خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْيِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ
٩٨
وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي ٱلأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ
٩٩
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَيَجْعَلُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ
١٠٠
-يونس

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان هذا موضع أن يقال: إنما تطلب الآيات لما يرجى من تسبب الإيمان عنها، تسبب عنه أن يجاب بقوله تعالى: { فلولا } أي فهلا { كانت قرية } أي واحدة من قرى الأمم الماضية التي أهلكناها { آمنت } أي آمن قومها عند إتيان الآيات أو عند رؤية أسباب العذاب { فنفعهآ } أي فتسبب عن إيمانها ذلك أنه نفعها - { إيمانها } ولما كان المعنى "لولا" النفي، كان التقدير: لكن لم تؤمن قرية منهم إلاّ عند صدم العذاب كما فعل فرعون، لو آمن عند رؤية البحر على حال الفلق أو عند توسطه وقبل انسيابه عليه قُبِل، ولكنه ما آمن إلا بعد انهماره ومسه. وذلك حين لا ينفع لفوات شرطه من الإيمان بالغيب { إلاّ قوم يونس } فإنهم آمنوا عند المخايل وقت بقاء التكليف فنفعهم ذلك فإنهم { لمآ آمنوا } ودل على أنه قد كان أظلهم بقوله: { كشفنا } أي بعظمتنا { عنهم } أي حين إيمانهم، روي أنه لم يبق بينهم وبين العذاب إلاّ قدر ميل { عذاب الخزي } أي الذي كان يوجب لهم لو برك عليهم هوان الدارين { في الحياة الدنيا } أي فلم يأخذهم وقت رؤيتهم له { ومتعناهم } أي تمتيعاً عظيماً { إلى حين } وهو انقضاء آجالهم مفرقة كل واحد منهم في وقته المضروب له، وما ذكرته في معنى الآية نقله القاضي أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستي في تفسيره المسند عن ابن أبي عمر قال: قال سفيان الثوري: { فلولا كانت قرية آمنت } قال: فلم تكن قرية آمنت، وهذا تفسير معنى الكلام، وأما "لولا" فهو بمعنى هلا، وهي على وجوه تحضيض وتأنيث، أي توبيخ، وهي هنا للتوبيخ. ويجوز أن تكون استفهامية بمعنى "لولا"، ويلزم كلا من المعنيين النفي؛ والنفع: إيجاب اللذة بفعلها أو ما يؤدي إليها كالدواء الكريه المؤدي إلى اللذة؛ والخزي هو أن يفضح صاحبه، وهو وضع من القدر للغم الذي يلحق به، وأصله التعب.
ولما كان ما مضى ربما أوجب اعتقاد أن إيمان مثل أولئك محال جاءت هذه الآية في مقام الاحتراس منه مع البيان لأن حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إيمانهم لا ينفع ومبالغته في إزالة الشبهات وتقرير الدلائل لا تفيد إلاّ بمشيئة الله تعالى لتوفيقهم وهدايتهم، ولو كان ذلك وحده كافياً لآمنوا بهذا السورة فإنها أزالت شبهاتهم وبينت ضلالاتهم وحققت بقصتي نوح وموسى عليهما السلام ضعفهم ووهن مدافعاتهم فقال تعالى: { ولو شآء } أي إيمان الناس { ربك } أي المحسن إليك بإقبال من أقبل لعلمه الخير فيه وإدبار من أدبر لعدم قابليته للخير { لأمن من في الأرض } من الكفار.
ولما كان هذا ظاهراً في الكل، صرح به مؤكداً لأن المقام يقتضيه فقال: { كلهم جميعاً } أي مجتمعين في آن واحد لا يختلفون في شيء منه، ولكن لم يشأ ذلك وأنت لحرصك على امتثال أوامري ووصيتي لك باللطف بخلقي الموافق لما جبلتك عليه من الخير تريد ذلك { أفأنت تكره الناس } أي الذين لم يرد الله إيمانهم مع ما طبعهم عليه من الاضطراب { حتى يكونوا } أي كوناً جبلياً { مؤمنين } أي راسخين في الإيمان، وإيلاء الاستفهام الاسم مقدماً على الفعل للإعلام بأن الفعل - وهو هنا الإكراه - ممكن من غير ذلك الاسم وهو هنا الله وحده القادر على تحويل الطباع فإن قدرته قاهرة لكل شيء ومشيئته نافذة في كل شيء مع الدلالة على أن وقوع خلاف المشيئة مستحيل لا يمكن لغيره تعالى بإكراه ولا غيره، والمشيئة معنى يكون به الفعل مراداً أخذت من الشيء، والمراد بالآية تخفيف ما يلحق النبي صلى الله عليه وسلم من التحسر للحرص على إيمانهم { وما كان } أي وما ينبغي ولا يتأتى { لنفس } أي واحدة فما فوقها { أن تؤمن } أي يقع منها إيمان في وقت ما { إلاّ بإذن الله } أي بإرادة الملك الأعلى الذي له الخلق والأمر وتمكينه، فيجعل الثبات والطمأنينة - اللازمين للإيمان الذي هو أبعد شيء عن السحر - على الذين ينتفعون بعقولهم فيلزمون معالي الأخلاق التي هي ثمرات للإيمان { ويجعل الرجس } أي الاضطراب والتزلزل الذي يلزمه التكذيب الذي هو أشبه شيء بالسحر لأنه تخييل ما لا حقيقة له والقذر والقباحة والغضب والعقاب الناشىء عنه.
ولما كان ما في هذه السورة من الدلائل قد وصل في البيان إلى حد لا يحتاج فيه إلى غير مجرد العقل قال: { على الذين لا يعقلون } أي لا يوجد لهم عقل، فهم لذلك لا ينتفعون بالآيات وهم يدعون أنهم أعقل الناس فيتساقطون في مساوىء الأخلاق وهم يدعون أنهم أبعد الناس عنها، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات؛ والنفس: خاصة الشيء التي لو بطل ما سواها لم يبطل ذلك الشيء، ونفسه وذاته واحد.