لمَّا بيَّن في الآية الأولى أنَّ الذي حرَّموه ليس بحرام بيَّن في هذه الآية الكريمة أنواع المحرمات، فحرَّم أولاً الفواحش، وثانيها الإثم، واختلفُوا في الفَرْقِ بينهما، فقيل: الفواحشُ: عبارة عن الكبَائر؛ لأنَّ قبحها قد تَفَاحَشَ أي: تزايد، والإثم عبارة عن الصغائر، والمعنى: أنَّهُ حرَّم الكبائِرَ والصَّغائِرَ.
وطعن القاضي في ذلك بأن ذلك يقتضي أن يقال: الزِّنَا والسرقة والكفر ليس بإثْمٍ، وهو بعيد، وأقلُّ الفواحش ما يجب فيه الحدُّ، والإثم ما لا حدّ فيه.
وقيل: الفاحِشَةُ اسم للكبيرةِ، والإثمُ اسم لمطلق الذَّنْبِ سواء كان صغيراً أو كبيراً، وفائدته: أنَّهُ لمَّا حرّم الكبيرة أردفه بِتَحْرِيمِ مطلق الذَّنْبِ، لئلاَّ يتوهم أنَّ التحريم مقصورٌ على الكبيرة، وهذا اختيار القاضي.
وقيل: إنَّ الفاحشة وإن كانت بحسب اللُّغَةِ اسماً لكلِّ ما يتفاحش وتزايدُ في أمر من الأمور، إلاَّ أنَّهُ في العُرْفِ مخصوصٌ بالزِّنَا، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى في الزنا: { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [الإسراء: 32]، ولأنَّ لفظ الفاحشة إذا أطلق لم يفهم منه إلاَّ ذلك.
وإذا قيل: فلانٌ فحاشٌ، فُهم منه أنَّهُ يشْتِمُ النَّاسَ بألفاظ الوِقَاع؛ فوجب حمل لفظ الفاحِشَةِ على الزِّنَا، فعلى هذا يكون { مَا ظَهَرَ مِنْهَا } أي: الذي يقع منها علانية، و "مَا بَطَنَ" أي: الذي يقع منها سرّاً على وجه العشق والمحبَّة.
وقيل: { مَا ظَهَرَ مِنْهَا }: المُلامسة والمُعَانقة، و "مَا بَطَنَ" الدُّخول، وقد تقدَّم الكلام فيه في آخر السُّورة قبلها.
وما "الإثم" فالظاهر أنَّهُ الذَّنب.
وقيل: هو الخمرُ، قاله المفضلُ، وأنشد القائل في ذلك: [الطويل]
2455 - نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ أنْ نَقْرَبَ الزِّنَا وأنْ نَشْرَبَ الإثْمَ الذي يُوجِبُ الوِزْرَا
وأنشد الأصمعي: [الطويل]
2456 - وَرُحْتُ حَزِيناً ذَاهِلَ العَقْلِ بَعْدَهُمْ كأنِّي شَرِبْتُ الإثْمَ أو مَسَّنِي خَبَلْ
قال: وقد يسمى الخمر إثماً؛ وأنشد القائلُ: [الوافر]
2457 - شَرِبْتُ الإثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي كَذَاكَ الإثْمُ يَذْهَبُ بالعُقُولِ
ويروى عن ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - والحسنِ البصري [أنهما] قالا: "الإثم: الخمر".
قال الحسنُ: "وتصديق ذلك قوله: { قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } [البقرة: 219]، والذي قاله الحُذَّاق: أنَّ الإثم ليس من أسماء الخَمْرِ".
قال ابن الأنباري: "الإثمُ: لا يكون اسماً للخمر؛ لأنَّ العرب لم تسمِّ الخمر إثماً، لا في جاهليّة، ولا في الإسلامِ، وقول ابن عباس والحسن لا ينافي ذلك؛ لأنَّ الخمر سبب الإثم، بل هي معظمه، فإنَّهَا مؤجّجة للفتن، وكيف يكونُ ذلك وكانت الخمرُ حين نزول هذه السُّورةِ حلالاً؛ لأن هذه السُّورة مكيَّة، وتحريم الخمر إنَّمَا كان في "المَدِينَةِ" بعد "أحد"، وقد شربها جماعةٌ من الصَّحابة يوم "أحدٍ" فماتوا شُهَدَاء، وهي في أجوافهم.
وأمّا ما أنشده الأصمعيُّ من قوله:
2458 - شَرِبْتُ الإثْمَ............. ..........................
نصواعلى أنه مصنوع، وأما غيره فاللَّهُ أعلم".
وقال بعضُ المفسِّرين: "الإثم: الذّنب والمعصية".
وقال الضحاكُ -رحمه الله -: "الإثمُ: هو الذَّنْبُ الذي لا حدَّ فيه".
قوله: { وَٱلْبَغْيَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ }: اعلم أنَّ الذَّين قالوا: المراد بـ "الفواحش" جميع الكبائر، وبـ "الإثم" جميع الذُّنوب قالوا: إن البغي والشرك لا بد وأن يدخلا تحت الفواحش، وتحت الإثم، وإنَّمَا خصّهما الله - تعالى - بالذِّكر تنبيهاً على أنَّهُما أقبح أنواع الذُّنُوب، كما في قوله تبارك وتعالى: { وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [البقرة: 98].
وفي قوله تعالى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ } [الأحزاب: 8].
وأمَّا الذين خصُّوا الفاحشةَ بالزِّنَا، والإثمَ بالخَمْرِ قالوا: البغي والشرك غير داخلين تَحْتَ الفواحِش والإثم، وإنَّمَا البغي لا يستعملُ إلا في الإقْدَامِ على الغير نفساً، أو مالاً أو عِرْضاً، وقد يراد البغي على سلطان الوقت.
فإن قيل: البغيُ لا يكون إلا بغير الحقِّ، فما الفائدة في ذكر هذا الشرط؟ فالجواب من وجهين:
الأول: أنَّ قوله تعالى "بِغَيْرِ الحقِّ" حال، وهي حال مؤكدة؛ لأنَّ البَغْيَ لا يكون إلاَّ بغير الحق.
والثاني: أنَّهُ مثل قوله تبارك وتعالى: { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } [الأنعام: 151]، والمعنى: لا تُقدمُوا على إيذاءِ النَّاسِ بالقَتْلِ والقهر، إلا أن يكون لكم فيه حق فحينئذ يخرج عن أن يكون بغياً.
وقوله: "وأنْ تُشْرِكُوا" منصوب المحلِّ نسقاً على مفعول "حرَّم" أي: وحرّم إشراككم عليكم، ومفعول الإشراك { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } وقد تقدَّم بيانه في "الأنعام"، تهكَّم بهم؛ لأنَّهُ لا يجوز أن ينزل برهاناً أن يُشْرَكَ به غيره.
قوله: { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ } نسقٌ على ما قبله أي: وحرّم قولكم عليه من غير علم، وقد تقدَّم الكلامُ عليه في هذه السُّورة عند قوله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 28].
فإن قيل: كلمة "إنَّمَا" تفيدُ الحَصْرَ، إنَّمَا حرّم ربي كذا وكذا يفيد الحصر، والمحرمات غير محصورة في هذه الأشياء؟
فالجواب: إنْ قُلْنَا إن الفاحشة محمولة على مطلق الكبَائِرِ، والإثم على مطلق الذنب دخل كلّ الذُّنوب فيه، وإن حملنا الفَاحِشَة على الزِّنَا، والإثم على الخمر فنقول: الجنايات محصورةٌ في خمسة:
أحدها: الجنايات على الإنسانيَّة، فهذا إنَّما يحصل بالزِّنَا، وهو المراد بقوله: { إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَاحِشَ }.
وثانيها: الجنايات على العقول، وهي شُرْبُ الخمر، وإليه الإشارة بقوله "والإثْم".
وثالثها ورابعها: الجنايات على النُّفوس والأموال، وإليه الإشارة بقوله: { وَٱلْبَغْيَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ }.
وخامسها: الجناية على الأديان، وهي من وجهين:
أحدهما: الطَّعْنُ في توحيد الله تبارك وتعالى.
والثاني: الطعن في أحكامه، وإليه الإشارةُ بقوله: { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }.
فلما كانت الجنايات هذه الأشياء، وكانت البواقي كالفروع والتَّوابع، لا جرم كان ذكرها جارٍ مجرى ذكر الكُلِّ، فأدخل فيها كلمة "إنَّمَا" المفيدة للحصر.
فإن قيل: الفَاحِشة والإثم هو الذي نهى الله تعالى عنه فصار تقديرُ الآية الكريمة: إنَّمَا حرَّمَ ربي المحرمات، وهو كلام خال عن الفائدة؟
فالجوابُ، كون الفعل فَاحِشة إنَّما هو عبارة عن اشتماله في ذاته على أمور باعتبارها يجب النَّهي عنه فسقط السُّؤال.