نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
ولما كان هذا الفعل مع هذا العلم سبباً لدخول جهنم من غير أن يقام لهم وزن،
لأنه لا وزن لما ضيع أساسه، قال معقباً مسبباً: { فادخلوا } أي أيها الكفرة { أبواب
جهنم } أي أبواب طبقاتها ودركاتها { خالدين } أي مقدرين الخلد { فيها } أي في جهنم
التي دأبها تجهم من دخلها.
ولما كان هذا المقام للمشاققة. وكان أمرها زائد القباحة. كان هذا الدخول أقبح
دخول، وكان سبباً لأن يقال: { فلبئس } بالأداة الجامعة لمجامع الذم { مثوى
المتكبرين * } على وجه التأكيد وبيان الوصف الذي استحقوا به ذلك، لتقدم كذبهم في
قولهم { ما كنا نعمل من سوء } تعريضاً بأنهم جديرون - لغاية ما لهم من البلادة - أن
يستحسنوا النار كما كذبوا مع العلم التام بأنه لا يروج في ذلك اليوم كذب.
ولما تم الخبر عن المنكر لما أنزل الله على ألسنة الملائكة من الروح من أمره على
الأنبياء عليهم السلام، إنكاراً لفضلهم وتكبراً بما ليس لهم، بالاعتراض على خالقهم،
ابتدأ الخبر عن المقرين تصديقاً لهداتهم واعترافاً بفضلهم وتسليماً لمن هم عبيده في
تفضيل من يشاء، منبهاً على الوصف الذي أوجب لهم الاعتراف بالحق، فقال حاذفاً لـ
"إذا" دلالة على الرضى بأيسر شيء من الخير والمدح عليه ولو لم يتكرر: { وقيل للذين
اتقوا } أي خافوا عقاب الله { ماذا } أي أي شيء { أنزل ربكم } أي المحسن إليكم من
روحه المحيي للأرواح، على رسوله { قالوا } معترفين بالإنزال، غير متوقفين في
المقال، فاهمين أن ذا مؤكدة للاستفهام لا بمعنى الذي: أنزل { خيراً } وإنما أطبق القراء
على نصب هذا ورفع الأول فرقاً بين جوابي المقر والجاحد بمطابقة المقر بين الجواب
والسؤال، وعدول الجاحد بجوابه عن السؤال؛ ثم أخذ يرغب بما لهم من حسن المآل
على وجه الجواب لسؤال من كأنه قال: ما لهم على ذلك؟ فقيل مظهراً موضع الإضمار
مدحاً لهم وتعميماً لمن اتصف بوصفهم: { للذين أحسنوا } فبين أن اعترافهم بذلك
إحسان؛ ثم أخبر عنه بقوله: { في هذه الدنيا حسنة } أي جزاء لهم على إحسانهم { { هل
جزاء الإحسان إلا الإحسان } [ الرحمن: 60].
ولما كانت هذه الدار سريعة الزوال، أخبر عن حالهم في الآخرة فقال: { ولدار
الآخرة خير } أي جزاء ومصيراً؛ ثم مدحها ومدحهم بقوله تعالى: { ولنعم دار
المتقين * } أي هي، مرغباً في الوصف الذي كان سبب حيازتهم لها، وهو الخوف
المنافي لما وصف به الأشرار من الاستكبار، بإظهاره موضع الإضمار وحذف
المخصوص بالمدح لتقدم ما يدل عليه، وهو صالح لتقدير الدنيا - أي لمن عمل فيها
بالتقوى - ولتقدير الآخرة، وهو واضح.
ولما كان هذا المدح مشوفاً لتفصيل ذلك قيل: { جنّات عدن } أي إقامة لا ظعن
فيها { يدخلونها } حال كونها { تجري من تحتها } أي من تحت غرفها { الأنهار } ثم
أجيب من كأنه سأل عما فيها من الثمار وغيرها بقوله تعالى: { لهم فيها } أي خاصة، لا
في شيء سواها من غير أن يجلب إليهم من غيرها { ما يشاؤون } ثم زاد في الترغيب
بقوله: { كذلك } أي مثل هذا الجزاء العظيم { يجزي الله } أي الذي له الكمال كله
{ المتقين * } أي الراسخين في صفة التقوى، ثم حث على ملازمة التقوى بالتنبيه على
أن العبرة بحال الموت، فقال تعالى: { الذين تتوفّاهم } أي تقبض أرواحهم وافية من
نقص شيء من الروح أو المعاني - بما أشار إليه إثبات التاءين والإظهار { الملائكة
طيبين } أي طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر متحلين بحلية الإيمان، فكأنه قيل: ماذا
تقول لهم الملائكة؟ فقيل: { يقولون } أي مكررين للتأكيد تسكيناً لما جبلوا عليه من
تعظيم جلال الله بالتقوى { سلام عليكم } ويقال لهم لتحقق فوزهم { ادخلوا الجنة } أي
دار التفكه التي لا مثل لها { بما كنتم } أي جبلة وطبعاً { تعملون * } ترغيباً لهم في
الأعمال التي لا يستطيعونها إلا برحمة الله لهم بتوفيقهم لها.