خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ ٱلأَمْثَالَ إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
٧٤
ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٧٥
وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٧٦
-النحل

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما دحض بهذه الحجة جميع ما أقاموه من الشبه وضربوه من الأمثال فيما ارتكبوه من قولهم إن الملك لا يتوصل إليه إلا بأعوان من حاجب ونائب ونحو ذلك، ولا يتوصل إليه إلا بأنواع القربان، فعبدوا الأصنام، وفعلوا لها ما يفعل له تشبيهاً به عز شأنه، وتعالى سلطانه، لأن الفرق أن ملوك الدنيا المقيس عليهم إنما أقاموا مَن ذكر لحاجتهم وضعف مُلكهم ومِلكهم، فحالهم مخالف لوصف من لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يشغله شأن عن شأن، وكل شيء في قبضته وتحت قهره وعظمته، فلذلك تسبب عنها قوله تعالى: { فلا تضربوا لله } أي الذي له الإحاطة الكاملة { الأمثال } أي فتشبهوه تشبيهاً بغيره وإن ضرب لكم هو الأمثال؛ قال أبو حيان وغيره: قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي لا تشبهوه بخلقه - انتهى. وهو - كما قال في الكشاف - تمثيل للإشراك بالله والتشبيه به، لأن من يضرب الأمثال مشبه حالاً بحال وقصة بقصة - انتهى. وهذا النهي عام في كل مثل لخطر الأمر خشية أن يكون ذلك المثل غير لائق بمقداره، وقد تقرر أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، لا سيما في هذا لأن الخطأ فيه كفر، ويدل على ذلك تعليل الحكم بقوله تعالى: { إن الله } أي الذي له الأمر كله ولا أمر لغيره { يعلم } أي له جميع صفة العلم، فإذا ضرب مثلاً أتقنه بإحاطة علمه بحيث لا يقدر غيره أن يبدي فرقاً ما بين الممثل والممثل به في الأمر الممثل له { وأنتم لا تعلمون * } أي ليس لكم علم أصلاً، فلذلك تعمون عن الشمس وتلبّس عليكم ما ليس فيه لبس، وهذا المقام عال ومسلكه وعر، وسالكه على غاية من الخطر.
ولما ختم سبحانه بذلك تأكيداً لإبطال مذهب عبدة الأصنام بسلب العلم الذي هو مناط السداد عنهم، حسن أن يصل به قوله - إقامة للدليل على علمه بأن أمثاله لا يتطرق إليها الطعن، ولا يتوجه نحوها الشكوك -: { ضرب الله } أي الذي له كمال العلم وتمام القدرة { مثلاً } بالأحرار والعبيد له ولما عبدتموه معه؛ ثم أبدل من مثلاً: { عبداً } ولما كان العبد يطلق على الحر بالنسبة إلى الله تعالى، قال تعالى: { مملوكاً } لا مكاتباً ولا فيه شائبة للحرية { لا يقدر على شيء } بإذن سيده ولا غيره، وهذا مثل شركائهم، ثم عطف على "عبداً" قوله: { ومن رزقناه منا } من الأحرار { رزقاً حسناً } واسعاً طيباً { فهو ينفق منه } دائماً، وهو معنى { سراً وجهراً } وهذا مثل الإله وله المثل الأعلى؛ ثم بكتهم إنكاراً عليهم بقوله تعالى: { هل يستوون } أي هذان الفريقان الممثل بهما، لأن المراد الجنس، فإذا كان لا يسوغ في عقل أن يسوي بين مخلوقين: أحدهما حر مقتدر والآخر مملوك عاجز، فكيف يسوي بين حجر موات أو غيره وبين الله الذي له القدرة التامة على كل شيء؟
ولما كان الجواب قطعاً: لا، وعلم أن الفاضل ما كان مثالاً له سبحانه، على أن من سوى بينهما أو فعل ما يؤول إلى التسوية أجهل الجهلة. فثبت مضمون { إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون } وأن غيره تعالى لا يساوي شيئاً، فثبت بلا ريب أنه المختص بالمثل الأعلى، فعبر عن ذلك بقوله تعالى: { الحمد لله } أي له الإحاطة بالعلم وجميع صفات الكمال التي منها اختصاصه بالشكر، لكونه هو المنعم وليس لغيره إحاطة بشيء من ذلك ولا غيره، فكأنهم قالوا: نحن نعلم ذلك، فقيل: { بل أكثرهم } أي في الظاهر والباطن - بما أشار إليه الإضمار { لا يعلمون * } لكونهم يسوون به غيره، ومن نفى عنه العلم - الذي هو أعلى صفات الكمال - كان في عداد الأنعام، فهم لذلك يشبهون به ما ذكر، ويضربون الأمثال الباطلة، ويضيفون نعمه إلى ما لا يعد، ولعله أتى بضمير الغيبة لقصر ذلك على من ختم بموته على الضلال، أو يقال وهو أرشق: لما كان الجواب قطعاً: لا يستووت والفاضل مثالك، فقد علم كل ذي لب أن لك المثل الأعلى، فترجم عن وصفه بقوله "الحمد لله" أي الإحاطة بصفات الكمال للملك الأعظم، وعن نسبتهم إلى علم ذلك بقوله تعالى { بل أكثرهم لا يعلمون } أي ليس لهم علم بشيء أصلاً، لأنهم يعملون في هذا بالجهل، فنسبتهم إلى الغباوة أحسن في حقهم من نسسبتهم إلى الضلال على علم، وسيأتي في سورة لقمان إن شاء الله تعالى ما يكون نافعاً في هذا المقام، وإنما فسرت الحمد بما تقدم لأنه قد مضى في سورة الفاتحة أن مادة "حمد" تدور على بلوغ الغاية، ويلزم منه الاتساع والإحاطة والاستدارة، فيلزمها مطأطأة الرأس وقد يلزم الغاية الرضى فيلزمه الشكر، وبيانه أن الحمد بمعنى الرضا والشكر لأنهما يكونان غالباً من غاية الإحسان، ويرجع إلى ذلك الحمد بمعنى الجزاء وقضاء الحق، وحماداك - بالضم، أي غايتك، ويوم محتمد: شديد الحر، وحمد النار - محركة: صوت التهابها، وأما يتحمد عليّ - بمعنى يمتن - فأصله: يذكر ما يلزم منه حمده، ومنه المدح: وهو حسن الثناء، وتمدح بمعنى تكلف أن يمدح وافتخر وتشبع بما ليس عنده، فإنه في كل ذلك بذل جهده، ودحمه - كمنع: دفعه شديداً، والمرأة: نكحها - لما في ذلك من بلوغ الغاية في الشهوة وما يلزمها من الدفع ونحوه، والدحم - بالكسر: الأصل - لأنه غاية الشيء الذي ينتهي إليه، وحدم النار - ويحرك: شدة احتراقها وحميها، واحتدم الدم: اشتدت حمرته حتى يسود، والحدمة - محركة: النار - لأنها غاية الحر، والحدمة أيضاً: صوتها - لدلالته على قوة التهابها، ومن ذلك الحدمة أيضاً لصوت جوف الحية، أو صوت في الجوف كأنه تغيظ - لأنه يدل على غاية التهاب الباطن، والحدمة - كفرحة: السريعة الغلي من القدور؛ ومن الاتساع: تمدحت الأرض أي اتسعت؛ ومن الاستدارة: الداحوم لحبالة الثعلب - لأنها بلغت الغاية من مراد الصائد، ولأنه لما لم يقدر على الخلاص منها كانت كأنها قد أحاطت به، والدمحمح: المستدير الململم، ودمح تدميحاً: طأطأ رأسه - لأن الانعطاف مبدأ الاستدارة - والله سبحانه وتعالى الموفق.
ولما انقضى هذا المثل كافياً في المراد، ملزماً لهم لاعترافهم بأن الأصنام عبيد الله في قولهم "لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، وكان ربما كابر مكابر فقال: إنهم ليسوا ملكاً له، أتبعه مثلاً آخر لا تمكن المكابرة فيه، فقال تعالى: { وضرب الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة أيضاً { مثلاً } ثم أبدل منه { رجلين } ثم استأنف البيان لما أجمل فقال تعالى: { أحدهما أبكم } أي ولد أخرس؛ ثم ترجم بكمته التي أريد بها أنه لا يَفهم ولا يُفهِم بقوله: { لا يقدر على شيء } أي أصلاً { وهو كل } أي ثقل وعيال، والأصل فيه الغلظ الذي يمنع من النفوذ، كلت السكين كلولاً - إذا غلظت شفرتها فلم تقطع، وكل لسانه - إذا لم ينبعث في القول، لغلظه وذهاب حده - قاله الرماني { على مولاه } الذي يلي أمره؛ ثم بين ذلك بقوله تعالى: { أينما يوجهه } أي يرسله ويصرفه ذلك المولى { لا يأت بخير } وهذا مثل شركائهم الذين هم عيال ووبال على عبدتهم.
ولما انكشف ضلالهم في تسويتهم الأنداد - الذين لا قدرة لهم على شيء ما - بالله الذي له الإحاطة بكل شيء قدرة وعلماً، حسن كل الحسن توبيخهم والإنكار عليهم بقوله تعالى: { هل يستوي هو } أي هذا المذكور { ومن } أي ورجل آخر على ضد صفته، فهو عالم فطن قوي خبير مبارك الأمر ميمون النقيبة { يأمر } بما له من العلم والقدرة { بالعدل } أي ببذل النصيحة لغيره { وهو } في نفسه ظاهراً وباطناً { على صراط } أي طريق واضح واسع { مستقيم } أي عامل بما يأمر به، وهذا مثال للمعبود بالحق الذي يكفي عابده جميع المؤن، وهو دال على كمال علمه وتمام قدرته.