خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
١٨٤
أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىۤ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ
١٨٥
مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
١٨٦
-الأعراف

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ }.
يجوزُ في "ما" أوجه:
أحدها: أن تكون استفهامية في محلِّ رفع بالابتداء، والخبرُ "بصَاحبهم" أي: أيُّ شيء استقرَّ بصاحبهم من الجُنُونِ؟ فـ: الجِنَّة: مصدرٌ يراد بها الهيئة، كـ: الرِّكْبَةِ، والجلسة.
وقيل: المراد بالجِنَّة: الجِنُّ، كقوله
{ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ } [الناس: 6] ولا بدَّ حينئذٍ من حذف مضافٍ. أي: مَسِّ جنة، أو تخبيط جنَّة.
والثاني: أنَّ "ما" نافية، أي: ليس بصاحبهم جنون، ولا مسُّ جِنّ. وفي هاتين الجملتين أعني الاستفهامية أو المنفية، فيهما وجهان:
أظهرهما: أنَّهما في محلِّ نصب بعد إسقاط الخافض؛ لأنَّهُمَا علَّقا "التَّفكُّر"؛ لأنَّهُ من أفعال القلوب.
والثاني: أنَّ الكلام تمَّ عند قوله: { أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ }، ثمَّ ابتدأ كلاماً آخر، إمَّا استفهام إنكار، وإمَّا نفياً.
وقال الحوفيُّ إنَّ "مَا بِصَاحبِهِم" معلقةٌ لفعلٍ محذوف، دلَّ عليه الكلامُ، والتقديرُ: أو لم يتفكروا فيعلمُوا ما بصاحبهم.
قال: و "تفكَّر" لا يعلَّقُ؛ لأنَّهُ لم يدخل على جملة. وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّهم نَصُّوا على أن فعل القَلْبِ المتعدِّي بحرف جرٍّ أو إلى واحد إذا عُلِّقَ هل يبقى على حاله أو يُضَمَّن ما يتعدَّى لاثنينِ؟
الثالث: أن تكون "مَا" موصولة بمعنى "الذي"، تقديره: أو لم يتفكَّرُوا في الذي بصاحبهم وعلى هذا يكون الكلام خرج على زعمهم، وعلى قولنا: إنَّهَا نافيةٌ يكونُ "مِن جِنَّةٍ" مبتدأ، ومِنْ مزيدةٌ فيه، وبِصَاحِبِهم خبره، أي: مَا جِنَّةٌ بِصَاحِبِهم.
فصل
دخول "مِنْ" في قوله من جنَّةٍ يوجب أن لا يكون به نوع من أنواع الجنون.
قال الحسنُ وقتادةُ: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قام ليلةً على الصَّفَا يدعو قريشاً فخذاً فخذاً، يا بني فلان، يا بني فلان، يُحذرُهم بأسَ الله وعقابه.
فقال قَائِلُهُمْ: إنَّ صاحبكم هذا المجنون، بات يُصوِّت إلى الصَّباحِ، فأنزل اللَّهُ تعالى هذه الآية.
وقيل: إنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام كان يَغْشَاهُ حالة عجيبة عند نزولِ الوحي فيتغيَّر وجهه ويصفر لونه، وتعرض له حالة شبيهة بالغشي، والجهال كانوا يقولون: إنَّهُ جُنُونٌ، فبيَّنَ اللَّهُ تعالى في هذه الآية أنَّه ليس بمجنون إنَّمَا هُو نذير مبينٌ من ربِّ العالمين.
قوله: { أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } الآية.
لمَّا كانَ النَّظرُ في أمر النُّبُوَّةِ مفرعاً على تقرير دلائل التَّوحيد، لا جرم ذكر عقيبهُ ما يدلُّ على التَّوحيد، فقال: { أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } واعلم أنَّ دلائل ملكوت السَّمواتِ والأرض على وجود الصَّانع الحكيم كثيرة وقد تقدَّمت.
ثم قال: { وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ } أي: أن الدَّلائل على التَّوحيد غير مقصورةٍ على السَّموات والأرض، بل كلُّ ذرَّة من ذرات العالم، فهي برهان قاهرٌ على التَّوحيد، وتقريره أن الشَّمس إذا وقعت على كوة البيت ظهرت ذرَّات، فيفرض الكلامُ في ذرَّةٍ واحدةٍ من تلك الذرات.
فنقول: إنَّها تدل على الصانع الحكيم من جهات غير متناهية؛ لأنَّها مختصة بحيِّز معين من جملة الأحياز التي لا نهاية لها في الخلاء الذي لا نهاية له، فكلُّ حَيِّزٍ من تلك الأحياز الغيرِ متناهية فرضنا وقوع تلك الذَّرة فيه كان اختصاصها بذلك الحيِّز من الممكنات والجائزات، والممكن لا بدَّ له من مُخَصّص ومرجح، وذلك المخصص إن كان جسماً عادَ السُّؤالُ فيه، وإن لم يكن جسماً كان هو اللَّهُ تعالى.
وأيضاً فتلك الذَّرَّةُ لا تخلو من الحركةِ والسُّكُونِ، وكلُّ ما كان كذلك فهو محدثٌ، وكل محدث فإنَّ حدوثه لا بد وأن يكون مختصًّا بوقتٍ معيَّنٍ مع جواز حصوله قبل ذلك وبعده واختصاصه بذلك الوقت المعين الذي حدث فيه، لا بُد وأن يكون بتخصيص مخصصٍ قديم ثمَّ إن كان ذلك المُخَصِّص جسماً عاد السُّؤالُ فيه، وإن لم يكن جسماً فهو الله تعالى وأيضاً فتلك الذرة مساوية لسائر الأجسام في التحيز والحجميَّة، ومخالفة لها في اللَّون والشَّكل والطبع والطعم وسائر الصِّفاتِ، فاختصاصها بكلِّ تلك الصفات التي باعتبارها خالفت سائر الأجسام، لا بد وأن يكون من الجائزات، والجائزُ لا بد له من مرجح، وذلك المرجح إن كان جسماً عاد البَحْثُ الأوَّلُ فيه، وإن لم يكن جسماً فهو الله تعالى، فثبت أن تلك الذرة دالة على وجود الصَّانع من جهات تتناهى، واعتبارات غير متناهية، وكذا القولُ في جميع أجزاء العالم الجسماني والروحاني بمفرداته ومركَّباته، وعند هذا ظهر صدْقُ القائل: [المتقارب].

2638 - وَفِي كُلِّ شيءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ على أنَّهُ وَاحِدٌ

ولمَّا نبَّه تعالى على هذه الأسرار العجيبة بقوله: { وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ } أردفه بما يوجب التَّرغيب الشديد في الإتيان بهذا النظر والتفكُّر فقال: "وأنْ عَسَى"، و "أنْ" فيها وجهان:
أصحهما: أنَّهَا المخففةُ من الثقيلة، واسمُها ضمير الأمر والشأن، والمعنى: لعل آجالهم قربت فهلكوا على الكفر ويصيرُوا إلى النَّارِ، وإذا كان هذا الاحتمالُ قائماً؛ وجب على العاقل المُسارعة إلى هذا الفكر، ليسعى في تخليص نصفه من هذا الخوف الشَّديد، و "عسى" وما حيَّزها في محلِّ الرفع خبراً لها، ولم يفصل بَيْنَ "أنْ" والخبر وإن كان فعلاً؛ لأنَّ الفعل الجامد الذي لا يتصرَّف يشبهُ الأسماء، ومثله
{ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } [النجم: 39] { وَٱلْخَامِسَةَ أَنَّ غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهَآ } [النور: 9] في قراءة نافع لأنَّهُ دعاء.
فصل
وقد وقع خبرُ "أنْ" جملةً طلبية في هاتين الآيتين الأخيرتين، فإنَّ عَسَى للإنشاء و "غَضَبَ اللَّه" دعاء.
والثاني: أنَّها المصدرية؛ قاله أبُو البقاءِ، يعني التي تنصب المضارع، الثنائية الوضع، وهذا ليس بجيِّدٍ؛ لأنَّ النُّحاة نَصُّوا على أنَّ المصدرية لا تُوصَل إلاَّ بالفعل المتصرف مطلقاً، أي: ماضٍ، ومضارع وأمر، و "عَسَى" لا يتصرف فكيف يقع صلة لها؟ وأنْ على كلا الوجهين في محل جر نسقاً على "ملكوت"، أي: أو لم ينظروا في أنَّ الأمر والشأن عسى أن يكون، و "أن يكُون" فاعل "عَسَى" وهي حينئذٍ تامَّةٌ؛ لأنَّها متى رفعت "أنْ" وما في حيَّزها كانت تامةً، ومثلها في ذلك: أوشك، واخلولق. وفي اسم: "يَكُون" قولان:
أحدهما: هو ضميرُ الشَّأنِ، ويكونُ: { قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ } خبراً لها.
والثاني: أنه: "أجْلُهُمْ"، و "قَدِ اقتربَ" جملةٌ من فعلٍ وفاعلٍ هو ضمير "أجَلُهُم" ولكن قدَّم الخبر وهو جملة فعليَّة على اسمها.
وقد تقدَّم أن ابن مالك يجيزه وابن عصفور يمنعه عند قوله:
{ مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ } [الأعراف: 137].
قوله: "فَبِأيِّ" مُتعلّق بـ "يُؤمِنُونَ" وهي جملةٌ استفهامية سيقتْ للتَّعجب، أي: إذَا لم يُؤمِنُوا بهذا الحديث فكيف يُؤمِنُونَ بغيره؟ والهاءُ في: "بَعْدَهُ" تحتملُ العَوْدَ على القرآن وأن تعُود على الرَّسُولِ، ويكون الكلامُ على حذف مضافٍ، أي: بعد خبره وقصته، وأن تعود على: "أجَلُهُمْ"، أي: إنَّهم إذا ماتوا وانقضى أجلهم؛ فكيف يُؤمنُون بعد انقضاءِ أجلهم؟
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: بم تُعلِّق قوله: { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ }؟ قلت: بقوله: { عَسَىۤ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ }؛ كأنه قيل: لعلَّ أجلهم قد اقترب فما لهُم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الموت، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحقِّ؟ وبأيَّ حديثٍ أحقُّ منه يرون أن يؤمنوا؟ يعني التعلُّق المعنويَّ المرتبطَ بما قبله لا الصناعي وهو واضح.
قوله تعالى: { مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ } الآية.
لمَّا ذكر إعراضهُم عن الإيمان، بيَّن ههنا علَّة إعراضهم.
فقال: { مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ } وهذه الآيةُ تدلُّ على أنَّ الهُدى والضلال من الله تعالى كما سبق في الآيةِ المُتقدمة وتأويلات المعتزلة والأجوبة عنها.
قوله: "ويَذَرْهُمْ" قرأ الأخوان بالياء وجزم الفعل، وعاصم وأبو عمرو بالياء أيضاً، ورفع الفعل، ونافع وابن كثير وابن عامر بالنُّون ورفع الفعل أيضاً، وقد رُوي الجزمُ أيضاً عن نافع، وأبي عمرو في الشواذ.
فالرفعُ من وجهٍ واحدٍ، وهو الاستئناف، أي: وهو يذرهم، ونحن نذرهم، على حسب القراءتين، وأمَّا السُّكونُ فيحتمل وجهين:
أحدهما: أنه جزم نسقاً على محلِّ قوله: { فَلاَ هَادِيَ لَهُ }؛ لأنَّ الجملةَ المنفيَّة جوابٌ للشرط فهي في محلِّ جزم فعطف على محلِّها وهو كقوله تعالى:
{ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ٱلْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ } [البقرة: 271] بجزم "يُكَفّر"؛ وكقول الشاعر: [الكامل]

2639 - أنَّى سَلَكْتَ فإنَّنِي لَكَ كَاشِحٌ وعَلى انتقِاصِكَ في الحياةِ وأزْدَدِ

وأنشد الواحديُّ أيضاً قول الآخر: [الوافر]

2640 - فأبْلُونِي بَلِيَّتَكُمْ لَعَلِّي أصَالِحُكُمْ وأستدرج نَوَيَّا

قال: حمل "أسْتَدرِجْ" على موضع الفاء المحذوفة، من قوله: لَعَلِّي أصَالِحُكُمْ.
والثاني: أنه سكونُ تخفيف، كقراءة أبي عمرو { يَنصُرْكُمُ } [آل عمران: 160] و { يُشْعِرْكُمْ } [الأنعام: 109] ونحوه، وأمَّا الغيبة فجرياً على اسم الله تعالى، والتَّكلم على الالتفات من الغيبة إلى التَّكلم تعظيماً ويَعْمَهُونَ مترددون متحيرون.