خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ
٣٦
إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوۤءُ أَعْمَالِهِمْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ
٣٧
-التوبة

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً } الآية.
"العِدَّة" مصدر بمعنى "العَدَد". و "عِندَ اللهِ" منصوبٌ به، أي: في حُكْمه. و "اثْنَا عشرَ" خبرُ "إنَّ"، وقرأ ميسرة عن حفص، وهي قراءةُ أبي جعفر "اثْنَا عَشْرَ" بسكون العين مع ثبوتِ الألف قبلها، واستكرهتْ من حيثُ الجمعُ بين ساكنين على غير حَدَّيْهما، كقولهم: "التقَتْ حَلْقتَا البطانِ" بإثباتِ الألف من "حَلْقتَا". وقرأ طلحة بسكون الشين كأنه حمل "عشر" في المذكر على "عشرة" في المؤنث، و "شَهْراً" نصب على التمييز، وهو مؤكِّد؛ لأنه قد فُهِم ذلك من الأول، فهو كقولك: عندي من الدَّنانير عشرون ديناراً. والجمعُ متغاير في قوله "عِدَّة الشُّهورِ" وفي قوله تعالى:
{ { ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ } [البقرة:197]؛ لأنَّ هذا جمعُ كثرة، وذاك جمعُ قلة.
قوله: { فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } يجوزُ أن يكون صفةً لـ "اثْنَا عَشَرَ"، والتقديرُ: اثنا عشر شهراً مثبتة في كتاب الله. ثمَّ لا يجوزُ أن يعنى بهذا الكتاب كتاب من الكتب، لأنَّه متعلقٌ بقوله: { يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَات } وأسماء الأعيان لا تتعلَّق بالظروفِ، فلا تقول: غلامك يوم الجمعة، بل الكتاب ههنا مصدر والتقدير: إنَّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله، أي: في حكمه الواقع يوم خلق السموات والأرض.
ويجوزُ أن يكون بدلاً من الظرفِ قبله، وهذا لا يجوزُ، أو ضعيفٌ، لأنَّه يلزمُ منه أن يخبر عن الموصول قبل تمام صلته، فإنَّ هذا الجارَّ متعلق به على سبيل البدلية، وعلى تقدير صحة ذلك من جهة الصناعة، فكيف يصحُّ من جهة المعنى؟ ولا يجوزُ أن يكون "فِي كتابِ اللهِ" متعلقاً بـ "عِدَّة" لئلاَّ يلزم الفصلُ بين المصدر ومعموله بخبره وقياس مَنْ جوَّز إبداله من الظرف أن يجوِّز هذا، وقد صرَّح بجوازه الحوفيُّ.
قوله: "يَوْمَ خَلَقَ" يجوز فيه أن يتعلَّق بـ "كِتَاب" على أنَّه يُرادُ به المصدر، لا الجثة ويجوزُ أن يتعلَّق بالاستقرار في الجار والمجرور، وهو "في كِتابِ الله" ويكونُ الكتابُ جثةً لا مصدراً، وجوَّز الحوفيُّ أن يكون متعلقاً بـ "عِدَّة" وهو مردودٌ بما تقدَّم، ويجوزُ أن يتعلَّق بفعل مقدر، أي: كتب ذلك يوم خلق.
فصل
هذه الآية أيضاً من شرح قبائح اليهود والنَّصارى والمشركين، وهو إقدامهم على تغيير أحكام الله تعالى؛ لأنَّه تعالى، حكم في كل وقت بحكم خاص، فإذا غَيَّرُوا تلك الأوقات بسبب النَّسيء، كان ذلك سعياً منهم في تغيير حكم السَّنة بحسب أهوائهم وآرائهم فكان ذلك زيادة في كفرهم وجرأتهم. فإنَّ السَّنة عند العربِ: عبارة عن اثني عشر شهراً قمرية، ويدُلُّ عليه هذه الآية وقوله تعالى:
{ هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ } [يونس:5] فجعل تقدير القمر بالمنازل دليلاً على السنين، وإنَّما يصح ذلك إذا كانت السَّنة معلقة بسير القمر، وقال تعالى { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ } [البقرة:189] وعند سائر الطوائف: السَّنة عبارة عن المدة التي تدور الشمس فيها دورة تامة من فصل إلى فصل، فيكون الحج واقعاً في الشتاء مرَّة، وفي الصيف أخرى، فشقَّ الأمر عليهم بهذا السَّبب.
وأيضاً إذا حضروا الحجَّ حضروا للتجارة، فربما كان ذلك الوقت غير موافق لحضور التجارات من الشمسية، فلذلك بقي زمان الحج مختصاً بوقت معين موافق لمصلحتهم، وانتفعوا بتجاراتهم ومصالحهم، فهذا النَّسيء وإن كان سبباً لحصولِ المصالحِ الدنيوية، إلاَّ أنَّه لزم منه تغيير حكم الله تعالى، لمَّا خصَّ الحجَّ بأشهر معلومة على التّعيين، وكان بسبب ذلك النَّسيء يقع في سائر الشُّهور تغيير حكم الله تعالى وإبطال تكليفه؛ فلهذا المعنى استوجبُوا الذَّمَّ العظيمَ في هذه الآية. والمرادُ بالكتابِ: حكمه وإيجابه. قال ابن عباس "إنه اللَّوحُ المحفوظ" وقيل: القرآن.
فصل
قال القرطبيُّ: قوله تعالى: { إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ } وهي جمع شهر. فإذا قال الرجل لأخيه: لا أكلمك الشهور، وحلف على ذلك فلا يكلمه حَوْلاً، قالهُ بعض العلماء وقيل: لا يكلمه أبداً. قال ابنُ العربي: وأرى إن لم يكن له نيّة أن يقتضي ذلك ثلاثة أشهر، لأنَّه أقل الجمع الذي يقتضيه صيغة "فُعول" في جمع "فَعْل".
قوله { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } هذه الجملةُ يجوز فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون صفةً لـ "اثْنَا عَشَرَ".
الثاني: أن تكون حالاً من الضمير في الاستقرار.
الثالث: أن تكون مستأنفة. والضمير في "منها" عائدٌ على اثنا عشر شهراً، لأنه أقربُ مذكورٍ، على "الشُّهور" والضمير في "فيهنَّ" عائدٌ على "الاثني عشر" أيضاً. وقال الفرَّاءُ، وقتادةُ: يعودُ على الأربعةِ الحُرُم وهذا أحسنُ، لوجهين:
أحدهما: أنه أقرب مذكور. والثاني: أنه قد تقرَّر أنَّ معاملة جمع القلة غير العاقل معاملة جمع الإِناث أحسنُ مِنْ معاملة ضمير الواحدة، والجمعُ الكثيرُ بالعكس، تقول الأجذاع انكسرن، والجذوع انكسرت، ويجوزُ العكس.
فصل
أجمعُوا على أنَّ هذه الأربعة ثلاثة منها سرد، وهي: ذُو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، وواحد فرد، وهو: رجبٌ، ومعنى الحرم: أنَّ المعصية فيها أشد عقاباً، والطَّاعةُ فيها أشد ثواباً، والعربُ كانوا يُعظِّمُونها حتَّى لو لقي الرجلُ قاتل أبيه لم يتعرَّض له.
فإن قيل: أجزاء الزمان متشابهة في الحقيقة، فما السَّببُ في هذا التَّمييز؟
فالجوابُ: هذا المعنى غير مُسْتَبعَدٍ في الشَّرائع، فإنه ميَّز البلد الحرام عن سائر البلاد بمزيد الحرمةِ، وميَّز يوم الجمعة عن سائر الأيام بمزيد الحرمة، وميَّز يوم عرفة عن سائر الأيام بعبادة مخصوصة، وميز شهر رمضان عن سائر الشُّهور بمزيد حرمة، وميز بعض ساعات اليوم والليلة بوجوب الصلاة فيها، وميز ليلة القدر عن سائر الليالي، وميَّز بعض الأشخاص بإعطاء الرِّسالة، فأي استبعاد في تخصيصِ بعض الشهور بمزيد الحرمة. وفيه فائدة أخرى وهي: أنَّ الطباع مجبولة على الظلم والفساد، وامتناعهم من هذه القبائح على الإطلاق شاقٌّ عليهم، فخص تعالى بعض الأوقات وبعض الأماكن بمزيد التعظيم والاحترام، حتى إنَّ الإنسانَ ربما امتنع في تلك الأزمنة، وفي تلك الأمكنة عن فعل القبائح، وذلك يوجب أنواعاً من الفوائد.
أحدها: أنَّ ترك القبائح في تلك الأوقات أمر مطلوب؛ لأنه يقل القبائح.
وثانيها: أنَّ تركها في تلك الأوقات ربما صار سبباً لميل طبعه إلى الإعراضِ عنها مطلقاً.
وثالثها: أنَّه إذا أتى بالطَّاعات فيها وأعرض عن المعاصي فيها، فبعد انقضاء تلك الأوقات لو شرع في المعاصي صار شروعه فيها سبباً لبطلان ما تحمله من العناءِ والمشقَّةِ في أداء الطَّاعات في تلك الأوقات، والظَّاهر من حال العاقل أنَّه لا يرضى بذلك فيصير ذلك سبباً لاجتنابه عن المعاصي بالكلِّية، فهذا هو الحكمة في تخصيص بعض الأزمنة، وبعض الأمكنة، بمزيد التعظيم.
قوله { ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ } أي: الحساب المستقيم، يقال: "الكَيِّسُ من دَانَ نَفسَهُ" أي: حاسبها، وقال الحسنُ: "ذلكَ الدِّينُ القَيّم" الذي لا يبدلُ ولا يُغير، "القَيِّم" - ههنا - بمعنى: القائم الدائم الذي لا يزول، وهو الدِّينُ الذي فَطَرَ الناس عليه.
قوله { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } بفعل المعصية، وترك الطَّاعاتِ، قال ابنُ عبَّاسٍ: "المراد، فلا تظلموا في الشهور الاثني عشر أنفسكم، والمراد: منع الإنسان من الإقدام على الفساد في جميع العمر". وقال الأكثرون الضَّمير في قوله "فِيهِنَّ" عائدٌ على الأربعة الحرم، وقد تقدَّم. وقيل: المرادُ بـ "الظلم" النَّسيء الذي كانُوا يعملونه، فينقلون الحجَّ من الشهر الذي أمر الله بإقامته فيه إلى شهرٍ آخر، وقيل: المرادُ بـ "الظُّلمِ" ترك المقاتلة في هذه الأشهر.
قوله: { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } نصب "كَافَّةً" على الحالِ، إمَّا من الفاعل، أو من المفعول، وقد تقدَّم أن "كَافَّةً" لا يُتصرَّف فيها بغير النصب على الحال، وأنَّها لا تدخلها "أل"؛ لأنها بمعنى قولك: قامُوا جميعاً، وقامُوا معاً، وأنَّها لا تُثَنَّى، ولا تُجْمع، وكذلك "كافة" الثانية، ومعنى "كافة" أي: جميعاً.
فصل
معنى الآية: قاتلوهم بأجمعكم مجتمعين على قتالهم، كما أنَّهم يقاتلونكم على هذه الصِّفة، أي: تعاونوا وتناصروا على ذلك؛ ولا تتخاذلوا وكونوا عباد الله مجتمعين متوافقين في مقاتلة الأعداء.
وقال ابنُ عبَّاسٍ: "قاتلوهم بكليتهم ولا تحابوا بعضهم بترك القتال، كما أنَّهُم يستحلُّون قتال جميعكم" { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } أي: مع أوليائه الذين يخشونه في أداء الطَّاعات والاجتناب عن المحرمات.
واختلفوا في تحريم القتال في الأشهر الحرم، فقيل: كان مُحرماً ثم نسخ بقوله تعالى { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } أي: فيهن، وفي غيرهن، وهو قول قتادة، وعطاء الخراساني، والزهريِّ وسفيان الثوري، وقالوا: لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين، وثقيفاً بالطائف، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة. وقال آخرون: غير منسوخ. قال ابن جريج "حلف بالله عطاء بن أبي رباح أنَّهُ ما يحلُّ للنَّاس أن يغزوا في الحرم، ولا في الأشهر الحرم إلاَّ أن يقاتلوا فيها، وما نسخت".
قوله { إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ } في "النَّسِيء" قولان:
أحدهما: أنَّه مصدرٌ على "فَعِيل" مِن: "أنْسأ"، أي: أخَّرَ، كـ "النذير" من أنذر، و "النكير" من أنْكَر، وهذا ظاهرُ قول الزمخشري فإنَّه قال: "النَّسيء: تأخيرُ حرمة الشهر إلى شهر آخر"، وحينئذٍ. فالإخبارُ عنه بقوله "زيادة" واضحٌ، لا يحتاج إلى إضمار.
وقال الطبريُّ: "النَّسيء - بالهمز - معناه: الزيادة"؛ لأنَّه تأخير في المدة، فيلزمُ منه الزيادة، ومنه النَّسيئة في البيع، يقال: أنْسَأ الله أجلهُ، ونسأ في أجله أي أخّر وهو ممدود عند أكثر القراء.
الثاني: أنَّه "فَعِيلٌ" بمعنى" مَفْعُول" مِنْ نسأهُ أي: أخَّره فهو منسوءٌ، ثم حُوِّل "مفعول" إلى "فَعِيلٍ"، وإلى ذلك نَحَا أبُو حاتمٍ، والجوهري - وهذا القول ردَّه الفارسي فإنَّه يكون المعنى: إنَّما المؤخَّر زيادة، والمؤخَّر الشهر، ولا يكون الشهرُ زيادة في الكفرِ، وأجيب عن هذا بأنَّه على حذف مضاف إمَّا من الأول، أي: إنَّما إنساءُ النَّسيء زيادة في الكفر، وإمَّا من الثاني، أي: إنما النسيء ذُو زيادة. وقرأ الجمهورُ "النَّسيء" بهمزة بعد الياءِ، وقرأ ورش عن نافع "النسيّ" بإبدال الهمزة ياء وإدغام الياء فيها، ورُويت هذه عن أبي جعفر، والزهري وحميد، وذلك كما خفّفوا "برية" و "خطية".
وقرأ السلمي، وطلحة، والأشهب، وشبل، "النَّسْء" بإسكان السين. وقرأ مجاهدٌ والسلمي وطلحةُ أيضاً "النَّسُوء" بزنة "فعُول" بفتح الفاءِ، وهو التأخير، و "فعول" في المصادر قليل، قد تقدَّم منه ألفاظ في أوائل البقرة، وتقدَّم في البقرة اشتقاقُ هذه المادة، وهو هنا عبارةٌ عن تأخير بعض الشُّهُور عن بعض؛ قال: [الوافر]

2780- ألَسْنَا النَّاسِئِينَ على مَعَدٍّ شُهُورَ الحِلِّ نجعَلُهَا حَرَامَا

وقال آخر: [الكامل]

2781- نَسَئُوا الشُّهُورَ بها وكانُوا أهلهَا مِنْ قبلِكُم والعِزُّ لمْ يتحوَّلِ

قوله "يُضَلُّ بِهِ" قرأ الأخوان، وحفص "يُضَلُّ" مبنياً للمفعول وأبو عمرو في رواية ابن مقسم "يُضِلّ" مبنياً للفاعل، وفيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: يضل اللهُ به الذين كفروا.
والثاني: يضل الشيطان به الذين كفروا.
والثالث: يضل به الذين كفروا تابعيهم. والباقون مبنياً للفاعل، والموصول فاعل به. وقرأ ابن مسعود والحسن، ومجاهد، وقتادة ويعقوب، وعمرو بن ميمون "يُضِلّ" مبنياً للفاعل، من "أضَلَّ" وفي الفاعل وجهان:
أحدهما: ضمير الباري تعالى، أي: يُضِلُّ اللهُ الذين كفروا.
والثاني: أنَّ الفاعل "الذينَ كفرُوا" وعلى هذا فالمفعولُ محذوف، أي يُضل الذين كفروا أتباعهم.
وقرأ أبُو رجاء "يَضَلُّ" بفتح الياء والضَّاد، وهي مِنْ "ضَلِلْتُ" بكسر اللام، "أضَلُّ" بفتحها، والأَصْلُ: "أَضْلَلُ" فَنُقِلت فتحة اللام إلى الضَّاد، لأجل الإدغام، وقرأ النَّخغي، والحسن في رواية محبوب "نُضِلُّ" بضم نون العظمة، و "الَّذينَ" مفعول، وهذه تقوِّي أنَّ الفاعل ضمير الله في قراءة ابن مسعود.
قوله: "يُحِلُّونه" فيه وجهان:
أحدهما: أنَّ الجملة تفسيريةٌ للضلال.
والثاني: أنها حاليةٌ. وقوله: "ليواطِئُوا" في هذه اللام وجهان:
أحدهما: أنها متعلقةٌ بـ "يُحَرِّمُونَه" وهذا مقتضى مذهب البصريين فإنهم يعملون الثاني من المتنازعين.
والثاني: أنَّها تتعلَّق بـ " يُحِلُّونَهُ" وهذا مقتضى مذهب الكوفيين، فإنهم يعملون الأول، لسبقه. وقول من قال: إنَّها متعلقةٌ بالفعلين معاً، فإنَّما يعني من حيث المعنى، لا اللفظ. وقرأ أبُو جعفرٍ "ليُواطِئُوا" بكسر الطَّاءِ وضمِّ الياءِ الصَّريحة.
والصحيحُ أنه ينبغي أن يقرأ بضمِّ الطاء وحذف الياء؛ لأنَّه لمَّا أبدل الهمزة ياءً استثقل الضمة عليها فحذفها، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء، وضمت الطاء، لتجانس الواو والمواطأة: الموافقةُ والاجتماع، يقال: تواطئوا على كذا، أي: اجتمعوا عليه كأنَّ كلَّ واحدٍ يَطَأ حيث يَطَأ الآخر، ومنه قوله تعالى:
{ { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً } [المزمل:6]. وسيأتي إن شاء الله تعالى.
وقرأ الزهريُّ "لِيُواطِيُّوا" بتشديد الياء، هكذا ترجموا قراءته، وهي مشكلةٌ، فإن لم يُرِدْ به شدة بيان الياء، وتخليصها من الهمز دون التضعيف، فلا أعرف وجهها وهو كما قال.
قوله: "زُيِّنَ" الجمهور على "زُيِّنَ" ببنائه للمفعول، والفاعل المحذوف هو الشيطان. وقرأ زيد بن علي "زَيَّن" ببنائه للفاعل، وهو الشيطان أيضاً، و "سوء" مفعوله.
فصل
معنى النَّسيء: هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر، وذلك أنَّ العرب كانت تعتقد تعظيم الأشهر الحرم، وكان ذلك ممَّا تمسكت به من ملة إبراهيم، وكانت معايشهم من الصيد والغارة فكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر متوالية، وربَّما وقعت لهم حرب في الأشهر الحرم، فيكرهون تأخير حربهم، فنسئوا، يعني: أخَّرُوا تحريم ذلك الشَّهر إلى شهر آخر، وكانوا يؤخِّرُون تحريم المحرم إلى صفر، فيحرمون صفر، ويستحلُّون المحرم فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخَّرُوه إلى ربيع الأوَّل؛ فكانوا يصنعون هكذا شهراً بعد شهر حتَّى استدار التَّحريم إلى السَّنة كلها، فقام الإسلامُ وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه اللهُ - عزَّ وجلَّ - وذلك بعد دهر طويل، فخطب النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال:
"ألاّ إنَّ الزَّمانَ قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السَّنة اثنا عشر شهراً منها أربعةٌ حرمٌ ثلاث متواليات ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم ورجب مُضَر الذي بين جُمادى وشعبان..." الحديث. فأمرهم بالمحافظة لئلاَّ يتبدل في مستأنف الأيام.
واختلفوا في أوَّل من نسأ النَّسيء. فقال ابنُ عباس والضحَّاك وقتادة ومجاهد "أوَّل من نسأ النسيء بنو مالك بن كنانة".
وقال الكلبيُّ "أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة، وكان يقومُ على الناس بالموسم، فإذا همَّ الناسُ بالصدودِ، قام فخطب، فقال: لا مردّ لما قضيتُ، أنا الذي لا أعاب ولا أجاب فيقول له المشركون: لبيك، ثم يسألونه أن ينسأهم شهراً يغيرون فيه، فيقول: إنَّ صفر في هذا العام حرام فإذا قال ذلك حلوا الأوتار، ونزعوا الأسنة والأزجة، وإن قال حلال، عقدوا الأوتار، وشدوا الأزجة، وأغاروا وكان من بعد نعيم رجل يقال له: جنادة بن عوف، وهو الذي أدرك النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هو رجل من كنانة يقال له: القَلَمَّسُ. قال شاعرهم: [الوافر]

2782- ومِنَّا نَاسِىءُ الشَّهْرِ القَلمَّسْ

وكانوا لا يفعلون ذلك إلاَّ في الحجِّ إذا اجتمعت العرب في الموسم. وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: "إنَّ أول من سنَّ النَّسيء: عمرو بن لُحَيّ بن قمعة بن خندف".
ثم قال: { إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } تقدَّم الكلام عليه. { يُحِلُّونَهُ عَاماً } يعني: النَّسيء { وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ } أي: يوافقوا. { عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ } أي: إنهم لم يحلوا شهراً من الحرام إلاَّ حرَّمُوا مكانه شهراً من الحلال، ولم يحرِّمُوا شهراً من الحلال إلاَّ أحلُّوا مكانه شهراً من الحرام، لئلاَّ يكون الحرام أكثر من أربعة أشهر، فتكون الموافقة في العدد.
{ زُيِّنَ لَهُمْ سُوۤءُ أَعْمَالِهِمْ } قال ابنُ عبَّاس: زين لهم الشيطان: { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ }.