى برفع "بينها" وفتحه على أنها فعل لـ "مُخَالف"، وإنما بُنِيَ لإضافتِهِ إلى ذلك ومثله في ذلك: "أمام" و "دون"، كقوله: [الكامل]

2251- فَغَدَتْ كِلاَ الفَرْجَيْنِ تَحْسِبُ أنَّهُ مَوْلَى المخَافَةِ خَلْفُهَا وأمَامُهَا

برفع "أمام"، كقول القائل في ذلك: [الطويل]

2252- ألَمْ تَرَ أنِّي قَدْ حَمَيْتُ حَقِيقَتِي وبَاشَرْتُ حَدَّ المَوْتِ والمَوْتُ دُونُهَا

برفع "دون".
الثاني: أن "بين" اسم غير ظَرْفٍ، وإنم منعناها الوَصْل، أي: لقد تقطَّع وصلكم.
ثم للناس بعد ذلك عبارتان تؤذن بأن "بَيْنَ" مصدر "بان يبينُ بَيْنَاً" بمعنى "بَعُدَ"، فيكون من الأضْدَاد، أي: إنه مشترك اشتراكاً لفظياً يستعمل للوصل والفراق كـ "الجون" للأسود، والأبيض، ويعزى هذا لأبي عمرو، وابن جني، والمهدوي، والزهري، وقال أبو عبيد: وكان أبو عمرو يقول: معنى "تقطع بينكم" تقطع فصارت هنا اسماً بغير أن يكون معها "ما".
وقال الزجاج: والرفع أجود، ومعناه: لقد تقطع وصلكم، فقد أطلق هؤلاء أن "بين" بمعنى الوصل، والأصل في الإطلاق الحقيقة، إلا أن ابن عطية طعن فيه، وزعم أنه لم يسمع من العرب البَيْن بمعنى الوَصْل، وإنما انتزع ذلك من هذه الآية الكريمة، لو أنه أريد بالبين الافْتِرَاقُ، وذلك عن الأمر البعيد، والمعنى: لقد تقطعت المسافةُ بينكم لطولها، فعبر عن ذلك بالبين.
قال شهاب الدين: فظاهر كلام ابن عطية يُؤذِنُ بأنه فهم أنها بمعنى الوَصْل حقيقة، ثم ردَّهُ بكونه لم يسمع من العرب، وهذا منه غير مرضٍ، لأن أبا عمرو وأبا عبيد وابن جني، والزهراوي، والمهدوي، والزجاج أثمة يقبل قولهم.
وقوله: "وإنما انتزع من هذه الآية" ممنوع، بل ذلك مفهوم من لُغَةِ العرب، ولم لم يكن مَنْ نقلها إلا أبو عمرو لكفى به، وعبارته تُؤذِنُ بأنه مجازٌ، ووجه المجاز كما قال الفارسي أنه لما استعمل "بين" مع الشيئين المُتلابسين في نحو: "بيني وبينك رَحِمٌ وصداقَةٌ" صارت لاستعمالها في هذه المواضع بمعنى الوَصْلةِ، وعلى خلاف الفُرْقَةِ، فلهذا جاء: "لَقَدْ تَقَطَّع وَصْلكُم" وإذا تَقدَّرَ هذا، فالقول بكونه مجازاً أولى من القول بكونه مشتركاً؛ لأنه متى تعارضَ الاشتراك والمجاز، فالمجاز خير منه عند الجمهور.
وقال أبو علي أيضاً: وَيُدلُّ على أن هذا المرفوع هو الذي استعمل ظرفاً أنه لا يخلو من أن يكون الذي هو مَصْدَرٌ، فلا يجوز أن يكون هذا القِسْم؛ لأن التَّقدير يصير: لقد تقطَّع اقْتِرَاقكم، وهذا خلاف المقصد، والمعنى أي: ألا ترى أن المراد وَصْلُكُمْ، وما كُنْتُم تتآلَفُون عليه.
فإن قلت: كيف جَازَ أن يكون بِمَعْنى: الوَصْلِ، وأصله: الافْتِرَاقُ، والتَّبَايُنُ.
قيل: إنه لما استُعمل مع الشَّيْئَيْنِ المُتلابسيْنِ في نحو: "بيْنِي وبيْنَك شَرِكَة" فذكر ما تقدَّم عنه من وَجْهِ المجازِ.
وأجاز أبو عُبَيْدَة، والزَّجَّاج، وجماعة: قراءة الرفع، قال أبو عبيدة: وكذلك يَقْرؤُها بالرفع؛ لأنَّا قد وَجدنا العرب تجعل "بَيْن" اسماً من غَيْر "مَا"، ويُصدِّقُ ذلك قوله تعالى:
{ { بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } [الكهف:61] فجعل "بَيْنَ" اسماً من غير "ما"، وكذلك قوله - تبارك وتعالى -: { { هَـٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } [الكهف:78] قال: "وقد سَمِعْنَاهُ في غير موضع من أشْعارِهَا" ثمَّ ذكر ما ذكرته عن أبي عمرو بن العلاء، ثمَّ قال: "وقرأها الكسَائيُّ نصباً" وكان يعتبرها بحرف عبد الله: "لقد تقطَّع ما بينكم".
وقال الزَّجَّاج: والرَّفْع أجود, والنَّصْب جَائِز، والمعنى: "لقد تقطَّع ما كان من الشَّركة بَيْنكم".
الثالث: أن هذا الكلام مَحْمُولٌ على مَعْنَاه؛ إذ المعنى: لقد تَفَرَّقَ جَمْعُكُم وتشتت، وهذا لا يَصْلُح أن يكون تفسير إعرابٍ.
قوله: "مَا كُنتُمْ"ما" يجوز أن تكون مَوْصولةً اسميَّةً، أو نكرة موصوفة، أو مصدريَّة، والعائد على الوجْهَيْن الأوَّلَيْن محذوفٌ، بخلاف الثُّالِث فالتَّقْدِير: تزعمونَهُم شُرَكَاءَ أو شُفَعَاء؛ فالعَائِد هو المفعُول الأوّل، وشركاء هو الثَّاني؛ فالمَفْعُولانِ مَحْذُوفانِ اختصاراً؛ للدلالةِ عليهما إن قُلْنَا: إنَّ "ما" موصولة اسميَّة، أو نكرة موصُوفَةً، ويجُوز أن يكون الحَذْفُ اختصاراً؛ إن قلنا: إنَّها مصدريَّة؛ لأن المصدريَّة لا تحتاج إلى عائدٍ، بخلاف غيرها، فإنَّها تَفْتَقِرُ إلى عائدٍ، فلا بد من الالتِفَاتِ إلَيْه، وحينئذ يَلْزَمُ تَقْديرُ المفعُول الثَّاني، ومن الحذف اختصاراً: [الطويل]

2253- بأيِّ كِتَابٍ أمْ بأيَّةِ سُنَّةٍ تَرَى حُبَّهُمْ عَاراً عليَّ وتَحْسِبُ؟

أي: تحسب حُبَّهُم عاراً عليَّ.