خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ
١٢
-الأعراف

اللباب في علوم الكتاب

في "لا" هذه وجهان:
أظهرهما: أنها زائدة للتوكيد.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: "لا" في "ألاَّ تسجد" صلة بدليل قوله تعالى:
{ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [سورة ص: 75] ومثلها { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ } [الحديد: 29] بمعنى ليعلم، ثم قال: فإن قلت ما فائدةُ زيادتها؟
قلت: توكيد بمعنى الفعل الذي يدخلُ عليه، وتحقيقه كأنه قيل: يستحق علم أهل الكتاب، وما منعك أن تحقق السُّجُود، وتُلزمه نفسك إذا أمرتك؟. وأنْشَدُوا على زيادة "لا" قول الشَّاعر: [الطويل]

2410 - أبَى جُودُهُ لا البُخْلَِ واسْتَعْجَلتْ نَعَمْ بِهِ مِنْ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُودَ نَائِلُهْ

يروى "البُخْل" بالنصب والجر، والنصبُ ظاهرُ الدلالة في زيادتها، تقديره: أبى جُودهُ البخل. وأمَّا رواية الجر فالظَّاهرُ منها عدم الدلالة على زيادتها، ولا حجَّة في هذا البيت على زيادة "لا" في رواية النَّصْبِ، ويتخرَّجُ على وجهين:
أحدهما: أن تكون "لا" مفعولاً بها، و "البخل" بدلٌ منها؛ لأن "لا" تقالُ في المنع فهي مؤدِّية للبُخْلِ.
والثاني: أنَّها مفعول بها أيضاً، و "البُخْل" مفعول من أجْلِهِ، والمعنى: أبي جُودُه لفظ "لا" لأجل البُخْلِ أي: كَرَاهَة البُخْلِ، ويؤيِّدُ عدَمَ الزِّيادةِ روايةُ الجَرِّ.
قال أبُو عمرو بْنُ العلاءِ: "الرِّوايةُ فيه بخفض "البُخْلِ"؛ لأن "لا" تستعمل في البُخْلِ"، وأنشدُوا أيضاً على زيادتها قول الآخر: [الكامل]

2411 - أفَعَنْكِ لا بَرْقٌ كأنَّ وَميضَهُ
غَابٌ تَسَنَّمَهُ ضِرَامٌ مُثْقَبُ

يريد أفعنك بَرْقٌ، وقد خرَّجه أبُو حيَّان على احتمال كَوْنِهَا عاطفة، وحذف المعطوف، والتقديرُ: أفعنك لا عن غَيْرِك.
وكون "لا" فى الآية زَائِدَة هو مَذْهَبُ الكسائي، والفرَّاءِ والزَّجَّاج، وما ذكرناه من كون البُخْلِ بدلاً من "لا"، و "لا" مفعول بها هو مذهب الزَّجَّاج.
وحكى بعضهم عن يُونُسَ قال: كان أبُو عَمْرو بْنُ العلاء يجرُّ "البخل" ويجعل "لا" مضافة إليه، أراد أبَى جُودُهُ لا التي هي لِلْبُخْل؛ لأنَّ "لا" قد تكُون للبُخْلِ ولِلْجُودِ، فالتي لِلْبُخْلِ معروفَةٌ، والَّتِى للجُودِ أنَّهُ لو قال له: "امْنَعِ الحَقّ" أو "لا تُعْطِ المَسَاكِينَ" فقال: "لا" كان جوداً.
قال شهابُ الدِّين: يعنى فتكون الإضَافَةُ للتَّبْيين، لأن "لا" صارت مشتركة فميَّزَهَا بالإضافةِ، وخصَّصها به، وقد تقدَّمَ طرف جيد من زيادة "لا" في أواخر الفَاتِحَةِ.
وزعم جماعة أن "لا" فى هذه الآية الكريمة غير زائدة لكن اختلفت عبارتهم فى تصحيح معنى ذلك.
فقال بَعضُهم: فى الكلام حَذْف يصحُّ به النَّفْيُ والتقديرُ: ما منعك فأحوجك ألاَّ تسجد؟
وقال بعضهم: المعنى ما ألجأك ألاَّ تسجد.
وقال بعضهم: من أمرك ألاَّ تَسْجُدَ؟ أو من قال لكَ ألا تَسْجُدَ، أو ما دَعَاكَ ألاَّ تَسْجُدَ.
قالوا: ويكونُ هذا استفهاماً على سبيل الإنكار، ومعناه أنَّهُ ما منعك عن تَرْكِ السُّجُودِ شيء، كقول القائل لمن ضربه ظلماً: ما الذي منعك من ضَرْبِي، أدينُكَ أم عَقْلُكَ أم جَارُكَ.
والمعنى أنَّهُ لم يوجد أحد هذه الأمور، وما امتنعت من ضربي.
وقال القاضي: ذَكَرَ اللهُ المَنْعَ وأرادَ الدَّاعِي فكأنه قال: ما دعاك إلى ألاَّ تَسْجُدَ؛ لأن مخالفة أمر الله تعالى حالة عظيمة يتعجب منها ويسأل عن الدَّاعي إليها.
وهذا قولُ من يتحرج من نِسْبَةِ الزِّيادةِ إلى القرآن، وقد تقدَّم تحقيقه، وأنَّ معنى الزِّيادة على معنى يفهمه أهلُ العلم، وإلاَّ فكيفَ يدَّعِي زيادة في القرآن بالعُرْف العام؟ هذا ما لا يَقُولُه أحَدُّ من المُسْلِمِينَ.
و "مَا" استفهامية في محل رفع بالابتداء، والخَبَرُ الجملة بعدها أي: أي شيء مَنَعَكَ؟. و "أنْ" في محلِّ نَصْبٍ، أو جرٍّ؛ لأنها على حذف حرف الجَرِّ إذ التَّقديرُ: ما منعك من السُّجُودِ؟ و "إذْ" منصوب بـ "تسجد" أي: ما منعك من السُّجُودِ في وقت أمري إيَّاكَ به.
فصل في دلالة الأمر
احتجوا بهذه الآية على أنَّ الأمْرَ يفيدُ الوُجُوبَ؛ لأنه تعالى ذَمّ إبليس على تَرْكِ ما أمر به، ولو لم يَفِدِ الأمر الوُجُوبَ لما كان مجرد تَرْكِ المأمُورِ به يوجبُ الذَّمَّ.
فإن قالوا: هَبْ أنَّ هذه الآية تَدُلُّ على أنَّ ذلك الأمْرَ كان يفيدُ الوجُوب فلعل تلك الصِّيغة في ذلك الأمْرِ كانت تفيد الوجوب، فلم قلتم: إن جميع الصيغ يجب أن تكون كذلك؟
والجوابُ: أنَّ قوله تعالى { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } يفيدُ تعليل ذلك الذَّم بمجرد ترك الأمر، لأن قوله: "إذْ أمرتك" مذكور في معرض التعليل، والمذكور في قوله: "إذ أمرتك" هو الأمر من حيث إنه أمر لا كونه أمراً مخصوصاً في صورة مخصوصة فوجب أن يكون ترك الأمر من حيث إنه أمر موجباً للذم.
فصل في دلالة الأمر على الفور أم التراخي
واحتجُّوا أيضاً بهذه الآية على أنَّ الأمر يَقْتَضِي الفَوْرَ، قالوا: لأنَّهُ تعالى ذَمَّ إبْليسَ على تَرْكِ السُّجُودِ في الحَالِ، ولو كان الأمْرُ لا يُفِيدُ الفَوْرَ لما استوجب الذَّمَّ بترك السُّجُودِ في الحال.
قوله: { أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ } اعلم أنَّ قوله تعالى: { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } طلب للدَّاعي الذي دَعَاهُ إلى ترك السُّجُودِ، فَحَكَى تعالى عن إبليس ذكر ذلك الدَّاعي، وهو أنَّهُ قال: { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ }.
قوله: { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ } لا محلَّ لهذه الجُمْلَةِ؛ لأنها كالتَّفسير والبيان لِلْخَيْرِيَّة ومعناه: أنا لم أسجد لآدم؛ لأنِّي خَيْرٌ منه وَمَنْ كان خَيْراً من غيره فإنَّهُ لا يَجُوزُ أمر ذلك الأكْمَل بالسُّجُودِ لذلك الأدْوَنِ، ثم بيَّن المقدِّمَة الأولى، وهو قوله { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ } بأن قال خلقتني من نَارٍ، وخلقته من طين، والنَّارُ أفْضَلُ من الطِّينِ والمخلوقُ من الأفْضَلِ أفْضَلُ.
أمَّا بيان أنَّ النَّارَ أفْضَلُ من الطِّينِ فلأنَّ النَّار مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السَّمواتِ، قوية التَّأثير والفِعْلِ، والأرْضُ ليس لها إلاَّ القَبُولُ والانْفِعَالُ، والفعل أشْرَفُ من الانفعَالِ، وأيضاً فالنَّارُ مناسبة للحرارةِ الغريزيَّةِ وهى مَادَّةُ الحياةِ. وأمَّا الأرضيَّةُ والبرد واليبس، فهما يناسِبَانِ المَوْتَ والحياةُ أشْرَفُ من الموت، وأيضاً فالنضج متعلق بالحرارة، وأيضاً فسن النُّموِّ من النَّباتِ لما كان وقت كمال الحرارة كان غاية كمال الحيوان حاصلاً في هذين الوَقْتَيْنِ، وأمَّا وقت الشَّيْخُوخَةِ فهو وقت البَرْدِ واليبس المناسب للأرضية، لا جَرَمَ كان هذا الوَقْتُ أرْدَى أوقات عُمْر الإنْسَانِ.
وأمَّا بيان أنّ المخلوق من الأفْضَلِ أفضل فظاهر؛ لأن شَرَفَ الأصول يوجب شرف الفروع.
وأمَّا بيان أنَّ الأشرف لا يجوزُ أن يؤمر بخدمة الأدون، فإنَّه قد تقرَّرَ في العُقُولِ أنَّ من أمَرَ أبا حنيفة والشافعي رضي الله عنهما وسائر أكَابِرِ الفُقَهَاءِ بخِدمَةِ فقيه نازل الدرجة كان ذلك قبيحاً في العقول، فهذا هو تقرير لشبهة إبليس.
والجواب عنها أن نقول: هذه الشُّبْهَةُ مُرَكَّبَةٌ من مقدِّمات ثلاث: أوَّلها أنَّ النَّار أفضل من التُّرابِ، وهذا قد تقدَّم الكلامُ فيه.
قال مُحَمَّدُ بْنُ جَريرٍ: ظنَّ الخَبِيثُ أنَّ النَّار خيرٌ من الطِّين ولم يعلم أنَّ الفضل ما جعل الله له الفضل، وقد فضَّل الطِّينَ على النَّارِ.
وقالت الحكماء: للطِّينِ فضلٌ على النَّارِ من وجوه:
منها: أن من جوهر الطِّينِ الرَّزّانَةَ والوقَارَ والحِلْمَ والصَّبْرَ وهُوَ الدَّاعِي لآدم عليه السلام بعد السَّعادةِ الَّتي سبقت له إلى التَّوْبَةِ والتَّواضع والتَّضَرُّع، فأورثه المغفرة والاجتباء والتَّوْبَة والهِداية. ومن جَوْهَرِ النَّارِ الخفَّةُ، والطَّيْشُ، والحِدَّةُ والارتفاعُ والاضطرَابُ وهو الدَّاعي لإبْليسَ بعد الشَّقَاوَةِ التي سبقت له إلى الاستكبار والإصْرَارِ فأوْرَثَهُ اللَّعْنَةَ والشَّقَاوَةَ؛ ولأن الطِّين سببُ جمعِ الأشْيَاءِ والنَّارَ سببُ تفرُّقِهَا، [و] لأن التُّرابَ سبب الحياة؛ لأنَّ حياة الأشجار، والنَّبَات به، والنَّار سببُ الهلاكِ، ولأنَّ التراب يكون منه وفيه أرْزَاقُ الحيوان، وأقواتهم ولباس العِبَادِ وزينتهم وآلات معايشهم ومساكنهم والنَّارُ لا يَكُونُ فيها شيء من ذَلِكَ، وأيضاً النَّارُ مُفْتَقِرَةٌ إلى التُّرابِ، وليس التُّرَابُ مفتقرٌ إليه، فإنَّ المحلَّ الذي يكون مكوناً من التُّرابِ أو فيه فهي الفَقِيرةُ إلى التُّرابِ، وهو غَنِيٌّ عَنْهَا.
وأيضاً إنَّ النَّارَ وإن حصل بها بعض المَنفَعَةِ فالشَّرُّ كَامِنٌ فيها، لا يَصُدُّهَا عنه إلا حَبْسُها، ولولا الحَابِسُ لها لأفسدت الحَرْثَ والنَّسْلَ وأمّا التُّرَابُ فالخَيْرُ والبرَكَةُ [فيه]، كلما قُلِّبَ ظهرت بركته وخيره. فأين أحَدُهُمَا من الآخَرِ؟
وأيضاً فإنّ الله تعالى أكثر ذكر الأرض في كتابه، وذكر منافعها وخلقها، وأنَّهُ جعلها:
{ { مِهَاداً } [النبأ:6] و { { فِرَاشاً } [البقرة:22] و { { بِسَاطاً } [نوح:19]، و { { قَرَاراً } [النمل:61] و { كِفَاتاً } [المرسلات:25] للاحياء والأمْوَاتِ ودعا عباده إلى التَّفَكُّرِ فيها، والنَّظَرِ في آياتها وعَجَائِبِ ما أودِعَ فيها، ولم يَذْكُر النَّارَ إلا في مَعْرضِ العُقُوبةِ والتَّخْويفِ والعذاب إلا موضعاً أو موضعين ذكرها بأنها { { تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ } [الواقعة:73] بذكره لنار الآخرةِ، ومتاعاً لبعض أفراد النَّاسِ وهم المقوون النَّازِلُون بالمَفَازَةِ، وهي الأرْضُ الخَاليةُ إذا نزلها المسافِرُ تمتَّع بالنَّارِ في منزله. فأيْنَ هذا من أوصاف الأرض؟
وأيضاً فإنَّ الله تعالى وصف الأرض بالبركة في مواضع من كتابه، وأخبر أنَّهُ بارك فيها، وقدَّر فيها أقْوَاتها، وقال:
{ { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } [الأنبياء: 71]، { { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } [سبأ:18]، { { وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } [الأنبياء:81] وأمَّا النَّارُ فلم يخبر بأنَّهُ جعل فيها بَرَكَة أصْلاً بل المَشْهُورُ أنَّها مذهبة لِلبرَكَاتِ مبيدة لها. فأين المبارك في نفسه من المزيل للبركة؟ وما حَقُّهَا؟
وأيضاً فإنَّ الله - تبارك وتعالى - جعل الأرْضَ محل بيوته التي يُذكر فيها اسمه، ويُسَبَّحُ له بالغدوِّ، والآصالِ، وبيته الحَرَام الذي جعله قياماً للنَّاسِ مُبَارَكاً، وهدًى للعَالمينَ.
وأيضاً فإنَّ الله أوْدَعَ في الأرض من المَنَافِعِ، والمعادن، والأنْهَارِ والثَّمراتِ والحبوب، وأصْنَافِ الحيوان ما لم يرِدْ في النَّارِ شيء منه إلى غير ذلك.
وأمَّا المُقدِّمَةُ الثَّانِيَةُ، وهي من كانت مادته أفضل فهو أفْضَلُ، فهذا محلُّ النِّزَاعِ، والبَحْثِ؛ لأنه لما كانت الفَضِيلَةُ عطيَّة من الله - تبارك وتعالى - ابتداء لم يلزم من فضيلة المادَّةِ فضيلة الصُّورةِ، ألا تَرَى أنَّهُ يخرج الكافر من المؤمن، والمؤمن من الكَافِرِ، والنُّور من الظُّلْمَةِ والظُّلْمَةُ من النُّورِ، وذلك يَدُلُّ على أنَّ الفضيلة لا تحصل إلاّ بفضل اللهِ، لا بسبب فضيلة الأصل والجَوْهَرِ.
وأيضاً، فالتَّكْليف إنَّما يتناول الحي بعد انتهائه إلى حدِّ كمال العَقْلِ فالمعتبر بما انتهى إليه لا بما خلق منه.
وأيضاً فالمفضل إنَّمَا يكون بالأعمال، وما يتَّصِلُ بها، لا بِسبَبِ المادَّةِ؛ ألا ترى أنَّ الحَبَشِيَّ المؤمن مفضل على القُرشيِّ الكَافِرِ.
فصل في تخصيص العموم بالقياس
احتجَّ من قال "إنَّهُ لا يجُوزُ تخصيصُ عموم بالقياسِ" بهذه الآية؛ فإنَّهُ لو كَانَ تخصيص النَّصِّ بالقياس جَائِزاً لما استوجب إبليس هذا التَّعنِيفَ الشَّديدَ، والتوبيخ العظيم، ولمَّا حصل ذلك دلَّ على أن تَخْصِيصَ عموم النَّصِّ بالقياس لا يجُوزُ.
وبيانه أنَّ قوله تعالى للملائكة: "اسْجُدُوا لآدَمَ" خطابٌ عامٌّ يتناول جميع الملائكةِ، ثم إنَّ إبليس أخرَجَ نفسه من هذا العموم بالقياسِ، وهو أنَّهُ مخلوق من النَّارِ، والنَّارُ أشرف من الطِّين، ومن كان أصله أشْرَفُ فهو أشرف فيلزم كون إبليس أشْرَف من آدمَ، ومن كان أشْرَفَ من غيره فإنَّهُ لا يؤمر بخِدمتِهِ لأن هذا الحكم ثابتٌ في جميع النَّظائر، ولا معنى للقياس إلاَّ ذلك فثبت أنَّ إبليس ما عمل في هذه الواقعة شيئاً إلاَّ أنه خصص العموم بالقياسِ، فاسْتَوْجَبَ بذلك الذَّمَّ الشَّديدَ، فدلَّ ذلك على أنَّ تَخْصِيصَ النَّصِّ بالقياسِ لا يجوز.
وأيضاً فالآيَةُ تَدُلُّ على صِحَّةِ هذه المسألة من وجه آخر، وهو أن إبليس لمَّا ذكر هذا القياس قال تعالى:
{ فَٱهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا } [الأعراف:13] ووصف إبليس بكونه "متَكَبِّراً" بعد أن حكى عنه القياس [الذي يوجب تخصيص النص، وهذا يَقْتَضِي أنَّهُ من حاول تخصيص النَّصِّ بالقياس] تَكَبَّرَ على الله، ودَلَّتْ هذه الآيَةُ على أن التَّكَبُّرَ على اللهِ يوجب العقابَ الشَّديدَ، والإخراجَ من زُمْرَةِ الأوْلِيَاء والإدْخَالَ في زمرة الملعونين، فَدَلَّ ذلك على أنَّ تَخْصيصَ النَّصِّ بالقياس لا يجوز، وهذا هو المُرَادُ بما نَقَلَهُ الواحِدِيُّ في "البسيطِ" عن ابن عباس أنَّهُ قال: "كانت الطَّاعَةُ أولى بإبليس من القياسِ فعصى رَبَّهُ، وقاسَ".
وأوَّلُ من قَاسَ إبليسُ، وكفر بِقياسِهِ، فمن قاس الدِّينَ بشيء من رأيه قرنه اللهُ مع إبليس.
والجَوابُ أنَّ القياس الذي يبطل النَّصَّ بالكليَّة باطل، أمَّا القياسُ الذي يخصِّصُ [النَّص] في بعض الصُّوَرِ لم قلتم: إنه باطلٌ؟
وتقريره: أنه لو قبح أمر من كان مخلوقاً من النَّارِ بالسُّجُودِ لمن كان مخلُوقاً من الأرض لكان قبح أمر من كان مخلوقاً من النُّور المحض بالسُّجُودِ لمن كان مخلوقاً من الأرْضِ أوْلَى؛ لأن النُّورَ أشرف من النَّارِ، وهذا القياس يقتضي أن يُقَبَّحَ أمر كل واحد من الملائكة بالسُّجُودِ لآدم، فَهَذَا القِيَاسُ يَقْتَضِي رَفْعَ مدلول النَّصِّ بالكليَّةِ وأنه باطل.
أمَّا القِيَاسُ الذي يقتضى تخصيص مَدْلُول النَّصِّ العامِّ لم قُلْتُمْ: إنَّهُ [باطل؟ ويمكن أن يُجَابَ بأن يقال: إن كونه أشرف من غيره يَقْتَضِي قُبْحَ أن يلجأ الأشرف] إلى خدمة الأدنى، أما لو رَضِيَ ذلك الشَّريفُ بتلك الخِدْمَةِ لم يقبح؛ لأنه لا اعتراض عليه في أن يُسْقِطَ حَقَّ نَفْسِهِ، أمَّا الملائِكَةُ فقد رضوا بذلك فلا بَأسَ به، وأمَّا إبليسُ فَإنه لم يرض بإسقاط هذا الحق، فوجب أن يقبح أمره بذلك السجود، فهذا قياس مناسب، وإنه يُوجِبُ تَخْصيص النَّصِّ، ولا يوجب رفعه بالكليَّةِ ولا إبطاله، فلو كان تخصيص النَّصِّ بالقياس جائزاً لما استوجب الذَّم العظيم، فلمَّا استوجب استحقاق هذا الذم العظيم علمنا أنَّ ذلك إنَّما كان لأجل أن تخصيص النَّصِّ بالقياس لا يجوز.
فصل في بيان قوله تعالى { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ }
قوله تعالى: { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } لا شكَّ أن قائل هذا القول هو اللهُ سبحانه وتعالى، وقوله: { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } لا شكَّ أنَّ قائل هذا القول هو إبليس، وقوله: "فٱهْبِطْ مِنْهَا" لا شكَّ أن قائل هذا القول هو اللهُ سبحانه وتعالى، وقوله:
{ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الأعراف:14] لا شكَّ أنَّ هذا قول إبليس، ومثل هذه المَنَاظَرَةِ بين اللهِ وبين إبليسَ مذكور في سورة "ص".
وإذا ثبت هذا فنقول: إنه لم يتَّفِقْ لأحد من أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مكالمة مع الله مثل ما اتُّفِقَ لإبليس، وقد عَظَّمَ اللهُ شرف موسى - عليه الصلاة والسلام - بقوله:
{ وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } [الأعراف:143]، { { وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً } [النساء: 164]، فإذا كانت المكالمة تفيد الشَّرَفَ العظيمَ فَكَيْفَ حصلت على أعظم الوجوه لإبليس؟ وإن لم يوجب الشَّرف العظيم فكيف ذَكَرَهُ الله تعالى في معرض التشريف لموسى - عليه الصلاة والسلام -.
والجوابُ من وجهين:
أحدهما: قال بعض العلماء: إنَّه تعالى قال ذلك لإبليس بواسطة على لِسَانِ بعض الملائكة؛ لأنه ثبت أن غَيْرَ الأنبياء لا يخاطبُهُم اللهُ إلا بواسطة.
الثاني: أنَّهُ تعالى تكلَّم مع إبليس بلا واسِطَة لكن على وجه الإهَانَةِ بدليل قوله تعالى:
{ { فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّاغِرِينَ } [الأعراف: 13]، وتكلَّم مع الأنبياء على سبيل الإكرامِ بدليل قوله [تعالى] لموسى - عليه الصلاة والسلام -: { وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ } [طه: 13]، وقوله: { { وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } [طه: 41] وهذا نهايةُ الإكْرَامِ.