خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
٣٢
-الأعراف

اللباب في علوم الكتاب

قال القرطبي: لما بيَّن أنَّهم حرَّموا من تِلْقاءِ أنفسهم ما لم يحرمه الله عليهم، بيَّن هنا إباحة الزِّينةِ، والمُرَادُ بها الملبس الحسن إذا قدر عليه صاحبه وقيل: جميع الثّياب.
وهذا استفهامٌ معناه التَّوبيخ والإنكار، وإذا كان للإنكار فلا جواب له؛ إذ لا يُرادُ به استعلام، ولذلك نسب مَكيٌّ إلى الوهم في زعمه أنَّ قوله: { قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ.. إلى آخره } جوابه.
قوله: "زينة الله" قال ابن عباس وأكثر المفسرين: المراد به اللِّباس الذي يَسْتُرُ العَوْرَة.
وقيل: جميع أنواع الزينة، فيدخل فيه جميع أنواع المَلْبُوسِ، ويدخلُ تحته تنظيف البدن من جميع الوجوه، ويدخلُ تحته الرّكوب وأنواع الحلي؛ لأنَّ كل ذلك زينة، ولولا النًّص الوارد في تحريم الذَّهب والإبريسم على الرّجال لكان داخلاً تحت هذا العموم.
ويدخل تحت الطيِّبات من الرِّزْقِ كلُّ ما يُسْتَلَذُّ ويشتهى من أنواع المأكولات والمشروبات، ويدخلُ تحته التَّمتع بالنِّسَاءِ والطيب.
روي عن عُثْمَانَ بن مَظْعُون أنَّه أتى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وقال:
"غلبني حديثُ النَّفْسِ عَزَمْتُ أن أخْتَصِي، فقال: مَهْلاً يا عثمان، إن خصاء أمتي الصِّيام، قال: إنَّ نَفْسي تحدثني بالترهب، فقال: إنَّ تَرَهُّبَ أمَّتِي القُعُودُ في المساجِدِ لانتظار الصلاة فقال: تُحَدِّثُني نَفْسي بالسِّياحَةِ، فقال: سيَاحَةُ أمَّتِي الغَزْوُ والحجُّ والعُمْرَةُ، فقال إنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أنْ أخْرُجَ مِمَّا أمْلِكُ، فقال: الأوْلَى أنْ تَكْفِي نَفْسَكَ وعيالَكَ، وأنْ تَرحم اليتيم، والمساكِينَ، فتُعْطِيَهُ أفضل مِنْ ذلك، فقال: إنَّ نَفْسِي تحدِّثُنِي أنْ أطلِّق خَوْلَةَ، فقال: إنَّ الهِجْرَةَ في أمَّتِي هِجْرَةُ ما حرَّم الله، فقال: إنَّ نَفْسِي تُحدِّثُني ألاَّ أغْشَاها، فقال: المُسْلِمُ إذا غشي أهْلَه أو ما مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فإنْ لَمْ يُصِبْ من وقْعَتِهِ تِلْكَ وَلَداً كان لَهُ وصيفٌ في الجَّنةِ، وإنْ كان لَهُ وَلَدٌ مات قَبْلَهُ أو بَعْدَهُ كَانَ لَهُ قُرَّةَ عَيْنٍ وفرحاً يَوْمَ القيامةِ، وإن مات قَبْلَ أن يَبْلُغَ الحنث كان لَهُ شَفِيعاً ورَحْمَةً يَوْمَ القيامةِ، قال: فإن نَفْسِي تحدثني إلاَّ آكل اللحم قال مَهْلاً إني آكُلُ اللحم إذا وَجَدْتُهُ ولو سألت الله أن يطعمنيه فعل. قال: فإن نفسِي تُحَدِّثُنِي ألاَّ أمَسَّ الطِّيبَ، قال: مَهلاً فإن جِبْريلَ أمَرَنِي بالطِّيب غبّاً وقال: لا تَتْرُكْه يوْمَ الجُمعَةِ، ثم قال: يا عُثْمَانُ: لا تَرْغَبْ عَنْ سُنَّتِي فإنَّ مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَمَاتَ قبل أنْ يتُوبَ صَرَفَت الملائكةُ وجْهَهُ عَنْ حَوْضِي" .
وهذا الحديثُ يَدُلُّ على أنَّ هذه الشَّريعةِ هي الكاملة، وتدل على أن جميع الزِّينة مباح مأذون إلا ما خصَّه الدليل.
فصل في إباحة المنافع لابن آدم
هذه الآيةُ تقْتَضي حلَّ كلِّ المنافع، وهو أصلٌ معتبر في جميع الشريعة؛ لأنَّ كلَّ واقعة إمَّا يكون النَّفع فيها خالصاً أو راجحاً، أو يتساوى فيها الضَّرر والنَّفع، أو يرتفعان. أما القسمان الأخيران وهما: أن يتعادل الضّرر والنفع، أو لم يوجدا قطُّ، ففي هاتين الصُّورتين يجب الحكم ببقاء ما كان على ما كان، وإنْ كان النَّفع خالصاً؛ وجب الإطلاق بمقتضى هذه الآية، وإن كان النَّفع راجحاً والضَّرر مرجوحاً يقابل المثل بالمثل، ويبقى القدر الزَّائد نفعاً خالصاً فيلتحق بالقسم الأوَّل، وهو الذي يكون النَّفعِ فيه خالصاً وإن كان الضَّرر خالصاً كان تركه نفعاً خالصاً، فبهذا الطَّريق صارت هذه الآية دالّة على الأحكام التي لا نهاية لها في الحلّ والتحريم، ثمَّ إنْ وجدنا نصاً خالصاً في الواقعةِ قَضَيْنَا في النَّفْعِ بالحِلِّ، وفي الضَّرَرِ بالحُرْمَةِ، وبهذا الطَّريق صار جَمِيعُ الأحْكَامِ التّي لا نِهَايَةَ لها داخلَ تحت هذا النَّصِّ.
فصل في دحض شبهة لنفاة القياس
قال نُفَاةُ القياس: لو تَعَبَّدَنَا الله بالقياسِ لكان حكم ذلك القياس إمّا أن يكون موافقاً لحكم هذا النص العام وحينئذٍ يكون ضَائِعاً؛ لأنَّ هذا النَّصَّ مستقلٌّ به، وإنْ كان مخالفاً كان ذلك القِيَاسُ مُخَصِّصاً لعموم هذا النَّصِّ، فيكون مردوداً؛ لأنَّ العمل بالنَّصِّ أوْلَى من العملِ بالقياسِ، قالوا: وبهذا الطَّريق يكونُ القرآن وحْدَهُ وَافِياً ببيَانِ كل أحكام الشَّريعةِ، ولا حاجة معه إلى شَيْءٍ آخر.
قوله: { قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ }.
["قل هي للَّذين آمنوا في الحياة الدُّنيا"] أي: بحقِّها من تَوْحيد الله - عزَّ وجلَّ - والتَّصديق له، فإن الله ينعم ويرزق، فإن وحّده المنعم عليه وصدَّقَهُ فقد قَامَ بحقِّ النِّعْمَةِ، وإنْ كَفَرَ أمكن الشَّيْطَان من نَفْسِه.
وقيل: أي: هي للَّذين آمَنُوا في الحياة الدُّنْيَا غير خالصةٍ لهم؛ لأنَّ المشركين شركاؤهم فيها خالصة يَوْمَ القيامة لا يشركهم فيها أحد.
فإن قيل: هلاّ قيل للذين آمنوا ولغيرهم.
فالجواب: لينبه على أنَّها خلقت للذين آمنُوا على طريق الأصالةِ، وأن الكفرة تبع لهم كقوله
{ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ } [البقرة: 126]، وسيأتي له أجوبة أُخر في آخر الآية، والمراد التَّنْبِيهُ على أنَّ هذه النِّعم إنَّما تصفو من الشوائب يوم القيامة
قوله: "خَالِصَةً" قرأها نافعٌ رفعاً، والباقون نصباً فالرفع من وجهين:
أحدهما: أن تكون مرفوعة على خبر المبتدأ وهو "هِيَ"، و "لِلَّذِينَ آمَنُوا" متعلق بـ "خَالِصَةً"، وكذلك "يَوْمَ القيامةِ".
وقال مكيٌّ: ويكون قوله: "للَّذين" تبييناً، فعلى هذا يتعلق بمحذوف كقولهم: سَقْياً لك وجَدْعاً لك.
و { فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } متعلِّق بـ "آمَنُوا"، والمعنى: قل الطيبات خالصة للمؤمنين في الدُّنيا يَوْمَ القيامةِ، أي: تَخْلصُ يوم القيامة لمن آمَنَ في الدُّنْيَا، وإنْ كانت مشتركة فيها بينهم وبين الكفَّار في الدُّنيا، وهو معنى حسن.
وقيل: المرادُ بخلوصها لهم يَوْمَ القيامةِ أنَّهُم لا يعاقبون عليها، وإلى تفسير هذا نَحَا سعيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
الثاني: أنْ يكون خبراً بعد خبر، والخبر الأوَّل قوله: "لِلَّذينَ آمَنُوا" قاله الزجاج: واستحسنه أبو علي، و { فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } على هذا متعلِّق بما تعلَّقَ به الجارُّ من الاستقرار المقدَّرِ، و "يَوْمَ القيامةِ" معمول لـ "خالصة" كما مرَّ الوجه قبله، والتقديرُ: قل الطيبات مستقرة أو كائنة للذين آمنوا في الحياة الدُّنيا، وهي خالصة لهم يوم القيامةِ، وإنْ كانوا في الدُّنيا يشاركهم الكفَّارُ فيها.
ولمّا ذكر أبُو حيَّان هذا الوجه لم يعلَّق "فِي الحياةِ" إلا بالاستقرار، ولو علق بـ "آمنوا" كما تقدم في الوَجْهِ قَبلَهُ لكان حسناً.
وأمَّا النصب فمن وجه واحد، وهو الحال [من الضَّمير المستتر في الجارِّ والمجرور قبله]، والمعنى: أنَّها ثابتة للَّذين آمنوا في حال كونها خالصة لهم يَوْمَ القيامةِ، و "للَّذينَ آمَنُوا" خبر "هِيَ" فتتعلق بالاستقرار المقدَّرِ، وسيأتي أنَّهُ متعلق باستقرار خاص في بعض التقادير عند بعضهم.
و { فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } على ما تقدَّم من تعلُّقه بـ "آمنوا" وبالاستقرار المتعلق به للذين، و "يَوْمَ القيامةِ" متعلِّق أيضاً بخالصة، والتقديرُ: قل الطّيبات كائنة أو مستقرة للمؤمنين في الحياة حال كونهم مقدَّراً خلوصها لهم يَوْمَ القيامةِ.
وسمى الفراء نصبها على القطع، فقال: "خَالِصَةً" نصب على القَطْعِ، وجعل خبر "هِيَ" في "اللاَّم" التي في قوله: "للَّذين"، ويعنى بالقطع الحال.
وجوَّز أبُو علي أنْ يتعلَّق { فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } بمحذوفِ على أنَّهُ حال، والعاملُ فيها ما يعمل في "الَّذينَ آمَنُوا".
وجوَّز الفارسيُّ، وتبعه مكيٌّ أن تتعلَّق "فِي الحياةِ" بـ "حرم" والتقديرُ: من حرم زينة الله في الحياة الدُّنْيَا؟ وجوَّز أيضاً أن تتعلق بالطّيبات.
وجوَّز الفارسي وحدَهُ أن تتعلَّق بالرزق ومنع مكيٌّ ذلك قال: لأنَّكَ قد فرَّقْتَ بينهما بقوله: { قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } يعني أن الرِّزْقَ مصدر، فالمتعلّق به من تمامه كما هو من تمام الموصول، وقد فصلت بينه وبين معموله بجملة أجنبية، وسيأتي عن هذا جواب عن اعتراض اعتراض به على الأخْفَشِ.
وجوَّز الأخْفَشُ أن تتعلَّق "في الحياة" بـ "أخرج" أي: أخرجها في الحياةِ الدُّنْيَا، وهذا قد ردهُ عليه النَّاس بأنه يلزم الفَصْلُ بين أبعاض الصلة بأجنبي، وهو قوله { وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ }.
وقوله: { قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ }، وذلك أنَّهُ لا يُعطَفُ على الموصول إلاَّ بعد تمام صلته، وهنا قد عطفت على موصوف الموصول قبل تمامِ صلته؛ لأنَّ "الَّتِي أخْرَجَ" صفة لـ "زينة"، و "الطيِّبَات" عطف على "زِينَة" وقوله { قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ } جملة أخرى قد فصلت على هذا التقدير بشيئين.
قال الفَارِسِيُّ - كالمجيب عن الأخفش -: ويجوزُ ذلك، وإن فُصِلَ بين الصلة والموصولة بقوله: { هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } لأنَّ ذلك كلام يشدُّ الصِّلة، وليس بأجنبي منها جداً كما جاء ذلك في قوله:
{ وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } [يونس: 27].
فقوله: "وتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ" معطوف على "كَسَبُوا" داخل في الصلة.
قال شهابُ الدِّين: هذا وإن أفاد في ما ذكر، فلا يفيد في الاعتراض الأوَّلِ، وهو العطفُ على موصوف قبل تمامِ صلته؛ إذْ هو أجنبي منه، وأيضاً فلا نسلِّم أنَّ هذه الآية نظير آية "يونس" فإنَّ الظاهِرَ في آية يونس أنَّهُ ليس فيها فصل بين أبعاض الصِّلة.
وقوله "لأن جزاء سيِّئةٍ بمِثلِهَا" معترض، و "تَرْهَقُهُمْ" عطف على "كَسَبُوا".
قلنا: ممنوع، بل { جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا } هو خبر الموصول، فيعترض بعدم الرَّابط بين المبتدأ والخبر، فيجابُ بأنَّهُ محذوف، وهو من أحسن الحذوف؛ لأنَّهُ مجرور بـ "من" التَّبْعيضية، وقد نصَّ النُّحَاةُ على أنَّ ما كان كذلك كثر حذفه وحَسُنَ والتقديرُ: والَّذينَ كَسَبُوا السيِّئَاتِ جَزَاءُ سيِّئةٍ منهم بمثلها فـ "جَزَاءُ سَيِّئةٍ" مبتدأ، و "مِنْهُم" صفتها، و "بمثلها" خبره، والجملة خَبَر الموصول، وهو نظير قولهم: السَّمن منوانِ بِدرْهَمٍ أي: منوان منه، وسيأتي لهذه الآية مزيد بيان.
ومنع مكي أن يتعلق { فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } بـ "زينة" قال: لأنَّها قد نُعتت، والمصدر واسم الفاعل متى نعتا لا يعملان لبعدهما عن شبه الفعل.
قال: "ولأنَّهُ يُفَرَّق بين الصِّلة والموصول؛ لأنَّ نَعْتَ الموصول ليس من صلته".
قال شهابُ الدِّين: لأن زينة مصدر فهي في قوة حرف موصول وصلته، وقد تقرَّر أنَّهُ لا يتبع الموصول إلا بعد تمام صلته، فقد تحصل في تعلق "الَّذينَ آمَنُوا" ثلاثة أوْجُهٍ:
إمَّا أنْ يتعلَّق بـ "خالصة"، أو بمحذوف على أنها خبر، أو بمحذوف على أنَّها للبيان وفي تعلق { فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } سبعةُ أوْجُهٍ.
أحدها: أن يتعلّق بـ "آمنوا".
الثاني: أن تتعلَّق بمحذوف على أنَّها حال.
الثالث: أن يتعلق بما تعلَّق به "لِلَّذِينَ آمَنُوا".
الرابع: أن يتعلَّق بـ "حَرَّمَ".
الخامس: أن يتعلَّق بـ "أخْرَجَ".
السادس: أن يتعلق بقوله: "الطّيِّبات".
والسابع: أن يتعلَّق بالرّزق.
و " يَوْمَ القيامةِ" له متعلق واحد وهو "خَالِصَةٌ"، والمعنى: أنَّها وإن اشتركت فيها الطائفتان دنيا فهي خالصة للمؤمنين فقط أخرى.
فإن قيل: إذَا كان الأمر على ما زعمت من معنى الشركة بينهم في الدُّنْيَا، فكيف جاء قوله تعالى: { قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ }، وهذا مؤذِنٌ ظاهراً بعدم الشركة.
فقد أجَابُوا عن ذلك من أوجه:
أحدها: أنَّ في الكلام حذفاً تقديره: قل هي للذين آمنوا ولغيرهم في الحياة الدنيا خالصة لهم يوم القيامة.
قال أبُو القاسم الكَرْمَانِيُّ: وكأنَّه دلَّ على المحذوف قوله بعد ذلك: { خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } إذْ لو كانت خالصة لهم في الدَّارين لم يخص بها أحدهما.
والثاني: أن "لِلَّذينَ آمَنُوا" ليس متعلّقاً بكون مطلق، بل بكون مقيد، يدلُّ عليه المعنى، والتقدير: قل هي غير خَالصَةِ للذين آمنوا لأنَّ المشركين شركاؤهم فيها، خالصة لهم يَوْمَ القيامةِ، قاله الزمخشريُّ، ودلَّ على هذا الكون المقيَّد مقابله وهو قوله: { خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ }.
الثالث: ما ذكره الزمخشريُّ، وسبقه إليه التبريزي قال: فإن قلت: هلا قيل [هي] للَّذين آمنوا ولغيرهم؟ قلت: التنبيه على أنها خلقت للَّذين آمنوا على طريق الأصالة، فإنَّ الكفرة تبع لهم كقوله تعالى:
{ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً } [البقرة: 126].
وقال التبريزي: ولم يذكر الشّركة بينهم وبين الذين أشركوا في الدُّنْيَا تنبيهاً على أنَّهُ إنَّمَا خلقها للذين آمَنُوا بطريق الأصالة، والكُفَّار تبع لهم، ولذلك خاطب المؤمنين [بقوله]:
{ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [البقرة: 29] وهذا الثالث ليس جواباً ثالثاً، إنما هو مبين لحسن حذف المعطوف في عدم ذكره مع المعطوف عليه.
ثم قال تبارك وتعالى: { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ } وقد تقدم.
وقوله: { لِقَوْمِ يَعْلَمُونَ } أنَّ القوم يمكنهم النظر به والاستدلال حتى يتوصَّلُوا إلى ذلك بتحصيل العلوم النظرية.