خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ
١
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ ٱلْكَافِرُونَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ
٢
إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
٣
-يونس

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

{ الر } فخم الراء ابن كثير ونافع وحفص عن عاصم، وأمالها ورش عن نافع بين بين، والباقون بالإمالة المحضة، والأصل في ذلك الفتح، وكذا ما كان من أمثالها مما ألفاتها ليست منقلبة عن ياء نحو ما ولا، وإمالتها للتنبيه على أنها أسماء للحروف وليست حروفاً - نقل ذلك عن الواحدي.
لما قدم في أول الأعراف الحث على إبلاغ النصيحة بهذا الكتاب وفرغ مما اقتضاه السياق من التحذير من مثل وقائع الأولين ومصارع الماضين ومما استتبع ذلك من توصيل القول قي ترجمة هذا النبي الكريم مع قومه في أول أمره وأثنائه وآخر في سورتي الأنفال وبراءة، وختم ذلك بأن سور الكتاب تزيد كل أحد مما هو ملائم له متهيىء لقبوله وتبعده عما هو منافر له بعيد من قبول ملاءمته. وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك قد حوى من الأوصاف والحلي والأخلاق العلى ما يوجب الإقبال عليه والإسراع إليه. والإخبار بأن توليهم عنه لا يضره شيئاً لأن ربه كافيه لأنه لامثل له وأنه ذو العرش العظيم؛ لما كان ذلك كذلك، أعاد سبحانه القول في شأن الكتاب الذي افتتح به الأعراف وختم سورة التوبة، وزاده وصف الحكمه وأشار بأداة البعد إلى أن رتبته فيها بعيدة المنال بديعة المثال فقال: { تلك } أي الآيات العظيمة جداً التي اشتملت عليها هذه السورة، أو السور التي تقدمت هذه السورة أو هذه الحروف المقطعة المشيرة إلى أن القرآن كلام الله وإلا لما أعجز القادرين على التلفظ بهذه الأحرف { آيات الكتاب } أي الذكر الجامع لكل خير، وهو هذا القرآن الذي وافق كل ما فيه من القصص كل ما في التوارة والإنجيل من ذلك، فدل ذلك على صدق الآتي به قطعاً لأنه لم يكن يعرف شيئاً مما في الكاتبين ولا جالس أحداً يعلمه { الحكيم* } فكان فيما مضى - أن كونه من عند الله كاف في وجوب اتباعه - وفيما هنا تأكيد الوجوب بكونه مع ذلك حكيماً والآية: العلامة التي تنبىء عن مقطع الكلام من جهة مخصوصة، والحكيم: الناطق بالحكمة. وهي المعروف بما يجتمع عليه مما يمنع الفعل من الفساد والنقص، استعير له ذلك لأنه دليل كالناطق بالحكمة لأنه يؤدي إلى المعرفة التي يميز بها طريق النجاة من طريق الهلاك، وهو حاكم يبين الحق من الباطل في الأصول والفروع ويحكم بالعدل الذي لا جور فيه بوجه في كل نازلة، ومحكم لما أتى به، مانع له من الفساد، لا يمحوه الماء ولا تحرقه النار ولا تغيره الدهور، وهذا ما ظهر لي في التحامها بما قبلها؛ وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تضمنت سورة براءة قوله تعالى
{ إلا تنصروه فقد نصره الله } [براءة: 40] وقوله { عفا الله عنك لما أذنت لهم } [براءة: 43] وقوله { ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم } [براءة: 61] وقوله: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } [براءة: 128] إلى آخر السورة إلى ما تخلل أثناء آي هذه السورة الكريمة مما شهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتخصيصه بمزايا السبق والقرب والاختصاص والملاطفة في الخطاب ووصفه بالرأفة والرحمة، هذا ما انطوت هي والأنفال عليه من قهره أعداءه وتأييده ونصره عليهم وظهوره دينه وعلو دعوته وإعلاء كلمته إلى غير هذا من نعم الله سبحانه عليه، وكان ذلك كله مظنة لتعجب المرتاب وتوقف الشاك ومثيراً لتحرك ساكن الحسد من العدو العظيم ما منحه عيه السلام، قال تعالى { أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس } إلى قوله: { لسحر مبين } ثم قال { إن ربكم الله } الآيات، فبين انفراده تعالى بالربوبية والخلق والاختراع والتدبير، فكيف تعترض أفعاله أو يطلع البشر على وجه الحكمة في كل ما يفعله ويبديه، وإذا كان الكل ملكه وخلقه فيفعل في ملكه ما يشاء ويحكم في خلقه بما يريد { ذلكم الله ربكم فاعبدوه } { ما خلق الله ذلك إلا بالحق } ثم توعد سبحانه الغافلين عن التفكر في عظيم آياته حتى أدتهم الغفلة إلى مرتكب سلفهم في العجب والإنكار حتى قالوا { مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } } [الفرقان: 7] وقالوا { لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا } } [الفرقان: 21] وهذه مقالات الأمم المتقدمة { { قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا } [يس: 15] { قالوا أنؤمن لبشرين مثلنا } [المؤمنون: 47] { ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم } [سبأ: 43] فقال تعالى متوعداً للغافلين { إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا }، ثم وعد المعتبرين فقال { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم }، وكل هذا بيّن الالتحام جليل الالتئام، تناسجت آي السور - انتهى.
ولما كان كونه من عند الله مع كونه حكيماً - موجباً لقبوله بادىء بدء والسرور به لما تقرر في العقول وجبلت عليه الفطر من أنه تعالى الخالق الرازق كاشف الضر ومدبر الأمر، كان ذلك موضع أن يقال: ما كان حال من تلي عليهم؟ فقيل: لم يؤمنوا، فقيل: ماشبهتهم؟ هل قدروا على معارضته والطعن في حكمته؟ فقيل:لا! بل تعجبوا من إنزاله على محمد صلى الله عليه وسلم وليس بأكثرهم مالاً ولا بأقدمهم سناً، فرجع حاصل تعجبهم إلى ما قاله تعالى إنكاراً عليهم. فإنه لو أرسل ذا سن قالوا مثل ذلك، وهل مثل ذلك محل العجب! { أكان } أي بوجه من الوجوه { للناس عجباً } أي الذين فيهم أهلية التحرك إلى المعالي، والعجب: تغير النفس بما لا يعرف سببه مما خرج عن العادة؛ ثم ذكر الحامل على العجب وهو اسم "كان" فقال بعد ما حصل لهم شوق إليه: { أن أوحينا } أي ألقينا أوامرنا بما لنا من العظمة بواسطة رسلنا في خفاء منهين { إلى رجل } أي هو في غاية الرجولية، وهو مع ذلك { منهم } بحيث إنهم يعرفون جميع أمره كما فعلنا بمن قبلهم والملك العظيم المُلك المالك التام الملك لا اعتراض عليه فيما به تظهر خصوصيته من إعلاء من شاء.
ولما كان في الإيحاء معنى القول، فسره بقوله { أن أنذر الناس } أي عامة، وهم الذين تقدم نداءهم أول البقرة، ما أمامهم من البعث وغيره إن لم يؤمنوا أصلاً أو إيماناً خالصاً ينفي كل معصية صغيرة أو كبيرة وكل هفوة جليلة أو حقيرة على اختلاف الرتب وتباين المقامات { وبشر } أي خص { الذين آمنوا } أي أوجدوا هذا الوصف وعملوا تصديقاً لدعواهم له الصالحات، أي من الأعمال اللسانية وغيرها، بالبشارة بقبول حسناتهم وتكفير سيئاتهم والتجاوز عن هفواتهم وترفع درجاتهم كما كان إرسال الرسل قبله وكما هو مقتضى العدل في إثابة الطائع الطائع وعتاب العاصي، والإنذار: الإعلام بما ينبغي أن يحذر منه، والتبشير: التعريف بما فيه السرور، واضاف القدم - الذي هو السابقة بالطاعة - إلى الصدق في قوله تعالى موصلاً لفعل البشارة إلى المبشر به دون حرف جر: { أن لهم } أي خاصة { قدم صدق } أي أعمالاً حقة ثابته قدموها لأنفسهم صدقوا فيها وأخلصوا فيما يسّروا له لأنهم خلقوا له وكان مما يسعى إليه بالأقدام، وزاد في البشارة بقوله: { عند ربهم } ففي إضافة القدم تنبيه على أنه يجب أن يخلص له الطاعة كإخلاص الصدق من شوائب الكذب، وفي التعبير بصفة الإحسان إشارة إلى المضاعفة.
ولما ثبت أن الرسول وما أرسل به على وفق العادة، انتفى أن يكون عجباً من هذه الجهة، فصار المحل قابلاً لأن يتعجب منهم فيقال: ما قالوا حين أظهروا العجب؟ ومن أيّ وجه رأوه عجباً؟ فقيل: { قال الكافرون } أي الراسخون في هذا الوصف منهم وتبعهم غيرهم مؤكدين ما يحق لقولهم من الإنكار { إن هذا } أي القول وما تضمنه من الإخبار بما لا يعرف من البعث وغيره { لسحر } أي محمد لساحر - كما في قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي { مبين* } أي ظاهر في نفسه، وهو من شدة ظهوره مظهر لكل شيء أنه كذلك، فجاؤوا بما هو في غاية البعد عن وصفه، فإن السحر قد تقرر لكل ذي لب أنه - مع كونه تمويهاً لا حقيقة له - شر محض ليس فيه شيء من الحكمة فضلاَ عن أن يمتطي الذروة منه مع أن في ذلك ادعاءهم أمراً متناقضاً، وهو أنه من قول البشر كما هي العادة في السحر، وأنهم عاجزون عنه، لأن السحر فعل تخفى الحيلة فيه حتى يتوهم الإعجاز به، فقد اعترفوا بالعجز عنه وكذبوا في ادعاء أنه لسحر لأن الآتي به منهم لم يفارقهم قط وما خالط عالماً لا بسحر ولا غيره حتى يخالطهم فيه شبهة، فهم يعلمون أن قولهم في غاية الفساد، فشرع سبحانه يقيم الدليل على بطلان قولهم من أنه - مع ما تضمنه من البعث - سحر، وعلى حقيقة أنه من عنده من غير شبهة، وعلى أن الرسالة لا عجب فيها، لأنه سبحانه خلق الوجود كله وهو نافذ الأمر فيه وقد ابتلى من فيه من العقلاء ليردهم إليه ويحاسبهم فإنه لم يخلقهم سدى لأنه حكيم، فلا بد من رسول يخبرهم بما يرضيه وما يغضبه لتقوم بذلك الحجة فقال: { إن ربكم } أي الموجد لكم والمربي والمحسن { الله } أي من ربى شيئاً ينبغي أن يكون حكيماً وقادراً على أسباب صلاحه، فأيقظوا أنفسكم من سنة غفلتها تعلموا أن هذا الكتاب من عند الذي له العظمة كلها قطعاً، وأنه قادر على بعثكم لأنه ربكم { الذي } بدأ الخلق بأن { خلق } أي قدر وأوجد { السماوات والأرض } على اتساعهما وكثرة ما فيهما من المنافع { في ستة أيام } لحكمة أرادها على أن ذلك وقت يسير لا يفعل مثل ذلك في مثله إلا من لا يعجزه شيء.
ولما أوجد سبحانه هذا الخلق الكثير المتباعد الأقطار الواسع الانتشار المفتقر إلى عظيم التدبير ولطيف التصريف والتقدير، عبر سبحانه عن عمله فيه عمل الملوك في ممالكهم بقوله مشيراً إلى عظمته بأداة التراخي: { ثم استوى } أي عمل في تدبيره وإتقان ما فيه وإحكامه عمل المعتني بذلك { على العرش } المتقدم وصفه بالعظمة، وليست "ثم" للترتيب بل كناية عن علو الرتبة وبعد منالها؛ ثم بين ذلك الاستواء بقوله: { يدبر } لأن التدبير أعدل أحوال الملك فالاستواء كناية عنه { الأمر } كله فلا يخفي عليه عاقبة أمر من الأمور، فحصل الأمن بهذا من أن يفعل شيء بغير علمه، لأن التدبير تنزيل الأمور في مراتبها على إحكام عواقبها، وهو مع ذلك منزه عما تعرفونه من أحوال الملوك من أنه يكون في ممالكهم من يقضي بعض الأمور بغير إذن منهم وإن علموا به لعجزهم عن المجاهرة بإدامة دفعه، بل هو متصف بأنه { ما من شفيع } أي وإن كان بليغ الاتصاف بذلك.
ولما كان تمام قهره وعظيم سلطانه لا يفيد أحداً عند إذنه له إذناً عاماً لجميع الأزمان والأماكن، أتى بالجار فقال: { إلا من بعد إذنه } فإذا لم يقدر شفيع على الكلام في الشفاعة إلا بإذنه فكيف يقدر أحد أن يأتي بشيء من الأشياء بغير إذنه فكيف يأتي بكتاب حكيم ليس من عنده يعجز الخلق عن معارضته، فحصل الأمن أن يكون غيره قاله أو شفع فيمن أبلغه فأبلغه من غير إرادة منه سبحانه، فتحرر أنه ليس إلا من عنده وأنه أمر بإبلاغه، وقد عرف من هذا أن { ما من شفيع } في موضع الدلالة على أنه لا يخرج عن تدبيره أمر من الأمور ولا يغلبه شيء اصلاً فبطل ما كانوا يقولون في الأصنام من الشفاعة وغيرها والشفيع: السائل في غيره بتبليغ منزلته من عفو أو زيادة منزلة، وقد وقع ذكر الكتاب والرسول والعرش مرتباً في أول هذه على ما رتب آخر تلك؛ فلما تقرر ما وصف به من العظمة التي لا يشاركه فيها أحد، وجب أن يعبد عبادة لا يشاركه فيها شيء، فنبه على ذلك بقوله: { ذلكم } أي العظيم الشأن العالي المراتب { الله } أي الملك الأعلى { ربكم } الذي تقرر له من العظمة والإحسان بالإيجاد والتربية ما لا يبلغه وصف { فاعبدوه } أي فخصُّوه بالعبادة فإن عبادتكم مع الإشراك ليست عبادة، ولولا فضله لم يكن لمن زل أدنى زلة طاعة.
ولما سبب سبحانه عن أوصافه العلى ما وجب له من الأمر بالعبادة، تسبب عن ذلك الإنكار عليهم في التوقف عنها والاحتياج فيها إلى بروز الأمر بها قام على استحقاقه للأفراد بها من الأدلة التي فيهم شواهدها فقال: { أفلا تذكرون* } أي ولو بأدنى أنواع التذكر بما أشار إليه الإدغام، ما أخبركم سبحانه به ونبهكم عليه بما يعلمه كل أحد من نفسه من أنه لا يقدر أحد أن يعمل كل ما يريد، ويعمل كثيراً مما لا غرض له فيه ويعلم أنه يضره إلى غير ذلك من الأمور ليعلم قطعاً أن الفاعل الحقيقي غيره وأنه لا بد لهذا الوجود من مؤثر فيه هو في غاية العظمة لا يصح بوجه أن يشاركه شيء ولو كان أعظم ما يعرف من الأشياء فكيف بجماد لا يضر ولا ينفع!.