خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً
٤١
قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً
٤٢
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً
٤٣
تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً
٤٤
-الإسراء

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان في هذا من البيان ما لا يخفى على الإنسان ولم يرجعوا، أشار إلى أن لهم أمثال هذا الإعراض عن أمثال هذا البيان فقال تعالى: { ولقد صرفنا } أي طرقنا تطريقاً عظيماً بأنواع طرق البيان من العبر والحكم، والأمثال والأحكام، والحجج والأعلام، في قوالب الوعد والوعيد، والأمر والنهي، والمحكم والمتشابه - إلى غير ذلك { في هذا القرءان } من هذه الطرق ما لا غبار عليه، ونوعناه من جهة إلى جهة، ومن مثال إلى مثال؛ والتصريف لغة: صرف الشيء من جهة إلى أخرى، ثم صار كناية عن التبيين - قاله أبو حيان.
ولما كان ذلك مركوزاً في الطباع، وله في العقول أمثال تبرز عرائسها من خدورها بأدنى التفات من النفس، سمي الوعظ بها تذكيراً بما هو معلوم فقال تعالى: { ليذكروا } أي نوعاً من التذكير - بما أشار إليه الإدغام، فإنه سبحانه كريم يرضى باليسير - هذا في قراءة الجماعة، وقرأ حمزة والكسائي بإسكان الذال وضم الكاف إشارة إلى أن جميع ما في القرآن لا يخرج شيء منه عن العقل، بل هو مركوز في الطباع، وله شواهد في الأنفس والآفاق، يستحضرها الإنسان بأدنى إشارة وأيسر تنبيه، إذا أزيل عنها ما سترها عن العقل من الحظوظ والشواغل، وأتبعه قوله تعالى معجباً منهم: { وما يزيدهم } التصريف { إلا نفوراً * } عن السماع فضلاً عن التذكير، لاعتقادهم أن ذلك ليس ببراهين، بل هو شبه وخيل إلى صرفهم عما هم فيه مما ألفوه وتلقوه عن آبائهم وتمادت عليهم الدهور في اعتقاد كونه حقاً، فكأنه قيل: فما يفعل بهم؟ فقال تعالى: { قل } لهم ولا تيأس من رجوع بعضهم: { لو كان معه } أي ربكم الذي تقدم وصفه بالإحسان والتنزيه { ءالهة كما يقولون } من هذه الأقوال التي لو قالها أعظمكم في حق أدناكم وهو يريد بها حقيقتها لصار ضحكة للعباد { إذاً لابتغوا } أي طلبوا طلباً عظيماً { إلى ذي العرش } أي صاحب السرير الأعظم المحيط الذي من ناله كان منفرداً بالتدبير { سبيلاً * } أي طريقاً سالكاً يتوصلون به إليه ليقهروه ويزيلوا ملكه كما ترون من فعل ملوك الدنيا بعضهم مع بعض، أو ليتخذوا عنده يداً تقربهم إليه، وصرح بالعرش تصويراً لعظمته وتعييناً للمبتغي والمبتغى؛ ثم نزه نفسه تعظيماً عن ذلك وعن كل نقص فقال تعالى: { سبحانه } أي تنزه التنزه الأعظم عن كل شائبة نقص { وتعالى } أي علا أعظم العلو بصفات الكمال { عما يقولون } من هذه النقائض التي لا يرضاها لنفسه أحد من عقلاء خلقه فضلاً عن رئيس من رؤسائكم، فكيف بالعلي الأعلى‍! وأتى بالمصدر المجرد في قوله تعالى: { علواً } إيذاناً بأن الفعل مجرد في الحقيقة وإن أتى به على صيغة التفاعل إيذاناً بالمبالغة { كبيراً * } لا تحتمل عقولكم الوقوف على حقيقته ولا تدركون منه أكثر من مفهوم هذا الوصف عندكم بحسب ما تتعارفونه:

والأمر أعظم من مقالة قائل إن رقق البلغاء أو إن فخموا

ثم استأنف بيان عظمة هذا التنزيه مقروناً بالوصف بالكمال فقال تعالى: { تسبح } أي توقع التنزيه الأعظم { له } أي الإله الأعظم الذي تقدم وصفه بالجلال والإكرام خاصة { السماوات السبع } كلها { والأرض } أيضاً { ومن فيهن } من ذوي العقول { وإن } أي وما، وأعرق في النفي فقال تعالى: { من شيء } أي ذي عقل وغيره { إلا يسبح } أي ينزه له متلبساً { بحمده } أي بوصفه بما له من صفات الكمال بما له تعالى في ذلك الشيء من الآيات الدالة على كل من السلب والإيجاب، وهذا تسبيح بلسان المقال ممن يصح منه، وبلسان الحال منه ومن غيره، كما قال الجدار للوتد: لم تشقني؟ فقال: سل من يدقني. وهو تسبيح من جهات شتى ليسمعها العارفون بسمع الفهم وصفاء الذهن من جهة ذاتها في خلقها ثم في معنى صفتها بحاجتها من جهة حدوثها إلى صانع أحدثها قديم غير مصنوع، ومن جهة إتقانها إلى كونه مدبراً حكيماً، ومن جهة فنائها إلى كونه مع ذلك قادراً مختاراً، قاهراً جباراً - إلى غير ذلك، بخلاف ما لو قصر التسبيح على لسان المقال فإنه يكون من نوع واحد، وأوضح مرشداً إلى ذلك قوله تعالى: { ولكن لا تفقهون } دون "تسمعون" { تسبيحهم } لإعراضكم عن النظر ونفوركم عن سماع الذكر الذي هو أعظم أسبابه، على أن هذا إنما هو بالنسبة لعامة الخلق، وأما الخاصة فإنهم يسمعون تسبيح الجمادات؛ روى البخاري "عن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفاً، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سفر فقل الماء فقال: اطلبوا فضلة من ماء، فجاؤوا بإناء فيه ماء قليل: فأدخل يده في الإناء وقال: حيّ على الطهور المبارك والبركة من الله، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وشرف وكرم وبجل وعظم - ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل." وتسبيح الحصى مشهور، وفي زبور داود عليه السلام تكرير كثير لهذه الآية وحث على تأملها، قال في المزمور الثامن والستين: تسبح له السماوات والأرض والبحار وكل ما يدب فيها. وفي المزمور الخامس والثمانين: فليس مثلك يا ربي وإلهي ولا مثل أعمالك، لأن جميع الأمم الذين خلقت يأتون ويسجدون أمامك يا رب ويسبحون لاسمك، لأنك عظيم صانع الآيات. وفي الثامن والثمانين: بذراعك العزيزة فرقت أعداءك، لك السماوات ولك الأرض، أنت أسست الدنيا بكمالها، خلقت البر والبحر، تابور وحرمون باسمك يسبحان، لك القوة والجبروت، تعتز يدك، وتعلو يمينك، بالعدل والحكم أتقنت كرسيك، الرحمة والعدل ينطلقان أمامك، طوبى للشعب الذي يعرف تسبيحك. وفي الخامس والتسعين: سبحوا الرب تسبيحاً جديداً، الأرض كلها تسبح الرب، اسجدوا للرب في هياكل قدسه لأن جميع الأرض تتزلزل بين يديه، قولوا في الشعوب: إن الله هو الملك أتقن الدنيا لكيلا تزول، يقضي بين الشعوب بالعدل، تفرح السماوات وتبتهج الأرض، ينقلب البحر في عمقه، تتهلل البقاع وما فيها، هنالك يسبح جميع شجر الغياض قدام الرب. وفي السابع والتسعين: ولله تسبح كل الأرض، مجدوا وهللوا وسبحوا الرب. وفي الثامن والأربعين بعد المائة: سبحوا الرب من السماوات، سبحوه من العلى يا جميع ملائكته! وكل جنوده تسبحه، الشمس والقمر يسبحانه، وجميع الكواكب والنور تسبحه، يسبح الرب سماء الدنيا والمياه التي فوق السماوات، تسبح جميعاً اسم الرب لأنه قال فكانوا، وأمر فخلقوا، وأقامهم إلى الأبد والدهر، جعل لها مقدراً لا تتجاوزه، يسبح الرب من في الأرض: التنانين وجميع الأعماق، النار والبرد والثلج والجليد والريح العاصفة عملت كلمته، الجبال وكل الآكام، الشجر المثمرة وجميع الأرز، السباع وكل البهائم والوحوش وكل حيوان وكل طائر ذي جناح، ملوك الأرض وسائر الشعوب العظماء وجميع حكام الأرض، الشبان والعذارى والشيوخ والصبيان يسبحون اسم الرب، لأن اسمه قد تعالى وحده. وفي الخمسين بعد المائة: سبحوا الله في كل قديسيه، سبحوه في جلد قوته، سبحوه كمثل جبروته، سبحوه بكثرة عظمته، سبحوه بصوت القرن، وسبحوه بأصوات عالية، كل نسمة تسبح الرب.
ولما كان تسبيح جميع المخلوقات أمراً واضح الفهم ظاهر الشأن، فكانوا مستحقين للعقاب في عدم فهمه بعدم التأمل في المصنوعات حق التأمل، نبههم على أن عافيتهم إنما هي لحلمه عنهم، فهو ينظرهم إلى المدة التي ضربها لهم لأنه لا يعجل لتنزهه عن شوائب النقص الذي نطق كل شيء بتنزيهه عنها فقال تعالى: { إنه كان حليماً } حيث لا يعاجلكم بالعقوبة على إعراضكم عن صرف الأفكار فيما أمركم بصرفها إليه.
ولما كان الغالب على أحوال البشر أن حليمهم إذا غضب لا يغفر، وإن عفا كان عفوه مكدراً، قال تعالى: { غفوراً * } مشيراً بصيغة المبالغة إلى أنه على غير ذلك ترغيباً في التوبة.