خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِي ۤ ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ
١٧٥
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
١٧٦
سَآءَ مَثَلاً ٱلْقَوْمُ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ
١٧٧
مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ
١٧٨
-الأعراف

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِيۤ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا } الآية.
قال ابنُ عبَّاسٍ وابن مسعود: نزلت هذه الآيةُ في "بلعم بن باعوراء".
وقال مجاهدٌ: بَلعَامُ ابن باعر.
وقال عطيَّةُ عن ابن عبَّاسٍ: كان من بني إسرائيل.
وروي عن ابن أبي طلحة: أنَّه كان من الكنعانيين من مدينة الجبَّارين.
وقال مقاتل: هو من مدينة البَلْقَاءِ، وذلك أنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - وقومه، قصد بلده، وغزا أهله وكانوا كفاراً، فطلبوا منه أن يدعو على موسى وقومه وكان مجاب الدعوة وعنده اسم الله الأعظم فامتنع منه، فما زالوا يطلبونه حتى دعا عليه، فاستجيب له ووقع موسى وبنوا إسرائيل في التّيهِ بدعائه، فقال موسى: يا رب بأيِّ ذنبٍ وقعنا في التيهِ؟
فقال: بدعاء بلعم، فقال: كما سمعت دُعاءَهُ عليَّ، فاسمع دعائي عليه، ثم دعا موسى عليه الصلاة والسلام أن ينزع منه اسم الله الأعظم والإيمان، فسلخه اللَّهُ مِمَّا كان عليه، ونزع منه المعرفة، فخرجت من صدره حمامة بيضاء.
وقيل: إنَّه كان نبيّاً من أنبياء الله، دعا عليه موسى، فنزع اللَّهُ تعالى منه الإيمان، فصار كافراً وهذا بعيدٌ؛ لقوله تعالى:
{ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام: 124] فدلَّ على أنَّهُ تعالى لا يخصُّ عبداً بالرِّسالة إلاَّ إذا علم امتيازه عن سائر العبيد بمزيد المناقب العظيمة، ومن كانت هذه حالهُ، كيف يليق به الكفر؟
وقال عبد الله بن عمرو وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم: نزلت في أميَّة بن أبي الصلت وكان قد قرأ الكتب، وعلم أنَّ الله تعالى مرسل رسولاً في ذلك الوقت ورجا أن يكون هو، فلمَّا أرسل الله تعالى، محمداً عليه - الصَّلاة والسَّلام -، حسدهُ، ثم مات كافراً، وكان قد قصد بعض الملوك، فلمَّا رجع مرَّ على قتلى بدر، فسأل عنهم، فقيل له: قتلهم محمد. فقال: لو كان نبيّاً ما قتل أقرباءه، فلما مات أمية، أتت أخته فازعةً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن وفاة أخيها فقالت: بينما هو راقدٌ، أتاه اثنانِ، فكشفا سقف البيت ونزلا، فقعد أحدهما عند رجليه، والآخر عند رأسه. فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه أوعى؟ قال: وعى. قال: أزكى؟ قال: أبَى، فسألته عن ذلك فقال: خيرٌ أريد بي؛ فصرف عني ثم غشي عليه، فلما أفاق قال: [الخفيف]

2621 - كُلُّ عَيْشٍ وإنْ تَطاوَلَ دَهْراً صَائِرٌ مَرَّةً إلى أنْ يَزُولا
لَيْتَنِي كُنْتُ قَبْلَ ما قَدْ بَدَا لِي فِي قلالِ الجِبالِ أرْعَى الوُعُولاَ
إنَّ يَوْمَ الحسابِ يَوْمٌ عظيمٌ شَابَ فِيهِ الصَّغيرُ يَوْماً ثَقِيْلاَ

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشديني شعر أخيك، فأنشدته بعض قصائده.
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: آمن شعره وكفر قلبه وأنزل اللَّه فيه هذه الآية.
وروي عن ابن عباس نزلت في البسوس رجل من بني إسرائيل، وكان قد أعطي ثلاث دعوات مستجابات، وكانت له امرأة له منها ولد، فقالت: اجعل لي منها دعوة واحدة، فقال لها: لَكِ منها واحدةٌ، فما تريدين؟ قالت: ادْعُ اللَّهَ أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا لها؛ فجعلت أجمل امرأة في بني إسرائيل؛ فلمَّا علمت أنه ليس فيهم مثلها رغبت عنه فغضب الزَّوْجُ فدعا عليها فصارت كلبة نباحة [فذهبت فيها دعوتان، فجاء بنوها وقالوا: ليس لنا على هذا إقرار قد صارت أمنا كلبة نباحة]، فصار النَّاس يعيروننا بها، فادع الله أن يردَّهَا إلى حالها الأول، فدعا الله فعادت كما كانت فذهبت فيها الدَّعوات كلها.
وقيل: نزلت في أبي عامر الرَّاهبِ الذي سمَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالفاسق كان يتزهد في الجاهليَّة فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام، وأمر المنافقين باتِّخاذهم مسجد الضِّرار وأتى قيصر واستنجده على النبي صلى الله عليه وسلم فمات هناك طريداً وحيداً.
وقال الحسنُ، وابن كيسان، والأصم نزلت في منافقي أهل الكتاب، كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم.
وقال عكرمةُ، وقتادةُ، وأبو مسلم: هذا عام فيمن عرض عليه الحق فأعرض عنه.
وقوله: "فانسَلَخَ مِنْهَا".
قال ابن عباس: "آتيْنَاهُ آياتِنَا" أوتي كتاباً من كُتبِ اللَّهِ "فانسَلَخَ مِنْهَا" أي: خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها.
قوله: { فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ } الجمهور على أتبعَهُ رباعياً، وفيه وجهان: أحدهما: أنه متعدٍّ لواحد بمعنى أدركه ولحقه، وهو بمالغةٌ في حقه حيث جُعل إماماً للشيطان. ويحتمل أن يكون متعدِّياً لاثنين؛ لأنَّهُ منقولٌ بالهمزة من "تَبع"، والمفعولُ الثَّاني محذوفٌ تقديره: أتبعه الشيطان خطواتِهِ، أي: جعله تابعاً لها، ومِنْ تعدِّيه لاثنين قوله تعالى:
{ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ } [الطور: 21].
وقرأ الحسنُ وطلحةُ بخلاف عنه: فاتَّبَعَهُ بتشديد التاء، فهل "تبعه" واتبعَهُ بمعنى أو بينهما فرق؟
قيل بكل منهما، وأبدى بعضهم الفرق بأن "تَبِعه" مشى في أثره، و "اتَّبعَهُ" إذا وازَاهُ في المشي.
وقيل: "اتَّبعه" بمعنى: استتبعه.
ومعنى الآية: أتبعه الشيطان كفار الإنس وغواتهم أي الشيطان جعل كفار الإنس أتباعاً له.
وقال عبد الله بن مسلم: "فأتبعه الشيطان". أي: أدركه.
ويقال: تبعت القوم، إذا لحقتهم.
قال أبو عبيد: يقال: أتبعت القوم مثل: أفعلتُ إذا كانوا قد سبقُوكَ فلحقْتُهُم وقوله { فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ } أي: أطاع الشيطان فكان من الضالين.
قوله: { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } الضمير في: رَفَعْنَاهُ الظَّاهر عودُه على الذي أوتي الآيات، والمجرور عائد على الآيات والتقديرُ: ولو شئنا رفعناه للعمل بها، أي: رفعناه درجة بتلك الآيات.
قال ابن عباس: لرفعناه بعمله.
وقيل: المنصوب يعودُ على الكفر المفهوم ممَّا سبق، والمجرور على الآيات، أي: لرفعنا الكفر بما ترى من الآيات.
قاله مجاهد وعطاء.
وقيل: الضمير المجرور يعود على المعصية والمنصوب على "الذي" والمراد بالرفع: الأخذُ، كما تقول: رُفِعَ الظَّالمُ، أي قُلِعَ وأهْلِكَ أي: لأهلكناه بسبب المعصية.
وهذه أقوال بعيدة، ولا يظهر الاستدراك إلاَّ على الوجه الأوَّلِ.
قوله { وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ } "أخْلَدَ" أي: ترامى بنفسه. أي: ركن إلى الدنيا ومال إليها.
قال أهل العربيَّةِ: أصله من الإخلاد، وهو الدوامُ واللُّزوم، فالمعنى: لَزِمَ المَيْلَ إلى الأرْضِ قال مالك بنُ نُويرةَ: [الطويل]

2622 - بِأبْنَاءِ حَيٍّ مِنْ قبائِلِ مالكٍ وعمْرو بنِ يَرْبُوعٍ أقامُوا فأخْلَدُوا

ومنه يقال: أخلد فلان بالمكان، إذا لزم الإقامة به.
قال ابنُ عبَّاس: يريد مال إلى الدُّنيا.
وقال مقاتل: رَضِيَ بالدُّنيا.
وقال الزجاج: ركن إلى الدُّنيا.
قال الواحديُّ فهؤلاء فَسَّروا "الأرض" في هذه الآية بالدنيا؛ وذلك لأنَّ الدنيا هي الأرض؛ لأن ما فيها من القفار والضياع كلها أرض، وسائر أمتعتها من المعادن والنبات والحيوان يستخرج من الأرض وإنَّما يقوى ويكمل بها، فالدنيا كلُّها هي الأرض فصلح أن يعبر عن الدُّنْيا بالأرض.
وقوله: { وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ } أي: أعرض عن التَّمسك بما آتاه اللَّهُ من الآيات واتَّبع الهَوَى، فلام جرم وقع في هاوية الرَّدَى، وهذه أشد آية على العلماء؛ لأنه تعالى بعد أن خصَّ هذا الرَّجل بآياته وبيناته وعلمه الاسم الأعظم، وخصه بالدَّعوات المستجابة، لما اتبع الهوى انسلخ من الدين وصار في درجة الكلب، وذلك يدلُّ على أن من كانت نعم الله عليه أكثر، فإذا أعرض عن متابعة الهدى، واتَّبع الهوى، كان بعدهُ عن الله أعظمَ، وإليه الإشارة بقوله عليه الصَّلاة والسَّلام
"من ازدادَ من اللَّهِ عِلْماً ولمْ يزددْ هُدًى لم يَزْددْ مِنَ اللَّهِ إلاَّ بُعْداً" .
وقال عليه الصَّلاة والسَّلام "مَا ذِئبَانِ جَائِعَانِ أرْسِلاَ فِي غنمٍ بأفسَد لَهَا مِنْ حرصِ المرءِ على المالِ والسَّرفِ لدينهِ" .
قوله: { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث }، الجملة الشَّرطيَّةُ في محلِّ نصبٍ على الحال، أي: لاهثاً في الحالتين.
قال بعضهم: وأمَّا الجملةُ الشَّرطيَّةُ فلا تكادُ تقع بتمامها موضع الحال.
فلا يقال: جاء زيدٌ إن يسأل يُعْط. على الحالِ، بل لو أريد ذلك لجُعِلت الجملة خبراً عن ضمير ما أريد جعل الحال عنه.
فيقال: جاء زيدٌ إن يسأل يُعط فتكون الجملة الاسمية هي الحال.
نعم قد أوقعوا الشَّرطيَّة موقع الحال، ولكن بعد أن أخرجُوها عن حقيقة الشرطِ وتلك الجملة لا تخلُو من أن يُعطفَ عليها ما يناقضها، أو لم يُعْطف، فالأوَّلُ: يستمرُّ فيه تركُ الواو، نحو: أتيتك إن أتيتني وإن لم تأتني، إذ لا يَخْفَى أن النقيضين من الشرطين في مثل هذا الموضع لا يبقيان على معنى الشرط، بل يتحوَّلان إلى معنى التسوية، كالاستفهامين المتناقضين في قوله:
{ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } [البقرة: 6 - يس: 10].
والثاني: لا بدَّ فيه من الواو نحو: أتَيْتُكَ، وإن لم تأتني؛ لأنَّهُ لو تركت الواو فقيل: أتيتُكَ إن لم تأتني لالتبس، إذا عُرِفَ هذا فقوله: { إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } من قبيل النوع الأول؛ لأنَّ الحمل عليه، والتَّرك نقيضان.
والكلبُ يُجْمَعُ في القلَّةِ "أكْلُبٍ"، وفي الكثرةِ على "كلابٍ"، وشذُّوا فجمعوا "أكْلُباً" على "أكَالِب"، و "كِلاباً" على "كِلابَاتٍ"، وأمَّا "كَلِيبٌ" فاسم جمعٍ؛ كـ "فريق"، لا جمع، قال طرفة: [الطويل]

2623 - تَعَفَّقَ بالأرْطَى لَهَا وأرَادَهَا رِجَالٌ فبذَّتْ نَبْلَهُمْ وكَلِيبُ

وتقدَّمَتْ هذه المادة في المائدة.
ويقال: لَهَثَ يَلْهَثُ بفتح العينِ في الماضي والمُضارع "لَهَثاً"، و "لُهْثاً" بفتح اللام وضمها، وهو خروج لسانه في حالة راحته وإعيائه، وأمَّا غيره من الحيوان، فلا يَلْهَثُ إلاَّ إذا أعيا، أو عطش، والذي يظهر أن هذه الجملة الشرطية لا محلَّ لها من الإعراب، لأنَّها مفسِّرة للمثل المذكور، وهذا معنى واضحٌ لقولهم في قوله تعالى:
{ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [آل عمران: 59] أنَّ الجملة من قوله من تُرابٍ مفسِّرة لقوله تعالى: { { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ } [آل عمران: 59].
واعلم أنَّ هذا التمثيل ما وقع بجميع الكلابِ، وإنَّما وقع بالكلبِ اللاَّهِثِ، وذلك من وجهين: الأول: أنَّهُ شبهه بأخس الحيوانات، وأخس الحيوانات الكلب، وأخسّ الكلاب الكلبُ اللاَّهث، فمن آتاه اللَّهُ العِلْمَ والدِّين فمالَ إلى الدُّنْيا، وأخْلَدَ في الأرض، كان مشبهاً بأخس الحيوانات وهُو الكلبُ اللاَّهثُ، فإنَّهُ يلهثُ في حال الإعياء، وفي حالِ الرَّاحةِ، وفي حال العطش، وفي حال الرّي، وذلك عادته الأصليَّة وطبيعته الخسيسة لا لضرورة وحاجة تَدْعُو إلى ذلك فكذلك من آتاه اللَّهُ العلم والدين، وأغناه عن التَّعرُّض لأوساخ النَّاسِ، ثم إنَّه يميل في طلب الدُّنْيَا، ويلقي نفسه فيها، فحالُهُ كحالِ ذلك اللاَّهث، حيثُ واظب على الفعل الخسيس القبيح، بمجرَّد نفسه الخبيثة وطبيعته الخسيسة لا لحاجة وضرورة.
الثاني: أنَّ العالم إذا توسَّل بعلمه إلى طلب الدَّنيا، فذلك إنَّمَا يكون لأجل أن يورد عليهم أنواع علومه، ويظهر عندهم فضائل نفسه ومناقبها، فهُو عند ذكر تلك العلوم يدلع لسانه ويخرجه لأجل ما تمكَّن في قلبه من حرارة الحرصِ وشدَّة العطشِ إلى الفوز بالدُّنْيَا، فكانت حاله شبيهةً بحالة ذلك الكلب الذي أخرج لسانه دائماً من غير حاجة، ولا ضرورة، بل لمجرَّدِ الطبيعة الخسيسة.
والثالث: أنَّ الكلبَ اللاَّهث لا يزولُ لهثه ألْبتةَ، فكذلك الإنسان الحريص لا يزول حرصه ألبتة.
قوله: { ذَّٰلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ } يجوز أن يُشارَ بـ: ذَلِكَ إلى صفة "الكَلْبِ"، ويجوز أن يشار به إلى المنسلخ من الآيات، أو إلى الكلب، وأداةُ التَّشبيه محذوفةٌ من ذلك أي: صفة المنسلخ، أو صفة الكلبِ مثل الَّذين كَذَّبُوا، ويجوزُ أن يكون المحذوفُ من: "مثلُ القومِ" أي: ذلك الوصف، وهو وصف المنسلخ، أو وصف الكلب كمثل القوم.
فصل
واعلمْ أنَّهُ تعالى عمَّ بهذا التَّمثيل جميع المكذبين بآيات الله.
قال ابنُ عبَّاسٍ: يريد أهل مكَّة لأنهم كانوا يتمنون هادياً يهديهم، ويدعوهم إلى طاعة الله، فلمَّا جاءهم نبيٌّ لا يشكُّونَ في صدقه كذَّبوه، فلم يهتدوا، وبقُوا على الضَّلالِ في كل الأحوالِ، إن وعظته فهو ضالٌّ، وإن تركتهُ فهو ضالٌّ، مثل الكلب، إن تحمل عليه يلهث، وإن تركته على حاله يلهث فهو لاهث في كل الأحوال.
ثم قال: "فاقْصُصِ القَصَصَ" أي: قصص الذين كَفَرُوا، وكذَّبُوا بآياتنا: "لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" أي: يتَّعِظُون.
قوله: "سَاءَ مثلاً"سَاءَ" بمعنى: "بِئْسَ"، وفاعلها مضمرٌ فيها، ومثلاً تمييزٌ مفسِّر له، وقد تقدم [النساء 38] أنَّ فاعل هذا الباب إذا كان ضميراً يُفَسَّر بما بعده ويُسْتَغْنَى عن تثنيته وجمعه وتأنيثه بتثنية التمييز وجمعه وتأنيثه عند البصريين، وتقدَّم أنَّ "سَاءَ" أصلها التَّعدِّي لمفعولٍ، والمخصوصُ بالذم لا يكون إلا من جنسِ التمييز، والتمييز مُفَسِّر للفاعل فهو هو، فلزم أن يصدق الفاعلُ والتمييزُ والمخصوصُ على شيءٍ واحدٍ، إذا عُرِف هذا فقوله: "القَوْمُ" غيرُ صادقٍ على التمييز والفاعل فلا جرم أنَّه لا بدَّ من تقدير محذوف إمَّا من التَّمييز، وإمَّا من المخصوص.
فالأوَّلُ يقدَّر: ساء أصحابُ مثل أو أهلُ مثل القوم، والثاني يقدر: ساء مثلاً مثل القومِ، ثم حذف المضاف في التقديرين، وأقيم المضافُ إليه مُقامه، وهذه الجملةُ تأكيدٌ للَّتي قبلها.
وقرأ الحسنُ والأعمشُ وعيسى بن عمر: { سَاءَ مثلُ القَوْمِ } برفع "مثل" مضافاً للقوم.
وروي عن الجحدري كذلك، وروي عنه كسر الميم وسكون الثاء ورفع اللاَّم وجرُّ "القوم" وهذه القراءةُ المنسوبةُ لهؤلاء الجماعة تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون "سَاءَ " للتَّعَجُّب، مبنيَّةٌ تقديراً على "فَعُلَ" بضمِّ العين كقولهم: لَقَضُوَ الرجلُ، و "مَثَل القوْمِ" فاعل بها، والتقدير: ما أسوأ مثل القومِ، والموصولُ على هذا في محل جر، نعتاً لـ "قوم".
والثاني: أنَّها بمعنى "بِئْسَ" و "مثلُ القوم" فاعل، والموصولُ على هذا في محلِّ رفعٍ؛ لأنه المخصوصُ بالذَّمِّ، وعلى هذا لا بد مِنْ حذف مضاف، ليتصادقَ الفاعلُ والمخصوصُ على شيءٍ واحدٍ، والتقدير: ساءَ مثلُ القومِ مثل الذين، وقدَّر أبو حيان تمييزاً في هذه القراءة وفيه نظر؛ إذْ لا يحتاج إلى تمييز، إذا كان الفاعلُ ظاهراً، حتَّى جعلُوا الجمع بينهما ضرورةً، كقول الشَّاعر: [الوافر]

2624 - تَزَوَّدْ مِثْلَ زَادِ أبيكَ فِينَا فَنِعْمَ الزَّادُ زَادُ أبيكَ زَادَا

وفي المسألة ثلاثة مذاهب: الجوازُ مطلقاً، والمَنْعُ مطلقاً، والتَّفصيلُ، فإن كان مغايراً في اللَّفظ ومفيداً فائدة جديدة جاز نحو: نعم الرَّجُلُ شجاعاً زيدٌ؛ وعليه قوله: [الوافر]

2625 - تَخَيَّرَهُ ولَمْ يَعْدِلْ سِوَاهُ فَنِعْمَ المَرْءُ مِن رَجُلٍ تِهَامِي

فصل
قال اللَّيْثُ: سَاءَ يَسُوءُ: فعلٌ لازمٌ ومتعد، يقال: ساء الشَّيءُ يَسُوء فهو سيّىءٌ وسَاءَه يَسُوءُهُ مَسَاءَةً، إذا قبح.
فإن قيل: ظاهر قوله: "سَاءَ مَثَلاً" يقتضي كون ذلك المثل موصوفاً بالسُّوء، وذلك غير جائز؛ لأن هذا المثل ذكره الله تعالى، فكيف يكون موصوفاً بالسُّوء؟ وأيضاً فهو يفيد الزجر عن الكُفرِ والدَّعوة إلى الإيمان، فكيف يكون موصوفاً بالسُّوءِ؟
فالجوابُ: أنَّ الموصوف بالسُّوءِ ما أفاده المثل من تكذيبهم بآيات الله وإعراضهم عنها، حتَّى صارُوا في التمثيل بذلك بمنزلة الكلبِ اللاَّهِث.
قوله: { وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } "أنْفُسَهُمْ" مفعول لـ "يَظْلِمُونَ" وفيه دليلٌ على تقديم خبر "كان" عليها؛ لأنَّ تقديم المعمول يؤذنُ بتقديم العامل غالباً، لأنَّ ثمَّ مواضع يمتنع فيها ذلك نحو:
{ فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ } [الضحى: 9] فـ "اليتيمَ" مفعول بـ "تقهر" ولا يجوزُ تقديم "تَقْهَرْ" على جازمه، وهو محتملٌ للبحث.
وهذه الجملةُ الكونيةُ تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون نسقاً على الصلة وهي "كذَّبُوا بآيَاتِنَا" والمعنى: الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله، وظلم أنفسهم.
والثاني: أن تكون مستأنفة، أي: وما ظلموا إلا أنفسهم بالتَّكذيب، وعلى كلا القولين فلا محلَّ لها، وقُدِّم المفعولُ، ليفيدَ الاختصاص وهذا على طريق الزمخشريِّ وأنظاره كأنَّهُ قيل: وخصوا أنفسهم بالظُّلْمِ، وما تعدى أثر ذلك الظُّلم عنهم إلى غيرهم.
قوله: { مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِي } راعى لفظ "مَنْ" فأفرد، وراعى معناها في قوله { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } فجمع، وياء "المُهْتَدِي" ثابتةٌ عند جميع القُرَّاءِ، لثبوتها في الرسم، وسيأتي الخلاف في التي في الإسراء.
وقال الواحديُّ: فهُو المُهْتَدِي يجوز إثبات الياء فيه على الأصلِ، ويجوزُ حذفها استخفافاً؛ كما قيل في بيت الكتاب: [الوافر]

2626 - فَطِرْتُ بِمُنْصُلِي فِي يَعْمَلاتٍ دَوَامِي الأيْدِ يَخْبِطْنَ السَّرِيحَا

وعنه: [الكامل]

2627 - كَنَوَاحِ رِيشِ حَمَامَةٍ نَجْديَّةٍ ومَسَحْتِ باللِّثَتَيْنِ عَصْفَ الإثْمِدِ

قال ابن جني: شبَّه المضاف إليه بالتنوين فحذف له الياء.
فصل
لمَّا وصف الظَّالمين وعرَّف حالهم بالمثل المذكور بيَّن في هذه الآية أنَّ الهداية من اللَّهِ، وأنَّ الضَّلال من اللَّهِ، وذكر المعتزلةُ ههنا وجوهاً من التأويل: أحدها:
قال الجُبائيُّ والقاضي: المرادُ من يهده اللَّهُ إلى الجنَّةِ والثَّواب في الآخرة، فهو المهتدي في الدُّنْيَا السالك طريقة الرشد فيما كلف، فبيَّن تعالى أنَّهُ لا يهدي إلى الثَّوابِ في الآخرة إلا مَنْ هذه صِفَتُهُ، ومن يضلله عن طريق الجنَّةِ: { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ }.
وثانيها: قال بعضهم: إنَّ في الآية حذفاً، والتَّقديرُ: من يهده اللَّهُ فيقبل، ويهتدي بهداه؛ فهو المهتدي، ومن يُضللْ فلم يقبل فهو الخَاسِرُ.
وثالثها: أنَّ المراد من يهده اللَّهُ أي: وصفه بكونه مُهتدياً فهو المهتدي؛ لأنَّ ذلك كالمدح ومدح الله لا يجعل إلاَّ لمن اتَّصَفَ بذلك الوصف المَمْدُوحِ، ومن يضلل أي: وصفه اللَّهُ بكونه ضالاً: { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ }.
ورابعها: من يهده اللَّهُ بالإلطاف وزيادة الهدى فهو المهتدي، ومن يضلل عن تلك الألطاف بسوء اختياره، ولم يُؤثِّر فيه فهو الخَاسِرُ.
والجواب من وجوه: الأولُ: أن الفعل يتوقَّفُ على حصول الدَّاعي وحصول الدَّاعي ليس إلاَّ من اللَّهِ فالفعلُ ليس إلاَّ من اللَّهِ تعالى.
الثاني: أنَّ خلاف معلوم الله تعالى ممتنع الوقوع، فمن علم الله منه الإيمان لم يقدر على الكفر وبالضّد.
الثالث: أنَّ كل أحد يقصد حصول الإيمان والمعرفة فإذا حصل الكفر عقيبه عَلِمْنَا أنَّهُ ليس منه بل من غيره.
وأما التأويل الأول: فضعيف لأنه حمل قوله { مَن يَهْدِ ٱللَّهُ } على الهداية في الآخرة إلى الجنة وقوله "فَهُوَ المُهْتَدِي" على الاهتداء إلى الحق في الدنيا، وذلك يوجب ركاكة النظم، بل يجب أن تكون الهداية والاهتداء راجعين إلى شيء واحد حتى يحسن النظم.
وأما الثاني: فإنه التزام لإضمار زائد، وهو خلاف اللَّفظ، ولو جاز فتح باب أمثال هذه الإضمارات لانقلب النفي إثباتاً والإثبات نفياً، ويخرج كلام الله عن أن يكون حجة، فإنَّ لكل أحد أن يضمر في الآية ما شاء، وحينئذ يخرج الكلام عن الإفادة.
وأما الثالث: فضعيف؛ لأن قول القائل: فلان هدى فلاناً لا يفيدُ في اللغة ألبتَّة أنَّهُ وصفه بكونه مهتدياً، وقياس هذا على قوله: فلان ضلل فلان وكفره، قياس في اللغةِ، وهو في نهاية الفسادِ.
والرابع: باطل؛ لأن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف، فقد فعله عند المعتزلةِ في حق جميع الكُفَّارِ؛ فحمل الآية على هذا التَّأويل بعيد.