خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا عَلَى ٱلآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ
٣
وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٤
-إبراهيم

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما أشار إلى ما للكافرين، وصفهم بما عاقهم عن قبول الخير وتركهم في أودية الشر فقال: { الذين يستحبون } أي يطلبون أن يحبوا أو يوجدون المحبة بغاية الرغبة متابعة للهوى { الحياة الدنيا } وهي النشأة الأولى التي هي دار الارتحال، مؤثرين لها { على الآخرة } أي النشأة الأخرى التي هي دار المقام، وذلك بأن يتابعوا أنفسهم على حبها حتى يكونوا كأنهم طالبون لذلك، وهذا دليل على أن المحبة قد تكون بالإرادة؛ والمحبة: ميل الطباع إلى الشيء بالشهوة، فهم يمتنعون خوفاً على دنياهم التي منها رئاستهم عن سلوك الصراط { و } يضمون إلى ذلك أنهم { يصدون } أي يعرضون بأنفسهم ويمنعون غيرهم { عن سبيل الله } أي طريق الملك الأعظم؛ والسبيل: المذهب المهيأ للسلوك { و } يزيدون على ذلك أنهم { يبغونها } أي يطلبون لها، حذف الجار وأوصل الفعل تأكيداً له { عوجاً } والعوج: ميل عن الاستقامة، وهو بكسر العين في الدين والأمر والأرض، وبالفتح في كل ما كان قائماً كالحائط والرمح ونحوهما { أولئك } أي البعداء البغضاء { في ضلال بعيد * } أي عن الحق، إسناد مجازي، لأن البعيد أهل الضلال بميلهم عن الباقي إلى الفاني وبطلبهم العوج فيما قومه الله المحيط بكل شيء قدرة وعلماً.
ولما قدم ما أفهم أنه أرسله صلى الله عليه وسلم بلسان قومه إلى الناس كافة لأن اللسان العربي أسهل الألسنة وأجمعها وأفصحها وأبينها، فكان في غاية العدالة، وختم بأن السبيل إليه في غاية الاستقامة والاعتدال، دلّ على شرف هذا اللسان لصلاحيته لجميع الأمم وخفته عليهم بخصوص لسان كل من الرسل بقومه، فلذلك أتبعه قوله: { وما أرسلنا } أي بما لنا في العظمة، وأعرق في النفي فقال: { من رسول } أي في زمن من الأزمان { إلا بلسان } أي لغة { قومه } أي الذين فيهم قوة المحاولة لما يريدون { ليبين } أي بياناً شافياً { لهم } كما تقدم أنا أرسلناك بكتاب عربي بلسان قومك لتبين لهم ولجميع الخلق، فإن لسانك أسهل الألسنة وأعذبها، فهو معطوف على{ أنزلناه } بالتقدير الذي تقدم، فإذا تقرر ذلك علم أنه لا مانع حينئذ لأمة من الأمم عن الاستقامة على هذا الصراط إلا إذن الله ومشيئته { فيضل } أي فتسبب عن ذلك أنه يضل { الله } أي الذي له الأمر كله { من يشاء } إضلاله، وقدم سبحانه هذا اهتماماً بالدلالة على أنه سبحانه خالق الشر كما أنه خالق الخير مع أن السياق لذم الكافرين الذين هم رؤوس أهل الضلال { ويهدي من يشاء } هدايته فإنه سبحانه هو المضل الهادي، وأما الرسل فمبينون ملزمون للحجة تمييزاً للضال من المهتدي { وهو } أي وحده { العزيز } الذي لا يرام ما عنده إلا به، ولا يمتنع عليه شيء أراده { الحكيم * } الذي لا ينقض ما دبره، فلذلك دبر بحكمته إرساله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الخلق كافة باللسان العربي، لأن المقصود جمع الخلق على الحق، فجمعهم على لسان واحد أنسب ما يكون لذلك، ولو أنزل بألسنة كلها لكان منافياً لهذا المقصود، وإن كان مع الإعجاز بكل لسان كان قريباً من الإلجاء فيفوت الإيمان بالغيب، ويؤدي أيضاً إلى ادعاء أهل كل لسان أن التعبير عنه بلسانهم أعظم، فيؤدي ذلك إلى المفاخرة والعصبية المؤدي إلى أشد الفرقة، وأنسب الألسنة لسان قوم الرسول لأنهم، أقرب إليه، فيكون فهمهم لأسرار شريعته ووقوفهم على حقائقها أسهل، ويكونون عن الغلط والخطأ أبعد، فإذا فهموا عنه دعوا من يليهم بالتراجمة وهلم جرا، فانتشر الأمر وعم وسهل، وكان مع ذلك أبعد من التحريف وأسلم من التنازع.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما كانت سورة الرعد على ما تمهد بأن كانت تلك الآيات والبراهين التي سلفت فيها لا يبقى معها شك لمن اعتبر بها لتعظيم شأنها وإيضاح أمرها، قال تعالى:
{ كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } } [إبراهيم:1] أي إذا هم تذكروا به واستبصروا ببراهينه وتدبروا آياته { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض } [الرعد: 31]. ولما كان هذا الهدى والضلال كل ذلك موقوف على مشيئته سبحانه وسابق إرادته وقد قال لنبيه عليه السلام { إنما أنت منذر ولكل قوم هاد } قال تعالى هنا { بإذن ربهم }، إنما عليك البلاغ. ولما قال تعالى: { { وكأين من آية في السماوات والأرض } [يوسف:105] تم بسطها في سورة الرعد، أعلم هنا أن ذلك كله له وملكه فقال: { الذي له ما في السماوات وما في الأرض } } [إبراهيم: 2] فالسماوات والأرض بجملتهما وما فيهما من عظيم ما أوضح لكم الاعتبار به، كل ذلك له ملكاً وخلقاً واختراعاً، { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً } [آل عمران:83] { وويل للكافرين من عذاب شديد } [إبراهيم:2] لعنادهم مع وضوح الأمر وبيانه { ويصدون عن سبيل الله } [التوبه:34] مع وضوح السبيل وانتهاج ذلك الدليل، ثم قال تعالى: { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } [إبراهيم:4] وكأن هذا من تمام قوله سبحانه { ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية } [الرعد:38] وذلك أن الكفار لما حملهم الحسد والعناد وبعد الفهم بما جبل على قلوبهم وطبع عليها على أن أنكروا كون الرسل من البشر حتى قالوا: { أبشر يهدوننا } [التغابن:6]، { ما أنتم إلا بشر مثلنا } [يس:15] وحتى قالت قريش: { { لولا أنزل عليه ملك } [الأنعام: 8]، { ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } { وقالوا لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [الزخرف:31] فما كثر هذا منهم وتبع خلفهم في هذا سلفهم، رد تعالى أزعامهم وأبطل توهمهم في آيات وردت على التدريج في هذا الغرض شيئاً فشيئاً، فأول الوارد من ذلك في معرض الرد عليهم وعلى ترتيب سور الكتاب قوله تعالى: { أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم } [يونس:2]، الآية ثم أتبع ذلك بانفراده تعالى بالخلق والاختراع والتدبير والربوبية، وفي طي ذلك أنه يفعل ما يشاء لأن الكل خلقه وملكه، وأنه العليم بوجه الحكمة في إرسال الرسل وكونهم من البشر، فأرغم الله تعالى بمضمون هذة الآي كل جاحد معاند؛ ثم ذكر تعالى في سورة هود قول قوم نوح { ما نراك إلا بشراً مثلنا } } [ هود:27]، الآية وجوابه عليه السلام { أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون } [هود:63] أي أني وإن كنت في البشرية مثلكم فقد خصني الله بفضله وآتاني رحمة من عنده وبرهاناً على ما جئتكم به عنه، وفي هذه القصة أعظم عظة، ثم جرى هذا لصالح وشعيب عليهما السلام، وديدن الأمم أبداً مع أنبيائهم ارتكاب هذه المقالات، وفيها من الحيد والعجز عن مقاومتهم ما لا يخفى وما هو شاهد على تعنتهم، ثم زاد سبحانه تعالى نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم تعريفاً بأحوال من تقدمه من الأنبياء عليهم السلام ليسمع ذلك من جرى له مثل ما جرى لهم فقال مثل مقالتهم، فقال تعالى: { ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية } [الرعد:38] وأعلم سبحانه أن هذا لا يحط شيئاً من مناصبهم، بل هو واقع في قيام الحجة على العباد. ثم تلا ذلك بقوله: { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } [إبراهيم: 4] أي ليكون أبلغ في الحجة وأقطع للعذر، فربما كانوا يقولون عند اختلاف الألسنة: لا نفهم عنهم، إذ قالوا ذلك مع اتفاق اللغات، فقد قال قوم شعيب عليه السلام { وما نفقة كثيراً مما تقول } [هود:91] هذا وهو عليه السلام يخاطبهم بلسانهم فكيف لو كان على خلاف ذلك بل لو خالفت الرسل عليهم السلام الأمم في التبتل وعدم اتخاذ الزوجات والأولاد واستعمال الأغذية وغيرها من مألوفات البشر لكان منفراً، فقد بان وجه الحكمة في كونهم من البشر ولو كانوا من الملائكة لوقع النفار والشرود لافتراق الجنسية، وإليه الإشارة بقوله تعالى: { ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون } [الأنعام:9] أي ليكون أقرب إليهم لئلا يقع تنافر فكونهم من البشر أقرب وأقوم للحجة. ولما كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عامة، كان عليه الصلاة والسلام يخاطب كل طائفة من طوائف العرب بلسانها ويكلمها بما تفهم، وتأمل كم بين كتابه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنس رضي الله عنه في الصدقة وكتابه إلى وائل بن حجر مع اتحاد الغرض، وللكتابين نظائر يوقف عليها في مظانها، وكل ذلك لتقوم الحجة على الجميع، واستمر باقي سورة إبراهيم عليه السلام على التعريف بحال مكذبي الرسل ووعيد من خالفهم وبيان بعض أهوال الآخرة وعذابها - انتهى.