خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَيٰقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِيۤ أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ
٨٩
وَٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ
٩٠
قَالُواْ يٰشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ
٩١
-هود

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما بين لهم عذره بما انتفت به تهمته، أتبعه بما يدلهم على أن الحق وضح لهم وضوحاً لم يبق معه إلا المعاندة، فحذرهم عواقبها وذكرهم أمر من ارتكابها فقال: { ويا قوم } وأعز الناس عليّ { لا يجرمنكم } أي يحملنكم { شقاقي } أي شقاقكم لي على { أن يصيبكم } من العذاب { مثل ما } أي العذاب الذي { أصاب قوم نوح } بعد طول أعمارهم وتنائي أقطارهم { أو قوم هود } على شدة أبدانهم وتمادي أمانهم { أو قوم صالح } مع نحتهم البيوت من الصخور وتشييدهم عوالي القصور.
ولما كان للمقاربة أثر المشاكلة والمناسبة، غير الأسلوب تعظيماً للتهويل فقال: { وما قوم لوط } أي على قبح أعمالهم وسوء حالهم وقوة أخذهم ووبالهم { منكم ببعيد* } أي لا في الزمان ولا في المكان فأنتم أجدر الناس بذكر حالهم للاتعاظ بها، وإنما فسرت جرم بحمل لأن ابن القطاع نقل أنه يقال: جرمت الرجل: حملته على الشيء، وقد عزا الرماني تفسيرها بذلك للحسن وقتادة، ويجوز أن تفسر بما تدور عليه المادة من القطع، أي لا يقطعنكم شقاقي عن اتباع ما أدعوكم إليه خوف أن يصيبكم، وقد جوزه الرماني.
ولما رهبهم، أتبعه الترغيب في سياق مؤذن بأنهم إن لم يبادروا إلى المتاب بادرهم العذاب، بقوله عاطفاً لهذا الأمر على ذلك النهي المتقدم: { واستغفروا ربكم } أي اطلبوا ستر المحسن إليكم، ونبه على مقدار التوبة بأداة التراخي فقال: { ثم توبوا إليه } ثم علل ذلك مرغباً في الاقبال عليه بقوله: { إن ربي } أي المختص لي بما ترون من الإحسان ديناً ودنيا { رحيم ودود* } أي بليغ الإكرام لمن يرجع إليه بأن يحفظه على ما يرضاه بليغ التحبب إليه، ولم يبدأه بالاستعطاف على عادته بقوله: يا قوم، إشارة إلى أنه لم يبق لي وقت آمن فيه وقوع العذاب حتى أشتغل فيه بالاستعطاف، فربما كان الأمر أعجل من ذلك فاطلبوا مغفرته بأن بأن تجعلوها غرضكم ثم توصلوا إليها بالتوبة؛ فثم على بابها في الترتيب، وأما التراخي فباعتبار عظم مقدار التوبة وعلو رتبتها لأن الغفران لا يحصل بالطلب إلا إن اقترن بها، هذا الشأن في كل كبيرة من أنها لا تكفر إلا بالتوبة، وذلك لأن الطاعة المفعولة بعدها يكون مثلها كبيرة في جنس الطاعات كما أن تلك كبيرة في جنس المعاصي فلا تقوى الطاعة على محوها وتكرر الطاعات يقابله تكرر المعاصي بالإصرار الذي هو بمنزلة تكرير المعصية في كل حال، فلما رأوه لا ينزع عنهم ولم يقدروا لكلامه على جواب، أيأسوه من الرجوع إليه بأن أنزلوا أنفسهم عناداً في الفهم لهذا الكلام الواضح جداً إلى عداد البهائم، وهددوه فأخبر تعالى عنهم بذلك استئنافاً في جواب من يقول: ما قالوا بعد هذا الدعاء الحسن؟ بقوله: { قالوا يا شعيب } منادين له باسمه جفاء وغلظة { ما نفقه } أي الآن لأن "ما" تخص بالحال { كثيراً مما تقول } وإذا لم يفهم الكثير من الكلام لم يفهم مقصوده، يعنون: خفض عليك واترك كلامك فإنا لا نفهمه تهاوناً به كما يقول الإنسان لخصمه إذا نسبه إلى الهذيان: أنا لا أدري ما تقول، ولما كان غرضهم مع العناد قطع الأمر، خصواً عدم الفهم بالكثير ليكون أقرب إلى الإمكان، وكأنهم - والله أعلم - أشاروا إلى أنه كلام غير منتظم فلا حاصل له ولا لمضمونه وجود في الخارج.
ولما كان في ذلك إشارة إلى أنه ضعيف العقل لأن كلامة مثل كلام المجانين، أتبعوه قولهم: { وإنا لنراك } أي رؤية مجددة مستمرة { فينا ضعيفاً } أي في البدن وغيره، فلا تتعرض لسخطنا فإنك لا تقدر على الامتناع من مكروه نحله بك بقوة عقل ولا جسم ولا عشيرة، وأشاروا إلى ضعف العشيرة بتعبيرهم بالرهط في قولهم: { ولولا رهطك لرجمناك } أي قتلناك شر قتلة - فإن الرهط من ثلاثة إلى عشرة وأكثر ما قيل: إن فخذه أربعون - فما أنت علينا بممتنع لضعفك وقلة قومك { وما أنت } أي خاصة، لأن "ما" لنفي الحال اختصاص بالزمان، والقياس أن يكون مدخولها فعلاً أو شبهه، وحيث أوليت الاسم لا سيما الضمير دل على أن التقديم للاهتمام والاختصاص { علينا بعزيز* } بكريم مودود، تقول: أعززت فلاناً - إذا كان له عندك ود، بل قومك هم الأعزة عندنا لموافقتهم لنا، ولو كان المراد: ما عززت علينا، لكان الجواب: لم لا أعز وقد شرفني الله - أو نحو هذا، ويصح أن يراد بالعزيز القوي الممتنع، ويصير إفهامه لامتناع رهطه محمولاً على أن المانع لهم موافقتهم لهم لا قوتهم؛ والفقه: فهم الكلام على ما تضمن من المعنى، وقد صار اسماً لضرب من علوم الدين، وأصل الرهط: الشدة، من الترهيط لشدة الأكل، ومنه الراهطاء: حجر اليربوع لشدته وتوثقه ليخبأ فيه ولد.