خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ ٱلْوَارِثُونَ
٢٣
وَلَقَدْ عَلِمْنَا ٱلْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا ٱلْمُسْتَأْخِرِينَ
٢٤
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
٢٥
وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ
٢٦
-الحجر

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

فلما تقرر تفصيل الخبر عما هو سبب للاحياء في الجملة، فتهيأت النفس للانتقال منه إلى الإحياء الحقيقي قياساً، قال تعالى: { وإنا لنحن نحيي } أي لنا هذه الصفة على وجه العظمة، فنحيي بها ما نشاء من الحيوان بروح البدن، ومن الروح بالمعارف، ومن النبات بالنمو، وإن كان أحدها حقيقة، والآخران مجاز إلا أن الجمع بينهما جائز { ونميت } أي لنا هذه الصفة، فنبرز بها من عظمتنا ما نشاء { ونحن الوارثون * } أي الإرث التام إذا مات الخلائق، الباقون بعد كل شيء كما كنا ولا شيء، ليس لأحد فينا تصرف بإماتة ولا إحياء، فثبت بذلك الوحدانية والفعل بالاختيار، فلما ثبت بهذا كمال قدرته، وكانت آثار القدرة لا تكون محكمة إلا بالعلم، قال تعالى: { ولقد علمنا } أي بما لنا من الإحاطة المعجزة { المستقدمين منكم } وهم من قضينا بموته أولاً، فيكون في موته كأنه يسارع إلى التقدم وإن كان هو وكل من أهله مجتهداً بالعلاج في تأخيره { ولقد علمنا } بعظمتنا { المستأخرين * } أي الذين نمد في أعمارهم فنؤخر موتهم حتى يكونوا كأنهم يسابقون إلى ذلك وإن عالجوا الموت بشرب سم وغيره، أو عالجه لهم غيرهم بضربهم بالسيف أو غيره، فعرف بذلك قطعاً أن الفاعل واحد مختار، وكذا كل متقدم ومتأخر في وصف من الأوصاف غير الموت، والمعنى على الأول: فنحن لا نميت أحداً قبل أجله فلا تستعجلونا بالوعيد وتهيؤوا لدفاعه إن كنتم رجالاً، فإنه لا بد أن يأتي لأنه لا يبدل القول لديّ.
ولما تم الدليل على تمام القدرة وشمول العلم، ثبت قطعاً إحياء الموتى لانتفاء المانع من جهة القدرة، واقتضاء الحكمة له من جهة العلم للعدل بين العباد بالمقابلة على الصلاح والفساد، فقال تعالى مؤكداً لإنكارهم: { وإن ربك } أي المحسن إليك بالانتقام لك ممن يعاديك، وإقرار عينك من مخالفيك { هو } أي وحده { يحشرهم } أي يجمعهم إلى أرض القيامة بعد إعادتهم؛ قال الرماني: وأصله جمع الحيوان إلى مكان؛ ثم علل ذلك فقال مؤكداً لأجل اعتقادهم ما يستلزم الإنكار: { إنه حكيم } أي يفعل الأشياء في أتم مواضعها بحيث لا يقدر أحد على نقضها { عليم * } بالغ العلم فلا يخفى عليه شيء، وهو يريد أن ترى حكمته بكشف الغطاء عند تمييز أهل السعادة والشقاء؛ والحكمة: العلم الذي يصرف عما لا ينبغي، وأصلها المنع.
ولما جرت سنته الإلهية أنه يذكر ابتداء الخلق دليلاً على الإعادة سابقاً ولاحقاً، وابتدأ هنا بذكر الحشر لما قام عليه من الدليل بإحياء الأرض، توقع السامع تفصيل ابتداء الخلق الذي هو أدل دليل على البعث بعد إجماله في قوله { وإنا لنحن نحيي } فقال مفتتحاً بحرف التوقع: { ولقد خلقنا } أي بالعظمة الباهرة { الإنسان } أي الآنس بنفسه، الناسي لغيره { من صلصال } أي طين يابس، له عند النقر صلصلة أي صوت شديد متردد في الهواء، فإن كان فيه مد من غير ترجيع فهو صلل، فالمراد شديد يبسه ولكنه غير مطبوخ، وأما المطبوخ فهو فخار: ثم بين أصل الصلصال فقال: { من حمإٍ } أي طين أسود منتن { مسنون * } أي مصبوب مهيأ لعمل ما يراد منه بالدلك والتحسين من الذهاب والاضطراب والجعل على طبع وطريقة مستوية، وكل ذلك على غاية السهولة والطواعية والهوان، فذكر أصل الإنسان وما وقع له من إبليس - الذي هو أصل الجن كما أن آدم عليه السلام أبو البشر - من الكيد حتى أخرجه من دار الصفاء إلى دار الكدر، ليحذره العقلاء من بني آدم، وفي التنبيه بابتداء الخلق على وصول البشر إلى أصل كان بمحض القدرة مخالف لهم في التكوين بين أبوين، وانتهاء الجن إلى أصل ليس خلقه كخلقهم تنبيه عظيم على انتهاء الموجودات إلى موجود لا يجانسهم، بل هو خالق غير مخلوق، فاعل بالاختيار، واحد لا شريك له، ولا اعتراض عليه، قادر على ما يريد سبحانه، وفي خلقه من الماء - الذي هو كالأب - والطين - الذي هو كالأم - بمساعدة النار والهواء من الحكمة أن يكون ملائماً لما في هذا العالم، فيكون بقاءه بذلك الذي خلق منه في مأكله ومشربه وملبسه وسائر أموره، وذلك أدل على حكمة الخالق وعلمه ووحدانيته.
ومادة "صل" تدور على الصلصال الذي هو الطين مطلقاً، أو الطين الحر يخلط بالرمل، أو الطين ما لم يجعل خزفاً، ويتفرع جميع معاني المادة منه، لأن من لوازمه في أوله الماء واللين بنداوته وسهولة خلطه لغيره، فيأتي الخفاء لأنه يغرز فيه بغير صوت، ومنها قبول التصفية من الغش، ومنها في آخره الصلابة لشدة اليبس، فيلزم تضامّ الأجزاء وتضايقها على انتظام أو غير انتظام، والصوت، وشدة الانفصال بالتشقق، ومن لوازمه التغير بالنتن، فيأتي الخبث والفساد، ومن لوازمه شدة الاختلاط بحيث إذا نشب فيه شيء عسر خلاصه، ومن لوازمه تميزه عما عداه، ومحل يصنع فيه.
فمن الصوت واليبس: صليل الحديد والإبل ونحو ذلك، يقال: صل الحديد واللجام: امتد صوته، فإن توهم ترجيع الصوت قيل: صلصل، وصل البيض: سمع له طنين عند القراع، والمسمار صليلاً: ضرب فأكره أن يدخل في الشيء، والإبل صليلاً: يبست أمعاؤها من العطش فسمع لها صوت عند الشرب.
ومن الصوت: صلصل: أوعد وتهدد، وقتل سيد العسكر - لظهور الصيت بذلك، وصلصل الرعد: صفا صوته، والكلمة: أخرجها متحذلقاً، وطائر أو الفاختة، والراعي الحاذق، والمصلل - كمحدث: السيد الكريم الحسيب، والخالص النسب، والأسكف وهو الإسكاف عند العامة، وتصلصل الغدير: جفت حمأته، فتهيأ لأن يصوت يبسه، والحلي: صوت، وحمار صُلصُل وصُلاصل - بضمهما، وصلصال ومُصلصِل: مصوت.
ومن النتن: صلول اللحم والماء، يقال: صل اللحم صلولاً: أنتن، والماء: أجن، والصليان - بكسرتين مشددة اللام: ما تغير من اللحم، والصلة - بالضم: الريح المنتنة.
ومن اليبس: الصلة، وهي الجلد اليابس قبل الدباغ، والنعل، والأرض، أو اليابسة - وصل السقاء صليلاً: يبس. أو أرض لم تمطر بين ممطورتين، والصل - بالكسر: القرن، وشجر، والسيف القاطع.
ومن النداوة: الصلة، وهي التراب الندي؛ ومن الماء أعم من أن يكون كثيراً أو قليلاً: الصلة للمطرة الواسعة والمتفرقة القليلة، والصلة - بالضم: بقية الماء وغيره، وكذا الصلصلة والصلصل - بضمهما: بقية الماء في الغدير، وكذا من الدهن والزيت، وأما التفرق فمن التشقق، والصلة: القطعة من العشب، سميت باسم المطر تسمية للمسبب باسم السبب.
ومن اللين: الصلالة - بالكسر - لبطانة الخف أو ساقها، والصلصل - كهدهد: ناصية الفرس ويفتح، أو بياض في شعر معرفته، وما ابيض من شعر ظهره، وهذا من التمييز أيضاً؛ ومن المحل: القدح أو الصغير منه، والمصلة - بالكسر: الإناء يصفى فيه الشراب؛ ومن الخبث: الصل - بالكسر للحية مطلقاً، أو الدقيقة الصفراء، والداهية، والتسيف القاطع - شبه بذلك لإهلاكه، وإنه لصل أصلال: داهٍ منكر في الخصومة وغيرها، وصلتهم الصالة: أصابتهم الداهية، وهذا أيضاً من شدة الانتشاب، ومن التشقق: الصال وهو الماء يقع على الأرض فتشقق.
ومن التصفية: صللنا الحب المختلط بالتراب: صببنا فيه ماء فعزلنا كلاًّ على حياله، وصل الشراب صلاً صفاه، والمصلة - بالكسر: الإناء يصفي فيه.
ومن تضام الأجزاء وتضايقها، وقد يكون مع الانتظام ومنه: تلصيص البنيان، أي ترصيصه، وقد لا يشترط فيه الانتظام ومنه: التص بمعنى التزق، واللص وهو تقارب المنكبين، وتقارب الأضراس، وتضام مرفقي الفرس إلى زوره، واللصاء من الجباه: الضيقة، والمرأة الملتزقة الفخدين لا فرجة بينهما، والزنجي: ألص الأليتين، وإغلاق الباب؛ ومن إطلاقه على ما ليس منتظماً وإن لم يكن تقارب: اللصاء من الغنم، وهي ما أقبل أحد قرينها وأدبر الآخر، ومن الخفاء الذي هو من لوازم الطين وهو ندي: اللص - بالفتح، وهو فعل الشيء في ستر، والسارق، ويثلث.
ومادة "سن" تدور على الدلك، ويلزمه التحسين، فمن الدلك: السن - بالكسر، وهو الضرس والخبة من الثوم - تشبه به، والثور الوحشي، وسنان الرمح، ومكان البري من القلم، والأكل الشديد، والقرن، وشعبة المنجل، ومقدار العمر - لأنه لما مر على صاحبه كان كأنه دلكه، والمسانّ من الإبل: الكبار، وسن السكين وغيره فهو مسنون، والمسن - بالكسر: آلة السن، وسنن رمحه إليه: سدده، وسن الأضراس: سوكها، والإبل: ساقها سريعاً - لتدالكها عند الازدحام، وسن الأمر: بينه - فكأنه هيأه لأن يركب فيدلك بالأفكار أو غيرها، وسن الطين: عمله فخاراً، وفلاناً: طعنه بالسنان أو عضه بالأسنان، والفحل الناقة: كبها على وجهها، وعليه الدرع أو الماء: صبه، والطريقة: سارها، واستن: استاك. والفرسُ: قمص، والسراب: اضطرب، والسنة - بالكسر: الفأس لها خلفان، والسنة - بالضم: السيرة أو الطبيعة - كأنها عولجت حتى انقادت، والسنة من الله: حكمه وأمره ونهيه، وسنن الطريق - مثلثة وبضمتين: نهجه وجهته، وجاءت الريح سناسن: على طريقة واحدة، والحمأ المسنون: المنتن - لأنه تهيأ لأن يدلك بالآية جبلاً حتى يصلح لما يستعمل فيه، والفحل يسانّ الناقة: يكدمها ويطردها حتى ينوخها ليسفدها، والسنين - كأمير: ما يسقط من الحجر إذا حككته، والأرض التي أكل نباتها كالمسنونة، والسنسن - بالكسر: العطش - كأنه سن الأمعاء حتى أحرقها، ورأس المحالة، أي البكرة العظيمة، وحرف فقار الظهر كالسن والسنسنة، ورأس عظام الصدر، أو طرف الضلع التي في الصدر، والمستسن: الطريق المسلوك، والمستن: الأسد، والسنن - محركة: الإبل تستن في عدوها، والسنينة - كسفينة: الرمل المرتفع المستطيل على وجه الأرض، وهو من المسنون بمعنى المصبوب: وسنني هذا الشيء: شهى إليّ الطعام - كأنه سن المعدة حتى قطعت بعد كلالها، وتسانت الفحول: تكادمت، والنّس: سرعة الذهاب، ويلزمه تدالك الأعضاء، ونسيس الإنسان: مجهوده - لأن ذلك لا يكون إلا بعد أشد الاضطراب، والنسيسة: الحشاشة، وهي بقية الروح من المريض والجريح - كأنها صدمت حتى ذهب أكثرها، ونس اللحم: ذهب بلله من شدة الطبخ - لأن إحراق النار أعظم دلكٍ، وكذا نس الحطب - إذا أخرجت النار زبده على رأسه - لقيام الإحراق مقام الرضخ فيما يستخرج دهنه، ونس من العطش: جف، من ذلك؛ ومن التحسين: سنن المنطق - إذا حسنه، وسن الأمر: بينه، والطين: عمله فخاراً، والمال: أرسله في الرعي أو أحسن القيام عليه حتى كأنه صقله، والشيء: صوره، والسنة - بالضم: الوجه، أو حُرُّه، أو دائرته، أو الصورة أو الجبهة، ورجل مسنون الوجه: مملسه حسنه سَهْلُه، أو في وجهه وأنفه طول، وكل ذلك يرجع إلى الدلك أيضاً - والله أعلم. وقال أبو حيان: قال ابن عباس رضي الله عنهما: المسنون: الرطب، ومعناه المصبوب، لأنه لا يكون مصبوباً إلا وهو رطب؛ وقال الرازي في اللوامع: وهذا إشارة إلى درجات خلق آدم عليه السلام ومراتبه، وأشار الله تعالى إلى ذلك في مواضع مختلفة حسبما اقتضته الحكمة فقال في موضع
{ خلقه من تراب } [آل عمران:59] إشارة إلى المبدإ الأول، وفي آخر { من طين } إشارة إلى الجمع بين الماء والتراب، وفي آخر { من حمإٍ مسنون } إشارة إلى الطين المتغير المستقر على حالة من الاعتدال تصلح لقبول الصورة، وفي آخر { من صلصال } إشارة إلى يبسه وسماع صلصلة منه، وفي آخر { من صلصال كالفخار } [الرحمن:14] وهو الذي قد أصلح بأثر من النار فصار كالخذف، وبهذه القوة النارية حصل في الإنسان أثر من الشيطنة - انتهى. وقال الرماني: وقد تضمنت الآيات البيان عمّا يوجبه تقليب الحيوان من حال إلى حال من جاعل قادر قلّبه من أصل هو أبعد شيء من حال الحيوان إلى الحيوان، وقال: إن الحكمة في جعله من الحمأة العبرة في أنه قلب من تلك الحال الحقيرة في الصفة إلى هذه الحال الجليلة.